2012-02-04

شــهيد الصبــح يشــيع شــهيد المســاء

إعداد وتقديم
سوريون.
حملوا حجارة على ظهورهم عند الظهيرة،
بنوا سلما طويلا طويلا نحو الله،
صعدوا اليه واحدا واحدا،
مثلما قتلوا واحدا واحدا،
وسألوه بعتب:

الهي،
كيف تركتنا وحدنا نهبا للوحش في الغابة؟
وكنا عراة ننشد لهاء اسمك،
نرفع على أكفنا طفلا قتيلا وسحابة!
الهي، وكنا ذهبنا الى معرة النعمان، الى قبر سيدنا ابي العلاء لندفن في جواره قتلانا، وفي الدرب كنا نقرأ من سورك سورة الرحمن ورددنا:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
ثم وبكينا من وجد حين وقع الصمت علينا، مشينا الى ليل البيوت نستدل بنجم في قبتك، نجم غارب كالروح.

الهي،
كيف تركت أطفالا كتبوا اللعب على الجدار، أن تسحب أصابعهم من الرسغ وينتشي من صراخهم الجلاد،
وأنت الذي أشرت بسبابتك للكون كن فكان!!
وكان، قد رسموا ظلالهم على الضحى، تسلقوا الظهيرة ليصلوا الى البيت، شاغبوا وهربوا من صف النشيد.

الهي،
كيف تركت منشدا، اقتلعوا منه الحنجرة، كوتر يقطع عن صدر الكمان!
أرأيت إلهي قوسا ينشج دون وتر؟
من اين تخرج هاء اسمك، إن أراد مناجاتك القتيل على آخر الروح؟؟
من أين تخرج هاء اسمك كي تعلو نحوك في السماء؟
وأنت في سابق علمك، انها صرّة الحروف وسرّ الغناء،
هاؤ (ه) تشبه قطرة ماء أو دمعة كرجت على خد ملوح بشمسك!
قالوا: إن المطر الذي بلل خدّ امه يوم قتلوا صبي درعا ليس مطرا بل دمعك!!
وقالوا، بكيت وأجلت العقاب إلى يوم القيامة! هكذا قالوا عن تلك السحابة التي حامت فوق النعش، وعندما انتحبت الأم على التراب وارتمت على القبر، قرأوا في السحابة اسمك.
أما ذاك الصوت الذبيح الذي شج الليل، فهو آخر من أهلي كان عائدا بقطيعه على المساء... تسلوا بالبهائم، قتلوها قتلوها، فبكاها الراعي، وظل ينشج حتى جف ماء النهر.

الهي،
كيف تركت البهائم تقتل في عرائك؟
وهي، لا سبب لها
ولا نسب
ولا حسب
حسبي انت، كيف تركت وجهي يداس بالنعل؟ وانا عمري كله حاف... حاف... حاف من عتبة بيت أهلي حتى آخر الدرب!!
حاف كالخبز الذي أقتات به تحت سمائك،
يابس حلقي كقش الدغل وجسدي إناء.
كيف تركت وجهي يداس بالنعل؟
وملامح وجهي هي رسمك!
سوريون حملوا قتلاهم على ظهورهم عند الظهيرة،
مشوا الى العواصم سألوا أهلها، ألديكم مقبرة كي نخبئ قتلانا؟
فالبلاد حيث ولدنا وقتلنا صادرها الحزب، كلما دفنا واحدا منا على الصبح يعيدون قتله على المساء، فصار،
شهيد المساء يشيع شهيد الصبح، وشهيد الصبح يشيع شهيد المساء!!
سوريون،
جاؤوا بيروت، لفوا بخبزهم الحاف ما حملوه في زادهم من سهل حوران،
خبأوا تحت رموشهم، شيئا يشبه الحزن،
رأيتهم يرسـمون بجبينهم حدود الصبح، وفي ظهيرة التعب يبردون بعرقهم قرص الشمس.
وفي العشية يشعلون جمر الحنين،
بين حمص وحماه نعى غراب البين
يمي العمر غفلي متل رمشة العين
يا طير سلم عهلي حملهن دمعتين
دمعة عخدك حماه ودمعة لبعدين.

