2011-05-19

بأي يد أكتب يا أمي؟

إعداد وتقديم

بأي يد أكتب يا أمي؟ اليد التي كنت أكتب بها اقتلعوا أجزاء من أصابعها، والأصابع يا أمي، لاتعار ولا ترد، كما الأقلام! ليت أحداً يا أمي يردُّ لي ما اقتلعوا من أصابعي، وأعيره كلَّ أقلامي…

لا أعلم ماذا قال الولد لأمه عندما اقتلعوا أصابعه، لا أدري، ربما أكون أعتدي عليه في السماح لنفسي أن أتخيل حواراً دار بينه وبين أمه بعدما عاد إليها بيد ناقصة، وألم فائض، ودموع كثيرة تستقبل هذا الجسد الطري.

ماذا يمكن ان يُكتب بعد؟ ماذا يمكن ان نكتب، بعد ان اقتلعوا اصابع اطفال كتبوا على الجدار ما كتبوا، ربما كتبوا أنهم غير سعداء في هذا العالم، أو في هذا الزمن الجائر، كلام يردده الكبار عن جَوْر الحكّام كتبه الصغار على جدار... ماذا يمكن ان نكتب أيها الحِبْر؟ ايها القلم، يا يد!! من اين يبدأ الكلام؟ من أي هامش؟ اذا كان المتن لا ابيض فيه. لعلني اذا استعنت بهذا المطلع من نص للطاهر لبيب في استنباط معنى من النارالتي أكلت جسد البوعزيزي الشاب، الذي أحرق نفسه احتجاجاً على الظلم، قد أجد معنى ان أكتب عن يد عادت ناقصة إلى أقلامها! يقول الطاهر: «إلهي، إذا كان في سابق علمك ان يوجد الجحيم، فعَظِّمْ خَلْقي فيه حتى لا يَسَعَ معي غيري. قال البسطامي فيضَ مناجاة فاستجاب البوعزيزي فعلَ معاناة. ما شيَّعَ الصوفيُّ نحو السماء ردَّه البوعزيزي إلى الأرض. لم يقبل التأجيلَ إلى يوم القيامة. كان يعلم علم المعيش، ان الجحيم في الأرض، غطاه بجسده، احترق، فأخمد النار بالنار، كان هذا مُضْمَرَ فعله، لا جحيم أزلياً».

لا أدري ما الذي جرَّني الى هذا النص، ولا أدري إلى أين أصل، انما الواضح أمامي انني ابحث عن معنى، فعداني الطاهر لبيب بلغته، وكأن مفردات اللغة ينادي بعضها بعضاً، كما الطير في الشجر، لتتلقح. أو أنه اصابني بلهب ما، فاحترق العقل شوقاً للتحليق عالياً، أبعد من السموات وأقرب إلى الأرض، لملامسة رماد جسد، أو قطرة دم تيبست على رصيف سقطت من إصبع ولد ما، توقَّع أن التأنيب على ما كتبه يكون باقتلاع أجزاء من الأصابع، لأن هذا لم يحدث، ولم يَرِدْ مرة في تاريخ التأنيب المدرسي، حسب علمه، والولد ما كان يعلم ان هناك مدرسة أخرى تخرِّج نوعاً من صنف البشر لهذه الغايات الهمجية، يظنون ان الكلام يمحوه ويبطل مفاعيله بترالأصابع.

ما قرأته، وما سمعته، وما شاهدته كأنه شيء وقع في اللغة نفسِها فبعثرها وبدَّدها، لشدة ما كان كان صاعقاً وقوياً. تخيلْ فقط، نقطةَ دم نزفت مما تبقى من إصبعِ ولدٍ كَتب على الجدار شيئاً لم يعنه مباشرة، وظن ان هذا يأتي في باب اللعب، او هو شغب طفيف لا عقاب عليه، وبالتالي لم يكن بمقدور الصبي الإدراك أن الزمن الذي يعيش فيه ترقَّتْ فيه الهمجية لتعاقب الأطفال!! هذا لم يكن في علمه، ولم يكن في سابق علمه أيضاً ان أصابعه التي اقتُلعت أجزاءُ منها ستبدأ، بما تبقى فيها، بكتابة التاريخ!

تلك الصورة في قسوتها المريعة، تشبه إلى حد ما هذا الشيء الغامض الذي وقع في وعاء اللغة، فتشظت ولم يعد هناك من كلام، لم يعد هناك من مخزون كاف لوصف ذلك الذي حدث، لوصف رجل أحرق جسده لأن جحيم الارض يحتاج إلى حريق مضاد لإطفائه، أو لوصف يد تتهجى الأصابع لتعيد اليها القلم، لوصف طفل عاد إلى أمه من دون اصابع، وليس من دون أقلام...

صديقي عمر. ماذا اقول في هذا الربيع العربي؟

شيء وقع هنا وهناك، في اللغة وخارجها، لكأن له صدى في أودية البلاد، يستدعي للوهلة الأولى صراخاً جريحاً في ليل لا قمر فيه...

شيء يرسم ملامح، أو ظلالاً، وكان خروجاً عظيماً وهائلاً، تم باتجاه الضوء، ودفعة واحدة، بعد مكوث طويل في العتمة. وفي هذا الوهج، ظن الولد أنه إذا كتب على الجدار في هذا الخروج العظيم من العتمة والسكون والخوف، سيكافَأ بعلامات إضافية على درس الحساب ودرس القراءة، وليس له من العمر والتجربة ما يخوله القراءة في أحوال الحكام، وفي أمزجتهم وهم على حافة الهاوية، يمارسون كل شيء ما عدا الحكم بالعدل، ولو قليل، وتتفنن عصاباتهم في القتل والتنكيل... هو خرج في التوهج، في الربيع، كما فعل الكبار، ولو بحذر، وظن ان الورد كثير، وإنْ كان شوكُه دامياً، وما حسب ان العودة إلى البيت ستكون بأصابع ناقصة وبألم كثير.

ولعل البوعزيزي على الضفة المقابلة، حين خرج بجسده وأحرقه تحت قبة السماء، أراد ان يبعث برسالة الى الله أيضاً، وليس الى الحكام فقط، وربما إلى ما تبقى في اللغة، ليشحنها بغير معنى، وهذا أيضاً مضمرُ فعْلِه، لكنه ما ظنَّ، او توقع ان هناك متحدثاً سيفتي في تفسير قدومه على إحراق نفسه أنه حرام، ثم يسرع هذا المتحدث في الوقت نفسِه لاستثمار نتائج هذا الحرام، بالتحاقه بالثورة التي اشعلتها نار جسد البوعزيزي، اي «الفعل الحرام»، فراح يؤم المصلين في ساحات الحرية، التي ما كانت لتتسع لأحد لولا احتجاجه المطلق على الجحيم الأرضي! فكان البوعزيزي بإحراق نفسه، يطفئ النار بالنار، ومن دون سابق علمه، كما وجد الطاهر لبيب في تفسيره لذلك، اما الولد الذي اقتُلعت أجزاءُ من اصابعه بعد ان كتب على الجدار كلاماً ضد الحاكم، فسيشير - ولو بعد حين - بيده الناقصة إلى لغتنا الناقصة! أو أنه اشار وما انتبه أحد منا...

لا أظن أن هذا الولد ولا ذاك الشاب، يعلمان ان على هذا الكوكب كائنات لديها استثناء في القدرة على مزاولة العيش بهناءة وطمأنينة بعد أن تفتي بالحرام وتأكله، وتقطع اصابع الأطفال باعتبارها أصابع متآمرة!! هذه الهمجية ارتُكبت مراراً، ولكن في حق الكبار، مِن كتّاب وصحافيين ورجال فكر، وهم كثر، وتفننوا في تقطيع اطرافهم، ولكن ان تمارَس هذه الهمجية على ولد كتب اللعب على جدار عربي في ربيع عربي، فلا أعرف ما إذا كان كافياً ان نسمي هذا بـ «العار والهمجية»، أو أن شيئاً ما يتخطى هذا الكلام يجب ان يتألف...

أما العار، أو الذي يمكن ان نضعه في خانة العار، فهو ذلك الحِبر الغزير الذي يُهدر لتبرير هدر الدماء، ولوصف ما يحدث في هذه البلاد بأنه «مؤامرة».

وأما تلك الإطلالات على شاشات التلفزة لتزوير الواقع، فتستدعي الإشفاق أكثر من سواه، كيف لهذه الرؤوس ان تضع عقولها في التصرف أو في إجازات طويلة الأمد...

لا أدري إذا كان هؤلاء قرأوا أصابع الولد حين كانت تتهجأ الحروف الأولى لاسم البلاد، لا أدري إذا كانوا شاهدوا يداً اقتُلعت أجزاءُ من أصابعها وظلوا قادرين على حمل القلم والكتابة في وصف ما يحدث بالـ «مؤامرة»، او إذا كان ذلك المتحدث باسم الله يعلم أنه إذا سرق الثورة أو ركبها فهو كالذي يأكل مالاً حراماً، وهذا - وفق قاموسه وفتواه - باعتباره فعل البوعزيزي فعل حرام...

صديقي عمر أميرلاي.

هو الربيع العربي، إنما لا احد يعلم كم سيطول ليكتنز الزهر ويثمر، لإنه كما تعلم، هناك اختصاصيون في تقطيع الشجر وتجفيف المياه عن النبت. هذا الربيع ورده كثير، وشوكه نبال تُدْمِي، وهذا في الترميز، أما في الواقع، فهناك شراسة في القتل على هذه الجغرافيا العربية، التي تحكمها عقول عصابات هي في تماديها وشراستها لا توصف، وكأنها تظن أنها تؤبِّد نفسَها حين تباشر من دون تردد، قتْل كل من يحتج على تماديها في الفساد والاستبداد، فتراها تطارد الناس حتى غرف نومهم، ومن لا يُقتل يُساق الى أقبية التعذيب...

ماذا يمكن أن نكتب يا عمر، بعد ان اقتلعوا اصابع أطفال كتبوا على الجدار أنهم غير سعداء بحاكم جائر...؟

ماذا يمكن أن يَكتب الحبر، إذا لم تصبح اللغة في فعلها، أحياناً، متوهجةً كما النار التي أطفات الجحيم الأرضية في فعل البوعزيزي؟ أو إذا لم تلامس تلك الأصابع الطرية، التي تحتاج لألف ربيع عربي كي ينبت وردها؟ ماذا يمكن ان نكتب اذا لم نخلِّص اللغة نفسَها من الاستبداد التراثي والغيبي، الذي يتكاثر المتحدثون به، يجرِّدون الأفعال من معانيها الإنسانية، ويطلقون اللصوص الذين يختبئون تحت عباءتهم للسطو على انجازات العقل.

ماذا يمكن ان نكتب أيها الحبر؟

بأي يد أكتب دروسي يا أمي؟ عاد الولد وسأل أمه، وحين هَمَّ إلى القلم سقطت قطرة دم من سبابته التي بترت، على هذه الصفحة من التاريخ العربي. 

2011-05-02

روافد مع الفنان يوسف عبدلكي

إعداد وتقديم

أحمد علي الزين: في باريس وفي كل مرة تأتيها زائراً أو مقيماً ولو لحين تعثر على مدينة ساحرة وعلى صديق، وقد تشتاق إليها وأنت ما زلت جالساً على كرسيك في مقهى الرصيف تنتظر أحداً وتتأمل تسكعات العابرين وغياباتهم نحو الغموض، وإن كنت مشّاءً تتورط أكثر في عشق هذه المدينة، فهي منبسطة أمامك تدعوك للتعرف على تاريخها وإبداعاتها، على معالمها، وهي بحد ذاتها بكلها معلم كوني، لكنه متعدد في وحدته كتعدد أهل المدينة وساكنيها في التنوع والمصادر، تدعوك لتناول فنجان قهوة في مقهى من مقاهي ساحاتها قبل أن تتوجه لساحة الباستين مثلاً حيث ينتظرك صديق يقيم في هذه المدينة منذ ربع قرن، وقد اعتاد أن يتناول قهوة الصباح قبالة النصب التاريخي الذي يذكره بسجون بلاده والذي يذكر الباريسيين بإنجازاتهم التاريخية أو أنهم اعتادوا على كونه نصب للحرية، لكنه بالنسبة له قد يذكره بوالده أيضاً وببلاده التي أقام لحريتها أنصاباً عديدة إنما على طريقته ويحبها على طريقته ويؤلفها أيضاً على طريقته، فهي المقيمة فيه عابراً لربع قرن في مدينة أخرى تكاد لم تحتويه رغم كل عمقها التاريخي واتساعها الإنساني، هو يوسف عبدلكي.

أحمد علي الزين: طبعاً أنت انقطعت عن دمشق مدة 25 سنة وفي أيار هذا العام 2005 عدت إلى دمشق بجواز سفرك طبعاً واحتفلت.. خلينا قول من احتفل بك بدمشق؟ ما بدي قول احتفلت بك دمشق، من الذين احتفلوا بك؟ واستقبلوا يوسف عبدلكي؟

يوسف عبدلكي: يعني احتفل فيني إذا جاز الكلام أصدقائي وأهلي ورفاقي السياسيين والمعتقلين السياسيين السابقين وناس كثير من جيل جديد أنا ما بعرفه الحقيقة بس يعرفوا بشكل أو بآخر شغلي، فبالتالي يعني هيك شريحة بشكل أو بآخر يعني متنوعة.

أحمد علي الزين: زرت القامشلي؟

يوسف عبدلكي: ما زرت القامشلي ولا أنوي أن أزورها.

أحمد علي الزين: ما ناوي تزورها، ما فيه حنين نحو هذا المكان اللي خلقت فيه؟

يوسف عبدلكي: في حنين أكيد قطعة..

أحمد علي الزين: شو السبب أنك ما بدك تزورها؟

يوسف عبدلكي: أحس أن القامشلي..

أحمد علي الزين: لم تعد كما كانت..