شهر آخر من القتل

إعداد وتقديم
١٥ سبتمبر ٢٠١١

لا اعرف ماذا سيحدث غداً أو بعد لحظة من انتهائي من هذا المقال الذي بدأته الساعة الخامسة بعد ظهر يوم السبت السادس من آب (أغسطس) 2011, لعلني كسائر الناس المعنيين بما يحدث في عالمهم أتابع على شــاشات التلفزة آخر العواجل. مجزرة في حماة وملــيون ونصــف مليون جائع في الصومال يتناقص بفعل الموت ويزيد بفعل تمادي الجوع في عالم ترمى أطنان من موائده الباذخة في مكبات النفايات في الأشهر الحرم ولعلها تتضاعف على مدار الشهور الأخرى لانتفاء الرادع! ومن العاجل أيضاً: مصير حزين ينتظر الأسد كلام منسوب إلى الرئيس الروسي وبيانات شجب هنا متأخرة ولغو وتردد... أما الصور التي يلتقطها بعض الناس في غفلة من القاتل فهي وصمة عار على هذه الصفحة من كتاب التاريخ وعلى جــبين العالم، القتلة يقطعون الأوكسيجين عن أجنة في المحاضن فيقضون اختناقا، يا إلهي. كيف يعود القاتل إلى مائدته والصامت إلى إفطاره وحليف القاتل إلى صلاته وتراويحه؟

لا أعرف. ربما يطلع الجيش في سورية ببلاغ رقم واحد، ويتحول من قاتل تديره عصابة إلى منقذ مثل شقيقه المصري والتونسي. هذا ممكن في الواقع وحدث في التاريخ، أما أن تمطر في الصومال ذهباً وخبزاً، وتنبت بمعجزة بساتين مثمرة وتتحول الأسرة الدولية إلى أسرة متحابة عادلة أصيبت بالرحمة فجأة ونبذت العنف واستأصلت أسبابه، واتفقت على توزيع ثروة الكوكب بالعدل على الناس، بالطبع هذا يأتي في باب الأمل، أمل إبليس بالجنة كما يقول المثل الشعبي، وهذا الإبليس لا يشبه إبليس صادق جلال العظم في كتابه «نقد الفكر الديني». وبالتالي هو أمل مَن مثلي أيضاً، أمل العاجز عن فعل شيء عملي في مواجهة القتل الذي يمارسه بشري له اسم رحيم لا يعكس فعل القتل، وآخر له اسم مرعب، الجوع، لذلك الجأ لأسباب العجز فقط إلى الكتابة كنوع رديء من المواجهة الشخصية مع من أذلني.

لا ادري ولست في الموقع الذي تتسرب إلي معلومات من الذين بيدهم مصير العالم ومصيري، والذين بغالبيتهم على ما يبدو لا يقيمون وزناً للموت الناجم عن القتل أو عن الجوع إلا في سياق حسابات تعني مصائر دولهم وشركاتهم. أنا شخصياً استطيع توصيفهم بما يليق بموقفهم، استطيع القول انهم فاقدو الأخلاق وبعضهم عراب للقتلة وبعضهم قاتل. أما هم في التداول اللفظي والكتابي فرؤساء وحكام ودول على هوامشها منظمات تجميلية لسلوكها، كمنظمة حقوق الإنسان وسواها. ليس هذا ما أريد الوصول إليه، الذي أريد قوله إن أشياء كثيرة قد تحدث وتتبدل وأنا بصدد هذه الكتابة: قتل إضافي ومجازر إضافية وكلام شجب إضافي وضغوط إضافية لعل الأمور تذهب إلى حيث يرغب القاتل في ان تصير، اقتتال الطوائف ليبرر أسلوبه في القمع مراهناً على وقت يكسبه للمزيد من الفتك، ما يضمن احتمال بقائه لانتقاء البديل. أشياء كثيرة لم تكن في الحسبان ممكن حدوثها ومواقف كثيرة قد تتبدل، ما عدا قناعتي بأن السجون التي بناها المستبد المدني بكل أشكالها، سيعيد بناءها مستبد ديني تسرب مع الثورات والذي بشكل ما هو من نتاج سلفه، أو على الأقل تعاظم شأنه في زمن سلفه كضحية من جملة الضحايا، أو جعله بمكر، نموذجاً معلباً ومضبوطاً كان يهدد به حين تلوح في الأفق بوادر تغيير يهدد بقاءه. وكان يظهره في مواجهات يفتعلها بخاصة في الحروب اللبنانية. إذاً هذه السجون سيعيد بناءها مستبد ديني إذا لم يتم الخروج من السجن القديم الذي لا نوافذ له سوى على الخرافة والغيب. هو سجن العقل الذي سجانه غير مرئي وإن تجلى بملتح هنا أو بعمم هناك. لذا التعامل معه يستدعي جرأة مضاعفة بالقياس إلى جرأة المنتفضين الذين يواجهون بلحمهم الحي الدبابات، هي جرأة العقل في التمرد على سجانه.