يوسف عبدلكي: لم تعد القامشلي، ففي بذهني صورة في منتهى الجمال عنها لا أريد تدمير هذه الصورة، أخاف أخشى.

أحمد علي الزين: حلو كثير، طيب وعندما ذهبت إلى دمشق في الفترة الأخيرة في أيار الماضي تعرضت لنوع من المضايقات؟

يوسف عبدلكي: بالحقيقة على خلاف.. أحمد علي الزين [ضاحكاً]: لاحظ إني عم أسأل مثل المحقق صرت؟ يوسف عبدلكي [ضاحكاً]: أنت لبناني كمان أخذت شوي منا خلال 26 سنة يعني، نسيت السؤال والله.

أحمد علي الزين: عم أسأل أنه أو ما بدك تجاوب، عم أسأل هل تعرضت لنوع من المضايقات أو طُرحت عليك أسئلة من قريب أو من بعيد بشكل أو بآخر؟

يوسف عبدلكي: بالحقيقة على خلاف المتوقع لم أُسأل في دخولي إلى دمشق من قبل أي جهاز أمني ولا في خروجي ولا أثناء إقامتي، وبالتالي كنت بشكل أو بآخر حُر في أن أتصرف وأقول ما أشاء لأنه بالحقيقة هذا مكان أتمناه وأسعى له أن أخرج كمواطن عادي وأقول كلامي بشكل عادي كما أؤمن فيه وكما أقتنع به.

أحمد علي الزين: بس هذا شيء إيجابي يعني؟

يوسف عبدلكي: هذا حصل وهذا شيء إيجابي، واللي لاحظته بالحقيقة واللي ربما أنا شجعني كثير على الكلام الواضح السياسي النقدي في دمشق أن الجو السياسي عند الناس اللي يشتغلوا في النطاق السياسي أو في النطاق الثقافي جو منفتح، هنيك فيه مساحة حرية منتزعينها، الناس يشتغلوا سياسة يشتغلوا ثقافة بسوريا، كاسرين تماماً جدار الخوف، ما فيه يُهاب السياسي اليوم في سوريا عند هالفئتين هذا واحد، الشيء الثاني: هنيك فيه مسافة كبيرة كثير بين ما يقوله ويصرح فيه السياسيون والمثقفون السوريون في حياته العامة أو في وسائل الإعلام وما يعيشه المواطن أو ما يلتزم فيه المواطن حتى الآن، لذلك قناعات الناس لما أنت تقعد معهن قناعتهم لا تختلف عن قناعاتك في حدتها ووضوحها.

أحمد علي الزين: بس لا يتجرؤون الحديث عنها..

يوسف عبدلكي: لكن تعبيراً عن ذلك وأمر آخر هو خطوة أخرى لا بد منها أعتقد حتى يحدث أي تغيير إيجابي في بلدنا.

أحمد علي الزين: خلف تلك الأشياء الصامتة ثمة صرخات، هذه الأشياء الهامشية ذات الطبيعة المحايدة الميتة كما تبدو ثمة حياة وذاكرة وخلف هذا الأسود والرمادي شكوك العقل في رحلة بحثه عن جوهر هذه الأشياء، لا يوجد بذخ ولا يوجد استعراض، فهناك نوع من التحدي بالغ الدقة أمام المساحة السوداء والتي كانت للتوّ مساحة بيضاء قبل أن تعالج بكيمياء الفحم، تبدو هينة وسهلة حين تشاهدها بعين نظارة نمطية ولكن حين تتأملها تتأمل آنية أو وردة مثلاً قد تعثر على شيء آخر رغم وضوح المشهد، قد ترى تجسيداً للعزلة أو للوحشة أو هي أطلال تذكّر بعبور ما، أو هي حياة أخرى لحياة كانت بقايا حياة، وهذا لا يرمي إليه إلا من به شغف الكشف عن جوهر الأشياء، ويوسف عبدلكي يبدو مصاباً بشقاء وعيه، فالذي يبدو مهملاً ومتروكاً لا فائدة منه ولا نفع ولا رجاء هو صيغة من صيغ الحياة، هو صيغة حياة أو معادلة من معادلة هذا الوجود الذي يبدع ويفني نفسه ويترك ترميزات للحادثات لكأنه.. لكأن يوسف يرسم أشياء عربون محبة لهذه الحياة.

أحمد علي الزين: بداية من يدخل إلى محترف يوسف عبدلكي يشعر كأنه دخل مهجع.. هاون لتجميع الأواني والأنتيكا وما إلى ذلك من هذه العناصر الصامتة، هل هي نوع من التعبير ربما عن شعور بالعزلة؟

يوسف عبدلكي: أعتقد أن الرسام عندما يعمل على موضوع فإنه لا يعمل على ما هو خارج الحياة، يعمل أيضاً على ما هو داخل بقدر ما يلمس شكل العناصر، بقدر ما يحاول أن يلمس شيء في داخله هو، بهذا المعنى بقدر ما تكون الأعمال التي اشتغل عليها تعيش في فراغ العزلة في اللوحة بقدر ما هي بالحقيقة بشكل أو بآخر تشكل انعكاساً لمجموعة ما أحسه في هذا البلد في فرنسا منذ ما يقارب ربع قرن، فما تتكلمه عن العزلة ليس بعيداً عن الحقيقة.

أحمد علي الزين: طيب بالنسبة للأسود والأبيض، طبعاً هذا السؤال طُرح عليك مراراً وربما أنت أيضاً طرحته مراراً على نفسك أكثر، اخترت الأسود والأبيض والتدرجات الرمادية للأسود طبعاً للتعبير، لماذا الأسود والأبيض فقط؟ هل لأننا قد ربما نسينا الألوان وتريدنا أن نتذكرها؟ أم أنت حاسم حتى في موقفك ورؤيتك للعالم بين الأسود والأبيض؟

يوسف عبدلكي: يعني أظن الأمر أسبق على مسألة التفكير والخيار، أظن الأمر يرجع في الأصل إلى أن الرسامين أو الفنانين الذين يتعاملون مع السطح إنما يتعاملون مع السطح بطريقتين: الطريقة الأولى هي: طريقة الملونين والذين يرون العالم من خلال تناقضات الألوان الحارة والألوان الباردة ويبنون اللوحة بلمسات الفرشاة الطرية، بينما الفئة الأخرى من المتعاملين مع السطح وهي فئة الغرافيكيين عموماً فإنهم يتعاملون مع تناقضات الأبيض والأسود وعلاقة الخط بالمساحة السوداء، وعادة ما تكون أدواتهم قاسية حادة في تلامسها مع السطح.

أحمد علي الزين: طيب هذا الأبيض والأسود من أين أتى؟

يوسف عبدلكي: يعني خلاف ما ذكرته وهو أعتقد الأساس أنا لا أرى أيضاً الأبيض والأسود باعتباره تلك الحدود الفاصمة والقاسمة بين إرجاعات تتعلق بالخير والشر إلى آخره، أرى أيضاً الأسود يتضمن كم غير محدود بحديقة من الألوان وكم غير محدود من المتعة والجمال البصري الممتع فعلاً، وبالتالي لا أنظر إلى الأبيض والأسود باعتباره خيار تراجيدي بحد ذاته، أنظر له باعتباره أداة ربما توصلني إلى خيارات تراجيدية في العمل.

أحمد علي الزين: يقول حسن سليمان الفنان المصري عن صديقه

يوسف عبدلكي: تحت وطأة ظروف وضغوط معينة سوّد عبدلكي هذه المساحات الكبيرة وليس باستطاعة أي رسام أن يسوّد مثل هذه المساحات العملاقة إلا بتعب وكد، فهي من الصعب تحقيقها فإن استطاعت هذه المساحات أن تحمل مضموناً يحتويك ويأخذ بتلابيبك بل قد يفزعك أحياناً يكون الرسام قد وضع إصبعه على الجرح، على جرح كل المنطقة التي كنا نظن أنها أصبحت ظلماء، أشكاله لا تمتّ إلى عالم الإنسان، وكأنه يقول لك: إنها عظامك أنت والحائط المسدود الذي أمامك هو الذي شلّك عن النفاذ منه، وكلما خضع عالمنا إلى تهديد كلما زاد عدد الكائنات الممسوخة حولنا مثل أسماك عبدلكي المتوحشة، إنها مخيفة فاغرة فاها على رغم أنها طفيلية وآنية وثنية قديمة، تضيع مع حائط مسدود كأنها تجبرك على العودة إلى الوثنية، تحال هذا العالم الذي عاد إلى عهوده القديمة الرجعية وحذاءٌ لا يصلح أن تلبسه امرأة لكنه يصلح لامرأة أسطورية تركته كي تشلّك إنه حذاء ميدوزا.

أحمد علي الزين: أيضاً أستاذ يوسف يلاحظ المتتبع لتجربتك أن هناك نوعاً من الألم الخفيّ في مراحل التجربة وفي اللوحات يعني، وهناك أيضاً نوع من العنف أحياناً في تناول الموضوعات القاسية يعني هيك وصعبة على العين، من أين جاء هذا الألم؟ هل هو نتيجة تطهر من الاستبداد الذي يعيشه مجتمعنا والذي عشته أنت أيضاً في السجون وعاشه الوالد؟

يوسف عبدلكي: أظن أننا نعيش في عالم معدومة فيه العدالة إلى درجة لا يمكن أن تخفي نفسها عن أحد.

أحمد علي الزين: لا توصف أيضاً.

يوسف عبدلكي: لا تُوصف، ولا أظن أن هناك أي إنسان مواطن فنان حساس إلى آخره إلا ويتحسس ذلك في حياته اليومية، يعني إذا واحد نظر إلى التجربة التراجيدية للشعب الفلسطيني أو الشعب العراقي بالسنوات الأخيرة يعني هناك مما يحرض طاقة الاحتجاج على الألم وطاقة الاحتجاج على ما يحدث لكثير من شعوب الأرض.

أحمد علي الزين: القليل يقارب حيرة الرسام الواقف أمام المساحة البيضاء، فهذه ليست فراغاً للإملاء، إنها فضاء من القلق، فضاء تتصارع عليه المعارف المحفوظة والاقتراحات غير الأكيدة، يمشي الرسام في الأمان عندما يحفظ نفسه يجترح الحلول التي سبق واختبرها، ويعطي النتائج التي يأملها وتُؤمل منه، لكنه عندما يصبح حرفياً بامتياز مطلقاً رصاصة الرحمة على الفنان الذي فيه.[فاصل إعلاني]

أحمد علي الزين: قبل أن يصل يوسف عبدلكي إلى مرحلة الاختزالات والتقشف في تناول الموضوعات ذات الطبيعة الساخنة الصامتة والبحث عن معنى لتلك الأشياء المستوحدة السابحة في فراغاتها الموحشة والمكشوفة عارية في عراء كامل، قبل ذلك كان قد عبّر بطريقة صاخبة وساخرة وساخطة ومنذ أواسط السبعينات عن موقفه تجاه مجتمع يعيش تحت رحى الاستبداد والظلم، فذهب إلى مسخ وتشويه شخصيات، شخصيات صاحبة نفوذ مستبدة تمارس النفاق وتبني سلطتها وأمجادها الزائفة على مفارقة إذلال الآخرين، فتلك التشويهات التي اتبعها يوسف عبدلكي لشخصيات سلطوية هي ناتجة عن وعيه الشقي وعن إحساسه العميق بالمرارة والاضطهاد، فجاءت تلك اللوحات التي استخدم بها الحفر تعبيراً عن حس نقدي نافذ مدفوع بالمرارة والقهر، فرأى تلك الوجوه والقامات مشوهة وممسوخة خالية من الرحمة ومن إنسانيتها، رآها كما هي من الداخل، الداخل المركب من ادعاءات وزيف وشهوات مرضية وهي في نهاية الأمر تبدو خرقاء بامتياز وهشة استخدمت صلابتها المؤقتة من موقعها ومن العزف وسحق الآخرين.

يوسف عبدلكي: مجموعة الأشخاص التي اشتغلت عليها بالفترة الواقعة بين 1989 إلى 1995 أظن أنها بشكل أو بآخر يمكن أنا أقول أنها تصفية حساب مع فترة السجن، أنا اعتقلت سنتين وخلال سنتين تقريباً لم أرسم أي قطعة لا في السجن ولا حتى بعد السجن تتعلق فعلاً بهذا الموضوع بشكل المباشر، أظن أن الموضوع تراكم في داخلي على مدى سنوات وبدأ يظهر في نهاية الثمانينات، المجموعة التي اشتغلت عليها بالحفر واشتغلت عليها بقطع الكولاج وبالغواش إلى آخره، أما الدخول في التفصيلات فهي بالحقيقة تحولت من كونها لحظة احتجاج إلى أن تصبح لحظة احتجاج ولحظة أيضاً لممارسة الحرية في استعراض تشويه هؤلاء الأشخاص، وبالتالي هي أنا أعتبرها أكثر لحظة حرّرتني على مستوى الشكل في كل عملية. تجربة السجن والتجربة السياسية

أحمد علي الزين: طبعاً بدنا نحن نتحدث عن تجربة السجن والتجربة السياسية ولكن طالما هلأ أنت أتيت الذكر عليها أنك أنت سُجنت لسنتين أو أكثر قليلاً.

يوسف عبدلكي: أقل.