وعد العاملون في الكهنوت الناس بالجنة تعويضاً عن العوز المهين في الدنيا وارتضى بعضهم هذا الوعد إرضاء للرب في امتحانه لعبده. وحين جاء حزب البعث وعد الناس أو الجماهير في المصطلح الحزبي، بالجنة على الأرض مع مفعول رجعي لمن ينتسب. تأجل قيامها بفعل الانصراف القسري للقضية الكبرى تحرير فلسطين، وما يتبعها من منازلات مع الإمــبريالية العــالمية، وما يمليه ذلك من الانخراط في جبهات كجبهة الصمود والتصدي وصولاً إلى دول الممانعة وكلها تسميات تشبه الصفة المشبهة بالأفعال، لا فعل فيها سوى الاجترار. وارتضى الناس هذا التأجيل ليس إرضاء للحزب بل لأن كل معارض لأولوياته يصبح نزيلاً في اول صرح بناه في جنته الأرضية وهي أقبية التعذيب.

ولزمن طويل كان الناس ضحايا هذه الوعود، السماوي منها والأرضي، سلبوا أدنى حقوقهم في العيش، حتى في حدودها الدنيا. وهذا الصبر الذي بدوا عليه لنصف قرن، لم يكن سوى صمت من لا يجرؤ على الصراخ لإدراكه أن ثمن صراخه سيكون أكثر ألماً من الآم القهر. لكن هذا القهر الضاغط يومياً حتى الاختناق أدى إلى هذا الانفجار. وما حدث هو أشبه بجمر مدفون تحت الرماد توهج في العاصفة وأشعل الحرائق، وهذا يعني أن الخروج بدأ ولم يعد من خيار سوى مواصلة هذا الخروج من نفق طال المكوث به. وأيضاً لهذا الخروج أثمان باهظة، فالذي مكث في السجن خمسين سنة سيتعثر كثيراً في طريقه إلى الحرية وقد يخسر الكثير في رحلته هذه، ما عدا كرامته وأمله وانتصاره على الخوف.

كل هذا في باب الكلام الذي يسعى لمواكبة هذا الخروج العظيم من «الألكتراز» الذي سيكون ثمنه باهظاً لأن السجان سيذهب إلى آخر الاحتمالات الدموية كي لا يصبح هو السجين.
لذا ليس من خيار أمامه سوى الإمعان في القتل لأن القتل صار دفاعاً عن بقائه. كل الكلام عن تسوية أو إصلاح، أو حوار يشبه الرهان على الماء في السراب. فالسجن لا يصبح منتجعاً بعملية إصلاح يقوم بها السجان ولا هو يصبح مديراً لفندق بسبعة نجوم نتيجة لرغبة دولية أو إقليمية، ولا المــساجين سيصبحون وفداً سياحياًَ جاء للاستجمام. فالذي يراهن على ذلك أو يأمل بذلك هو تماماً يعطي فرصة إضافية للمزيد من القتل. انه كالذي يراهن على الماء في السراب، إلا إذا حدثت معجزة وتآخى الذئب والغنم، وهذا اقرب إلى الحدوث من الرهان على نظام لا نظام فيه سوى سلطة العنف، ولو كان هذا الخيار ممكناً لبقي الاتحاد السوفياتي حين بدأ غوربتشوف البيروسترايكا ودامت آجال أنظمة مشابهة.

نحن المراهنين على الأمل لا نعرف ماذا يجري في كواليس الدول وما هي لعبة الأمم التي غالباً لا تخضع لمعايير أخلاقية أو إنسانية. فحساباتها غير حسابات كاتب مثلي مدفوع بالألم وبعدم الرضا عن هذا الخلل المعيب، وإلا لما كانت تعاملت تلك الأمم مع هذا المستبد أو ذاك لخمسين سنة، واقتضت مصالحها الآن تحديداً أن يصبح مستبداً ومارقاً وقاتلاً وكل هذه النعوت كانت متوافرة فيه ولكن المصلحة كانت تقتضي أن لا ترى.

الآن، وبعد مرور شهر كامل أعود إلى هذا المقال، في تمام عصر الــسابع من أيلول (سبتمبر)، فكرت أن اعدل بعض التوقعات وأضيف بعض المعلومات فلم أجد ما يستحق التعديل أو الإضافة. كل ما استجد خلال شهر هو كما ذكرت، المزيد من القتل، المزيد من الموت والمزيد من إذلال الناس وابتكار وسائل جديدة للمهانة. الجوع يواصل اغتيالاته في الصومال والقتلة يواصلون القتل في سورية والقذافي يواصل عرضاً خفياً لمسرحية دموية دامت أربعين سنة وعلي عبد الله صالح يزاول نشاطه رئيساً أحترق جسده ولم تحترق شهوته للسلطة، والعالم يتفرج، يهمهم، يلغو، يجتر كلاماً فقد دلالته، بحيث يبدو ضحلاً ومفضوحاً أمام همجية القاتل واستبساله.