أحمد علي الزين: أو أقل قليلاً، يعني نحن كنا نتمنى ما تنسجن أبداً، طبعاً والوالد سجن أيضاً لمرات، شو كانت أسباب سجنك؟ ما هي الدوافع التي حملت تلك السلطات إلى القبض عليك؟

يوسف عبدلكي: في السبعينات أظن أنه نما تيار واسع جداً في كل البلاد العربية وربما على نطاق أوسع على مستوى العالم هو تيار ماركسي متجاوز ومختلف تماماً على الماركسية في طبعتها السوفيتية، لديه حس نقدي عالي، وضع نفسه بشكل مباشر في خانة المعارضة والمعارضين، وهذا التيار الحقيقة يمكن أن نراه من المغرب حتى البحرين في فترة السبعينات، في تلك الفترة كان الحامل لهذا الفكر حزب جديد اسمه الحزب العملي الشيوعي، وقتها كان اسمه رابطة العمل الشيوعي، فكنت منتمياً إلى هذا التيار وتم إلقاء القبض على مجموعة الكبيرة من المنتمين وعلى دفعات تقريباً كل سنة كان هناك حملة اعتقالات وجوقة جديدة من الناس عندما تدخل داخل الأحداث متى ستخرج.

أحمد علي الزين: وليش فتت على الحزب أنت؟ ما فتت على حزب آخر لا يقبض عليك، شو الله جابرك؟

يوسف عبدلكي: كان الأمر من الصعوبة بمكان أن أدخل على حزب آخر الحقيقة بسبب أني أنا ولدت في بيئة عائلية تتعاطى السياسة بشكلها العادي واليومي وكأن السياسة هي خبز الحياة اليومية بالحقيقة ومادتها الأثيرة، ووالدي بحكم انتمائه للحزب الشيوعي السوري اعتُقل بين الأربعينات وأول الخمسينات ما يقارب 12 مرة، بس 12 مرة أكثر رحمة بكثير من أي مرة يمكن يُعتقل فيها أي معارض في سوريا ، ذلك أن وقتها كان الحقيقة فيه هناك محاكمات والناس تدافع عن نفسها ولديها محامين، كان لحظة المحاكمة بحد ذاتها هي لحظة.

أحمد علي الزين: نوع من التعبير السياسي.

يوسف عبدلكي: لحظة تعبير سياسي، لحظة إيصال الخط السياسي للحزب للناس إلى آخره، فكان الناس يُحكم عليهم بأشهر شهرين، ثلاثة، أربعة، أما في الثمانينات فصار القاضي فايز النوري يحكم على الناس المختلفين بالرأي عن السلطة السياسية ببساطة 15 سنة ويذهب للنوم مرتاحاً في بيته!

أحمد علي الزين: وأنت فُرج عنك لاحقاً..

يوسف عبدلكي: فُرج عني الحقيقة في لحظة الاحتدام في الصراعات في نهاية السبعينات أول الثمانينات بين السلطات السورية وجماعة الإخوان المسلمين، وحاولت السلطات أن تقدم على مناورة وهي أن تفرج عن كل اليساريين في السجون لكي توسع نطاق المتحالفين بين قوسين معها، الذي حدث أن الناس بالحقيقة طلعوا من السجون ولم يتحالفوا معها، ظلوا على نفس موقفهم المعارض واعتبروا..

أحمد علي الزين: فمنهم عاد إلى السجون ومنهم خرج.

يوسف عبدلكي: ومنهم من عاد إلى السجون ومنهم من عاد إلى السجون ومنهم من عاد إلى السجون.

أحمد علي الزين: وأنت؟ أتيت باريس..

يوسف عبدلكي: أنا؟ كنت بالصدفة كنت أنا يُفترض قبل أصلاً سفري يُفترض أن أسافر إلى ألمانيا لأتابع دراستي، فبعد أن خرجت سافرت ورتّبت أمور دراستي في فرنسا.

أحمد علي الزين: من يتعرف على يوسف عبدلكي يكتشف مخزوناً من الحب والأمل والشوق إلى مطارح كما قال عنها في بداية الحوار أنه لم يتجرأ في تفقدها بعد غياب 25 سنة خشية أن تُدمَّر صورتها الأصل في ذاكرته، تلك الصورة عن مدينة كانت هادئة متعددة الأهواء والانتماءات هي القامشلي، هو هكذا يعيش على أمل الصورة المرتجاة لبلاد تسكنه، بلاد حملها معه إلى باريس منذ زمن، ورغم هذه السنوات الطوال يتكثف حضورها في وجدانه بدل أن يبرد فلم تستطع باريس أن تسرقه منها أو تسرقها منه لكأنه هنا يعيش محطة انتظار مؤقتة يعالج سأم الرتابة في صوغ معنى للذي يبدو لا معنى له، ويحفر حياته مثل ما يحفر لوحاته ويزاوي حبه للأصدقاء ورسم غصن منسي على قارعة الطريق.

أحمد علي الزين: لم يسبق لي أن التقيت يوسف عبدلكي أو عرفته عن قرب، كنا نتفق على موعد مؤجل كما أحلامه المؤجلة، ربما كان ينبغي أن ألتقيه في دمشق في أيار من هذا العام 2005 حين عاد للمرة الأولى بعد غياب 25 سنة، أظن أنني خسرت عيش لحظة لقاء نادرة لعاشق دمشقي لمطارح هواه وبوجوه صحبه وأهله، ولكن لم أخسر لقاءه في باريس حيث تحدث يوسف عن ذلك اللقاء الذي ما زال عطره فوّاحاً وروى عن بعض ملامح تجربته ومحفّزاتها بخاصة منها تلك التي مثّلت له نوعاً من تصفية حساب مع مرحلة السجن والتي تفجرت بعد مرور سنوات عبر أعمال صاخبة في التهكم حادة مدفوعة بموقف ساخر من مظاهر الاستبداد ورموزه، وفي باريس دائماً الفضاء أكثر رحابة للبوح وللخلق ومؤاتياً للتسكع والتجوال، ويوسف مشاء أحياناً يستهويه قطع المسافات مستعيناً بوقود الذاكرة وبرغبة الاكتشاف، فصبي القامشلي الذي حضنته باريس طالباً في هذه الجامعة بوزار ثم مبدعاً هو مفتون بصورة قديمة عن مدينته القديمة القامشلي، فماذا عن تلك الصورة المحفورة في باله؟

يوسف عبدلكي: القامشلي الحقيقة مدينة تماماً خاصة في سوريا، ربما يكون أهم شيء يميزها هو كونها مدينة عم يتعايش فيها كل الأقليات الموجودة في سوريا بشكل بسيط جداً بمنتهى السلاسة بما يتجاوز الحقيقة قدرة أي دولة على تنظيمه فكان في المدينة في العرب والأكراد السريان والأرمن واليزيديين وإلى آخره، وكانت الحياة بسيطة وسلسلة بينهم..

أحمد علي الزين: هينة وفيها هناءة.

يوسف عبدلكي: بدون أي تعقيدات وبدون أي مشاكل، لها طابع لا قومي ولا ديني ولا أي شيء، فأظن كنت محظوظاً كثيراً عيش بهذه المدينة اللي عم يتعايشوا فيها كل الناس ببساطة.

أحمد علي الزين: طيب فنياً لا نعلم كيف جئت إلى الرسم، ولكن سياسياً ربما لك علاقة بجو البيت أو جو الوالد اللي هو كما تفضلت سُجن 12 مرة تقريباً؟

يوسف عبدلكي: الحقيقة جو البيت كان جواً سياسياً وكان والدي شخص تماماً معجون بالسياسة وكل علاقاته وأصدقائه مع ناس مهتمين بالسياسة أو يشتغلون بالسياسة وحواراته مع الناس دائماً في هذا النطاق، فبالتالي شي كان طبيعي بالحقيقة أهتم بالسياسة بجو من هذا النوع مثل ما يقول بيكاسو أني رحت على السياسة كمن يذهب إلى النبع، فشيء كان أكثر من العادي الحقيقة لأن جو البيت هو هيك.

أحمد علي الزين: هذا على مستوى السياسة أن والدك هو اللي حطك بهذا المناخ إذا صح التعبير، ولكن ما هي الغوايات التي دفعتك نحو التعبير بالقلم وبالرصاص؟

يوسف عبدلكي: هذه واحدة من المشاكل أو من القضايا الأصح اللي حتى الآن أنا ما عم بقدر شوف لها بالحقيقة تفسير، لأنه لا في المحيط العائلي ولا في المحيط غير العائلي في هنيك ناس يشتغلوا بالفن، وبالتالي أنا أتذكر من السنة الثانية أو الثالثة للمدرسة الابتدائية، بدأت أعمل لحالي دفاتر وأطلب من نفسي نوع من الوظائف أعملها بشكل دائم وجدي وكأن الأمر يعني ما هو لعب طفولة يعني، وأنا بعمري 15 سنة كان بالنسبة لي أمر محسوم وغير وارد النقاش فيه أني أنا بدي أشتغل بالرسم، قصة مش واردة السؤال ولا لثانية، بس البداية حتى الآن بالنسبة لي الحقيقة سر.

أحمد علي الزين: طيب طالما نحن نحكي بالجو السياسي والرسم والفن الإبداعي، بشغلك خاصة بشغلك الأولاني فيه تلازم بين السياسي والإبداعي، بتقديرك هل السياسة تخسّر الشطحات عند المبدع؟ أم هي بالضرورة حتى يقدر يعبّر بطريقة أدق أو أوضح أو يقول رأيه يحتج بطريقة أنفذ؟

يوسف عبدلكي: يعني هنيك فيه رأي سائد عند المثقفين العرب عموماً وربما غير العرب كمان أن السياسة تضر العمل الفني وإلى آخره، يعني أنا أول شيء أنطلق من مسألة أساسية أن السياسة جزء أساسي من نسيج حياتنا، ما يقدر الواحد يطلع برّاها هذا واحد.

أحمد علي الزين: خلينا ما نقول السياسة، خلينا نقول: العمل الحزبي إذا واحد منخرط بالعمل.

يوسف عبدلكي: لأ عم نحكي عن السياسة مش عم نحكي عن العمل الحزبي، العمل الحزبي أمر آخر الحقيقة هذا يدخل بتكنيك التعبير عن السياسة، السياسة لا تخسرك أنت بالحقيقة فنياً إذا كنت عم تجيد التعبير عن هذا الهم العام بشغلك، يعني وحدة من أهم اللوحات ربما تكون أهمها على الإطلاق في كل تاريخ القرن العشرين هي لوحة الغورنيكالية احتجاج من بيكاسو على قصف اللازين الذي احتل قرية الغورنيكال الإسبانية أيام الحرب الأهلية، طيب هذا موضوع سياسي بكل معنى الكلمة، لكن استطاع بيكاسو أن ينقله من كونه احتجاج على عمل محدود إلى أفق إنساني واسع كثير، بتشوف فعلاً شي جوهري وإنساني وعميق في هذه اللحظة التراجيدية والمأساوية.

أحمد علي الزين: يقول عادل السيوي عن تجربة

يوسف عبدلكي: زهرة تحاول بمفردها استدعاء المعنى كله، سمكة مندهشة، رأس لا نعرف إن كان مقتنعاً بانفصاله عن الجسد أم هو صرخة توقفت كحجر في الحلق، قدح يقف هناك وحده يحتضن فراغه الحميم ولا يبدو أنه قد امتلأ يوماً ما، أشياء متوحدة تبحث عن مبرر لوجودها، هنا والآن فهل هو عرض رصين للعزلة؟ أم إعلان صوفي عن رغبة الجزء في الرجوع إلى الكل؟ تلك المفردات الوحيدة في دائرة العين، هل تؤكد الغياب كما تستدعي محارة البحر ونتوهم في حذاء المرأة اكتمال حضورها الجسدي أم أنها أشياء تتجلى أمام أعيننا لآخر مرة كي نصبح شهوداً على تحللها النهائي؟ أين تستقر هذه الزهور والأحذية والأقداح؟ وهل يستريح رأس السمكة فوق غياب جسدها وتؤنس الظلال وحدها تلك الأشياء المقطوعة عن العالم؟ ألا تهب نسمة ما وتحمل لها أصوات صخبنا وتخترق ذلك الهواء الساكن الذي يلفها؟ أسئلة كثيرة تلاحقني وأنا أشاهد أعمال يوسف عبدلكي الأخيرة، أُدهش من قدرته على الاتزان فوق نصل البين بين، يتأرجح بين أناقة الأشياء وتواضعها المذل، بين الصراخ والغناء، بين الحضور البريء للشيء ووشاياته المتلاحقة.

يوسف عبدلكي: من حيث المبدأ شغلي على الطبيعة الصامتة فيه بالحقيقة أكثر من نقطة يمكن نتحدث عنها وحدة منها مسألة الفراغات.

أحمد علي الزين: البين بين كلمة طبيعة صامتة أنت توافق عليها؟

يوسف عبدلكي: أنا بشوف التعبير الأدق هو تعبير الطبيعة جامدة لأن الصمت الحقيقة يحط العناصر في موقع غير دقيق بمعنى أن كل العناصر التي أشتغل عليها هي عناصر.

أحمد علي الزين: صامتة بدك تقول.

يوسف عبدلكي: بشكل أو بآخر ناطقة من خلال قوتها التعبيرية بالحقيقة، والترجمة بالأصل هي ترجمة الطبيعة الميتة واللي هي طلعت يبدو عند المترجمين العرب بالأربعينات كثير كلمة بشعة مش حلوة، فحوّروها أنها طبيعة صامتة، فمسألة الفراغ هي وحدة من المسائل الأساسية التي عم أشتغل عليها واللي بشوف أنا إذا شفنا هيك كل تاريخ الحضارات بالحقيقة عند الصينيين أو عند الأوروبيين أو عند العرب نشوف كل في الحقيقة فترة تاريخية وكل شعب من الشعوب يتعامل مع مسألة الفراغ بطريقة مختلفة لأن كل شعب أصلاً عنده فلسفة تجاه..

أحمد علي الزين: معنى الفراغ.