لا ادري ماذا يحــدث غــداً وماذا تحمل الأيام المقبلة. وماذا يرسم في كواليس الأمم. لست متيقناً من شيء سوى مزاولة احتجاجي ضد المستبد وضد أوهامه بكل أنواعها الأرضية والسماوية.

لم أتوقع شيئاً من العالم أكثر من ذلك ولكن كان من المجدي أن تحل الجامعة العربية نفسها وأن تصرف موازنتها لإنقاذ الجائعين في الصومال. وأن يفكر الشباب العرب بهيئة أخرى تفرق على الأقل بين القاتل والضحية. أظن أن كرامات الناس تستدعي هذا العاجل وترفض هذا المعيب. كيف تحاكم مصر نظامها ورموزه وتقبل بجامعة عربية على أرضها، هي صورة عن نظام عربي فاقد للشرعية!.

صمتكم يقتلنا

إعداد وتقديم
١٠ أغسطس ٢٠١١

قالها الشعب السوري، قالها بكبرياء الفارس الجريح، المطعون في الظهر.

ليس أبلغ من هذا الوضوح، ليس أبلغ من هذا الاتهام. صمتكم يقتلنا. قالها الشعب السوري، اختصر كل ما نكتبه، اختصر كل الكلام الذي يبقى ناقصاً وفاقداً المعنى في هذا الوضوح، الكلام الكثير الذي لا يقول شيئاً.

اختصر الشعب السوري كل اللغة واتهم الناطقين فيها أولا، إنهم خذلوا دمه، خذلوا أصابع أطفال درعا، وحناجر اقتلعت لأنها هتفت للحرية.

صمتكم يقتلنا، نعم هو اتهام واضح، لأن الصمت شراكة في القتل، شراكة متوارية، ليس أقل، وقد تكون أكثر فتكاً وألماً لدى من يحمل قتيله ويلتفت إلى الوراء ويجد نفسه وحيداً يمشي في جنازة أخيه وصديقه وابنه.

قالها الشعب السوري وجاء ببرهانه، لكأنه يقول: هذا دمي اشهد هذا دمي، فمتى تشهد؟ إذا لم تشهد الآن ما معنى قلمك وشعرك وأدبك وتحليلك؟ ما الحاجة إلى سفاراتك وسفرائك وديبلوماسييك وجامعتك العربية التي هي الآن شاهد زور على دمي؟ إذا لم تشهد اليوم أنني أقتل فما حاجتك للغة؟ ألتمدحَ القاتل؟ ما حاجتك للكلام إذاً حين يطلب منك شهادة أنني أذبح وتخرج على الشاشة لتبرئة قاتلي؟ أنت الآخر الحداثي الذي صرفت أطناناً من الورق وأنت تنظّر للحداثة وكتبت البيانات لمناصرة شعوب الأرض، أليس التحرر من الاستبداد تجلياً من تجليات الحداثة؟ أنت الشاعر الذي استنزف اللغة لصورة بقيت رمادية في المعنى، ألا ترى أنه ليس من رمادي في الدم، وهذه هي القصيدة الآن؟ فمتى تشهد أننا نكتب الحرية كما الشعر بدم حقيقي، وليس بالحبر؟ وأنت أيها المقاوم الثوري وأيها المثقف الثوري ما الذي جعلك غريباً مني وعني؟ ما الذي جعلك في صف القاتل وكلانا القتيل وكلانا الشهيد، من زوّرك؟ لِمَ لا تشهد لشهادتي؟

نعم، أظن أن هذا هو التفسير الوحيد لهذا المبتدأ والخبر. صمتكم يقتلنا. وإذا لم تصدقوا اللغة، هذا دمنا في البلاد يوم أحد، وإذا لم تروا دمنا في يوم الأحد، اسمعوا، هذا صراخ قتلانا يوم جمعة والسبت للجنازات، وإذا لم تسمعوا فهذا الساخن على جبينك هو دم وليس مطرَ آب، وإذا لم تحسه، فاعذرني لم أنتبه أنك ميت، انتبهت أنك ميت من نتانة صمتك!