يوسف عبدلكي: يعني اليابانيين مثلاً والصينيين يعتبروا الإنسان جزءاً صغيراً جداً من هذه الطبيعة، لذلك الفراغ الطبيعي الموجود في أعمالهم متسع شاسع، بينما الأوروبيون يعتبروا أن الإنسان هو الشيء الأساسي من عصرنا هذا وجاي في الحياة والفلسفة وإلى آخره فله موقع أكبر بكثير بفضاء اللوحة، العرب اللي كانوا بالنسبة لهم الفكرة التوحيدية هي فكرة أساسية فبالتالي كما أن فكرة الله موجودة في كل مكان أيضاً يُفترض العناصر تشغل كل مساحة لوحة وبالتالي ما في فراغ، فهذه مسألة حاولت أنا أتعاطى معها بطريقة أو بأخرى، شفت أن العنصر نفسه بقدر حطه بفراغ مختلف بيصير عنده ويأخذ معنى مختلف، وحدة من المسائل اللي عم أشتغل عليها كمان أن الخلفية ليست فراغاً إنما هو فضاء مشحون، هو فضاء فيه نوع من الحس الميتافيزيقي اللي يحط الأشكال كمان في موضع يعلو على مغزاه للمد المباشر، بالتالي لا تصبح الوردة وردة تصبح من معاني الحياة ولا تصبح السمكة سمكة تصبح نوع من شوق الاعتراض على الموت إلى آخره.

أحمد علي الزين: لو أردنا التحدث عن محطات في تجربة يوسف عبدلكي قد تكون دمشق هي المكون الأساسي الأكثر إلهاماً بالنسبة له كما يقول بعد القامشلي التي ولد فيها عام 1951 وحيث رسم صوره الأولى، في دمشق درس في معهد الفنون وأقام أول معارضه في قاعاتها وأكثر صداقاته الحميمة، في تلك المدينة صاغ ملامح أكيدة لشخصيته رساماً، شغله الهم السياسي والإنساني والاجتماعي بمقدار اشتغاله على لغته الفنية المعبرة عن ذلك، بالطبع باريس قد تكون محطة مثيرة بالنسبة له على المستوى الأكاديمي والمعرفي والثقافي من خلال معاهدها ومتاحفها، وبالتالي كفضاء آخر احتضنه كفنان مشاكس يغرد خارج السرب وأتاح له استكمال تجربته وتطويرها، لكن باريس لم تغويه بل كانت تلك المحطة التي انطلق منها إلى عواصم عديدة عبر عشرات المعارض الفردية والجماعية، من باريس كان يطل على دمشق وبيروت وعمان والقاهرة وعواصم أوروبا ويعود إليها عابراً، ورغم مرور كل هذه السنوات فلم يتقدم لنيل الجنسية كما يشتهي الكثيرون متمسكاً بقناعته الراسخة.

أحمد علي الزين: طيب أنت صار لك 25 سنة في باريس طبعاً يطلع لك جنسية مثلك مثل أي إنسان يقضي أكثر من 5 سنين يعني شروطه متكاملة، أنت شروطك متكاملة، وقبل الهوا أو من يومين ونحن عم نتحدث، قلت لك: ليش ما أخذت الجنسية؟ قلت لي: عناد، ليش معند؟

يوسف عبدلكي: بالحقيقة أنا توقف تجديد جواز سفري من سنة 1983 وظل الوضع هيك 5 سنوات، بعدين أعطوني جواز السفر لمدة سنتين، بعدين 1989 بطلوا يجددوا جواز سفري لمدة 11 سنة بعدين استعدته، خلال كل هذه الفترة كان ممكن بالحقيقة قدّم على الجنسية وآخذها وفي يومها شروط عديدة كالضرائب والإقامة الطويلة والدراسة وكذا كلها تساعد الواحد أن يأخذ جنسية بشكل عادي يعني، أنا كنت من اللحظة الأولى أعتبر أني أنا حقي في جنسيتي ليست ملك سلطة سياسية، ليست ملك أي ضابط أمن حتى يحرمني منا لأنه هو يعتبرني أنا أختلف عنه بالرأي وبالتالي هو يحق له ينتزع مني جنسيتي، انتمائي ما له رهن إشارته ولا رهن قراره، فالأمر هيك نوع من الموقف العادي من مسألة عادية تريد السلطات أو أجهزة الأمن أن تحطها في نطاق عادي وفي نطاق غير عادي وتصنع منا أداة للابتزاز أو أداة للضغط على البشر وعلى المواطنين فأنا رفضت كل المسألة هي وأصررت أني آخذ جواز سفري وما آخذ أي جواز سفر آخر حتى استعدته فعلاً.

أحمد علي الزين: كان هذا هو السبب يعني، طيب شعورك بالانتماء يعني أنت 25 سنة في باريس تشعر بالانتماء إلى هذه المدينة؟

يوسف عبدلكي: هلأ نرجع لباريس، باريس كمان محطة بالحقيقة كبيرة وفيها تشعبات لا تُعد ولا تُحصى يعني، يعني باريس أولاً كمدينة أنا عملت فيها دراستي الثانية وعملت فيها الدكتوراه بعدين وبالحقيقة على المستوى التقني البحت، من خلال دراستي في بوزار يعني ربما لم أستفد أي شيء من أستاذي، لكني استفدت من باريس شيء لا يمكن تقدير أهميته هو اطلاعي الدائم على المتاحف، على المعارض، زيارتي لمعارض الفنانين المعاصرين، باريس منحتني إمكانية أني أرى إنجازات الفنانين والشعوب على مدى قرون موجودة في متاحفها، أقدر شوف وهذا الشيء كان غير متاح أبداً في أي عاصمة عربية يعني، وبالتالي فضل باريس ليس فقط أنها خلتني أطلع على الفنون الأوروبية بشكل خاص من القرن الخامس عشر حتى الآن، لأ شيء يتجاوز تماماً حدود الجغرافيا وحدود التاريخ الحالي يعني، فبالتالي صقلي لشغلي جاء من هون أكثر مما هو عمل بالحقيقة لكلية النحاتين اللي كنت أشتغل فيها هذا واحد، من ناحية ثانية: هنيك فعلاً فيه فضاء من الحرية غير موجود في أي دولة عربية قطعاً، وبالتالي هذا كمان جعل مسألة الحرية بالنسبة لي أكثر رسوخاً وأقوى في معرفتي بالدفاع عنها والدفاع عن حريتي في أن أقول رأيي السياسي لما أرسم للصحافة. [فاصل إعلاني]

أحمد علي الزين: لكأن يوسف عبدلكي لا يشبه لوحاته، لكأنه فرّغ نزعات العنف في عملية الحفر وتصفّى من كل ما يجعله حاداً وشفّ، ولو كنت لا تعرف نتاجه مسبقاً تظنه ملوناً رومانسياً يراوده قوس قزح في سهول ماطرة، هو يقول عن نفسه: عقلاني، وهذه صفة من صفات الحفارين ورسامي الفحم والغرافيكيين ولكن حين تشاهد وردة أو غصناً في آنية سريالية تسأل: من أين جاء هذا العقلاني بهذه العاطفة الجياشة أو هذا الحزن المكثف في عزلة هذه الطبيعة المستوحدة؟ وحين تشاهد رأس سمكة تسأل عن مخزون العنف الذي سُكب فيه عنوةً وفرّغه احتجاجاً على عالم فادح في ظلمه وفي نقصان العدالة.

أحمد علي الزين: طيب خلينا نرجع شوي لتجربتك الفرنسية، ضمّنت سؤالي القديم سؤال عن كيف استقبلتك فرنسا كمبدع؟ أو كيف تستقبلك الآن يعني وسواها من أوروبا؟ هل النقد هو عادل مع يوسف عبدلكي كفنان مشرقي مقيم في باريس؟

يوسف عبدلكي: يعني أولاً أنا عرضي في فرنسا عملت عروضاً قليلة جداً، وبالتالي كمان النقد تناول الشغل تبعي كمان بشكل قليل جداً، اهتمامي الأكبر هو بالحقيقة بلبنان العربية بتونس بمصر بالبحرين بسوريا بلبنان بالأردن إلى آخره.

أحمد علي الزين: بس في بعض المتاحف بأوروبا تقتني لوحات لك يعني.

يوسف عبدلكي: اقتنت لوحات وأقمت معارض عديدة وإلى آخره، بس قصدي أنا حجم التركيز والاهتمام هو بالحقيقة على الضفة الثانية من المتوسط.

أحمد علي الزين: اللي أنت تراهن عليها وبالعودة..

يوسف عبدلكي: وأنا بالحقيقة بشكل أو بآخر أعتبر أنه أصلاً هي العصب تبع الشغل تبعي من جهة والشيء الطبيعي أني أهتم أني أعرض أعمالي بهديك الجهة.

أحمد علي الزين: يعني أنت وكأن هذا المكان هي محطة عابرة حتى لو طال الزمن فيها؟

يوسف عبدلكي: هي محطة عابرة، هي من اللحظة الأولى اللي أجيت أنا فيها أجيت للدراسة واضطررت للإقامة فيها بحكم الضرورة يعني لأنه ما عاد أقدر سافر وما عاد عندي جواز سفر لكني من اللحظة الأولى وحتى هذه اللحظة أعتبرها لحظة مؤقتة.

أحمد علي الزين: حتى لو صارت 25 - 30 سنة.

يوسف عبدلكي: طبعاً.

أحمد علي الزين: يعني يتهيأ لك بعدك شب أنت؟

يوسف عبدلكي: الجمهوريون اللي انهزموا في الحرب الأهلية الإسبانية عندي أكثر من صديق من أبنائهم يحكوا لي كيف أن آباءهم وأمهاتهم كانوا ضابين ثيابهن في حقائب ويسكنوا في أوتيلات في غرفة في أوتيل يعني عائلة كلها تسكن في غرفة في أوتيل، وضابين ثيابهن في حقائب بانتظار أنهم يرجعوا بكرة، ظلوا هيك 30 - 35 سنة.

أحمد علي الزين: وقاعدين مكانهم.

يوسف عبدلكي: وهن قاعدين، بس الحقيقة القرار هو الأساس، وأنت كيف إحساسك تجاه المكان مش جاي من برّة جاي أنت كيف عم تعيش بهذا المكان؟ وكيف أنت مخطط لحياتك في هذا المكان أو في مكان آخر؟ فأنت مقرر أنك أنت تنتمي إلى بلد آخر وإلى ثقافة أخرى وشيء طبيعي أنك تمارس حياتك وعملك في مكان آخر، شيء طبيعي أن تكون بهذا المكان عندك إحساس أنك أنت بالحقيقة في رحلة في محطة مؤقتة.

أحمد علي الزين: لمين تشتاق بدمشق؟ ولا الشوق خفّ بعد رحلة أيار؟

يوسف عبدلكي: في دمشق، لا والله، مشتاق لوالدتي مشتاق أني إذا رجعت أقدر شوفه لجميل حتمت مثلاً، مشتاق لكل الأصدقاء.

أحمد علي الزين: يقول الشاعر نزيه أبو عفش عن يوسف عبدلكي: عرفت يوسف منذ أكثر من ثلاثين سنة وكان مجرد هاوي رسم مفتون بقوة الأمل، وكنت مجرد هاوي كلمات أبشّر بخيبته، على هذه المائدة الملتبسة التقينا وعلى طرفيها قامت أجمل ولائم الصداقة، ومنذ ذلك الحين رغم جميع الخيبات والمحن والكوارث والأعطاب الروحية التي تخلّفها عقائد الاستبداد والمطاردات والسجون المعاهد الوطنية لتأهيل الخارجين على الصراط الرسمي للعقيدة ويوسف عبدلكي ما يزال يأمل، يأمل بريشته ويأمل بقلبه ويواصل رحلته السيزيفية الآملة إلى أعالي الهاوية هاوية الإنسان، روحٌ غير قابلة للهدم، ذلك مكانه يوسف عبدلكي وذلك ما سوف يبقاه إنسان يأمل وعلى اللقمة المريرة لذلك الأمل الضاري كان يتغذى ويواصل حياكة حلم حياته بالأسود والأبيض حيناً وبالأسود والأسود حيناً وبإيمان من يكابد ويأمل ويثق في جميع الأحيان.

يوسف عبدلكي: وحدة من الأشياء اللي ربما أفتقدها أنا أنه ما في طفل جوّاتي، فيه واحد كثير هيك صاحي وبشكل أو بآخر يعني عم يشوف شو عم يصير حوله، لذلك أحسد أنا بشكل حقيقي رسام مثلاً مثل جورج بهجوري اللي هلأ عمره يمكن 70 أو 72 سنة واللي تحسه فعلاً طفل بالمعنى الحقيقي، بأي معنى كمان جورج أكيد يعرف شو عم يصير حوله تماماً وبوعي كثير كبير، لكنه بمعنى أنه لما يمسك القلم ويحطه على الورقة ينسى كل شيء تعلمه، ويستعيد قدرته على اللعب غير المضبوط، اللعب اللي فيه هيك جمال وفيه حرية.

أحمد علي الزين: طيب أديش كان حضور المرأة بحياتك يعني مفيد أو غير مفيد؟ تجاربك بالحياة مع المرأة يعني كانت عاطيتك زخم إبداعي؟ ولاّ أنت متزوج ما تسترجي تجاوب على هذا السؤال؟

يوسف عبدلكي: بسترجي، أنا تصوري العمل الفني وقبله الفنان وقبله البني آدم بدون لحظة الحب بالحقيقة تصير حياته صحراء حقيقية، أتصور أكثر لحظة بشوف الإنسان فيها إنسانيته فعلاً هو بالحقيقة مع هذه المرأة التي فعلاً يحبها يلي تماماً يكسر كل الحواجز بينه وبينها، يكسر كل ما هو مصنع ومفتعل ومفكر فيه مع كل الآخرين يعني، فالذي صار لذلك أتصور أن لحظة الحب هي لحظة الحقيقة بالنسبة للبني آدم، لذلك كل الناس أحسهم مشدودين شداً فظيعاً لهذه اللحظة لأنهم يعرفون إلى أي مدى هي في الحقيقة لحظة جوهرية بحياتهم، من دونها فيه شيء خلل أساسي بتكوينهم وبحياتهم وباستمرارهم كبشر.