تمتمات كأنها تأتي من الغيب هنا، ونصف صوت، أو موقف هناك. كله يأتي في الصمت، وكله يؤسس للقتل وهذا ليس بحاجة لتحليل لأن البرهان واضح بوضوح الجملة التي لا تؤوّل ولا تحتاج لفقهاء أو ألسنيين. فالصمت على القتل هو تشريع له وللهمجية، هذا ما قاله المشرعون لحقوق الإنسان وهذا ما قاله المشيعون الذين يودعون في الجنازات الجماعية قتلاهم. وهذا ما تقوله الأمهات اللواتي ينظمن للأبناء مواقيت النزول إلى التظاهر وفي كل يوم واحد من أفراد العائلة، حتى إذا ما عاد أحدهم قتيلاً يبقى في البيت من يحرس الأيام المقبلة، يبقى من يأتي بالخبز. وهذا ما أتخيله من حوار بين الأمهات وهن يرجون الأبناء أن لا يخرجوا إلى القاتل، لكأنها القصيدة التي كتبها حسن عبدالله عن أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً، أظن أن حسن كتب للأمهات اللواتي انتظرن عودة الأبناء من جبهات المقاومة مع إسرائيل. ترى ما الفرق بين قاتل وقاتل؟ بين شهيد وشـــهيد؟ هل اللغة تحدث فرقاً؟ هل القتل بيد تكتب لغتي هو نوع من التأنيب لا يستدعي شهادة ما تأتي في الشعر أو في التحليل أو في الفكر؟ والقتل بيد تكـــتب لغة أخرى هو فعل همجي؟ هنا أسال الشعر والشعراء والمثقفين والحداثيين والتراثيين الذين أفنوا أعمارهم في البحث عن معنى، عن خروج من فكرة الكتاب الواحد والحزب الواحد والزعيم الواحد. أليست هذه الثورات بداية الخروج من هذا النفق؟ لكأن بعضهم في غيبوبة وبعضهم في غياب، وبعضهم يقوم في مهمته مثفقاً للسلطان وهذا أوضحهم... هذا ما يقوله القتيل، صمتكم يقتلنا.

أما في الكلام عن المستبد، فيبدو أن المستبد دائماً يخطئ الهدف، ويظن أنه هو الاستثناء، لكنه في زمن سقوطه يكرر خطأ شبيهه في كل مكان، يتهم شعبه بالتآمر حين يخرج شعبه مطالباً بكرامته، وبحريته، ويحشد الكتبة والمثقفين المقاولين و بعض مطربي المطاعم والمدّاحين والكوميديين إلى ما هنالك من كومبارس لتصوير «الفيلم» حيث يبدو فيه كأنه غرامشي، ويصوره بعضهم إسرافاً
في التماهي مع الدور، ضحية، ثم يمضي هذا الضحية إلى المهمة الوحيدة التي يتقنها بمهارة عالية هي الاستبداد بدءاً من إخفاء الصوت الآخر إلى القتل وإخفاء الجثة.

و كثيراً ما تكتب فيه القصائد، أكثر من الشهداء، وتكتب في فكره أطنان من الكتب، وبعضهم من غيرة أو طموح مفرط، يعلن نفسه شاعراً أو روائياً أو مفكراً وتعقد من أجل إبداعه الندوات والمؤتمرات... وحين يصبح في المأزق وفي الحفرة، أو تضاف عليه صفة ما، كالرئيس الهارب أو الرئيس المخلوع أو الرئيس المحروق أو الرئيس المختفي أو الرئيس المشنوق، والحبل على الجرار، كما أشار القذافي مرة في الجامعة العربية. يوم أعدم الرئيس صدام حسين شنقاً، قال القذافي: بكرا الدور جايي عليكم، وأشار إلى الرؤساء، واستثنى نفسه لأنه كما ذكرت، المستبد يعتبر نفسه دائماً مختلفاً عن الآخرين ولا يصيبه ما قد يصيبهم لأنه الأعدل وفق ظنه والأذكى والأثقف والأكثر شعبية وحباً من الجماهير. وهذه للآسف تضاف إلى جملة أوهام يعيشها المستبد الذي حين يصبح في الحفرة أو ما شابهها من مصير يختفي هؤلاء المدّاحون والمثقفون أو يلبسون دور الضحية التي أجبرت على أداء هذا الدور أو ذاك، ويعتبرون أنفسهم خارج دائرة الاتهام وغير معنيين بصرخة القتيل أو بعتابه: صمتكم يقتلنا. على كل حال، التاريخ هو العدل الذي يحكم، أما الصوت الذي سيبقى يتردد صداه لأجيال فهو هذا الواضح من ألم وعتاب ولوم للذين يشاركون بصمتهم في الجريمة.