2005-09-30

روافد مع الروائية هدى بركات

إعداد وتقديم

أحمد الزين: كان صيف باريس لهذا العام حاراً وشهر آب شهر العطلات يبدو يمر كسواه بالنسبة لهذه السيدة المغامرة، المغامرة في الحياة كما في الكتابة الإبداعية، هدى بركات التي حاولت ترتيب أيامها بخسارة أقل في مدن لا ترحم المقيم فيها أو العابر، فكلاهما قد تذهيب سنوات عمره سدى إن لم ينتبه إلى إيقاع الزمان في عالم يشبه محطات القطارات، فهناك من يتأمل عبورها ويصغي إلى شجن تولده صفاراتها في البعيد وهو جالس على مقعد الانتظار، وهناك من يصعد واحدة من العربات ليكتشف مجالات الأنفاق أو يبحث عن مخرج يجعل من إقامته أو عبوره ذات معنى، ليس بالضرورة أن يفضي إلى فضاء باريسي سياحي بل إلى ما هو أبعد داخل النفس والخيال والذاكرة وتقاطعاتها مع الأمكنة، هذا إذا كان العابر مسكوناً بلوثة الكشف وليس الاكتشاف الظاهري وحسب كما صاحبة أهل الهوى هدى بركات المسكونة بروح المغامرة وسبر أغوار الذات للوصول إلى لغة السر لغة الإبداع، كنت مسكوناً بـ "حارس المياه" رواية من رواياتها التي تدور أحداثها وسط العاصمة بيروت يوم كانت ركاماً وخرباً داشرة، حين التقيتها في مقهى على رصيف من أرصفة نهر الساند بجوار حيها أو في الأصح تواعدنا أو تواطأنا على هذا اللقاء لتدبير شؤون الحوار حول تجربتها الروائية وحول حياتها، ثم وأخذتنا المدينة قليلاً وفق مزاجها الباريسي واصطحبتني هدى إلى مطرح عال يشرف على مشهد من العاصمة لعله يذكرها بجبال بشرني ولو قليلاً، ثم اصطحبتني إلى عالم آخر أكثر سحراً عالم صاغته رواية ليصبح لعبورها معنى أكثر عمقاً ربما في هذه المدن وتلك الحياة،

(هذه بيوت عابرة لا تنزل فيها أو تقيم بل نستقلها من نقطة إلى أخرى من زمن إلى آخر إنها أكثر شبهاً بالقطارات من محطاتها) هذا مقطع من بعض الرسائل في كتاب رسائل غريبة، يعني هدى بركات من 15 سنة أنتِ ساكنة هذه المدينة باريس، هذا الشعور بالعبور الذي طال أمده 15 سنة هو نتيجة حنين لمطارحك الأولى البعيدة أم نتيجة رفض ضمني للانتماء إلى هذا المكان أو لضرورة ما ربما ضرورة العيش؟

هدى بركات: هيدا سؤال كثير صعب، يعني يمكن الواحد يكتب أساساً ليجاوب على بعض الأسئلة الصعبة وبالنهاية ما كثير يقدر يجاوب عليها، بعدما فقدت المكان الأصلي بلى ما تفهم ليه؟ بلى ما تقتنع أنك كان لازم تتركه تصير كل الأمكنة هي أمكنة عبور يعني ما.. وهذا شي ما في كثير مرارة يعني مش مشكلة، يعني آخر شي يتعود الواحد على أن حياة العبور كمان شي مهم، الوجود في باريس أو بأي مدينة أخرى أو بيوتنا يلّي مثل ما بدك تشوف في بيتي كل الأثاث خفيف، المسائل ما تستقر، الصور ما لها إطارات، كأن الواحد ما بقا فيه يحمّل لأولاده ذاكرة يهمه كثير..

أحمد الزين: ثقيلة..

هدى بركات: إي ثقيلة فعلاً ويهمه كثير أن يسافروا بهذه الحياة بأقل أوزان ممكنة، يعني يتصور الواحد أنه حتى بعد عمر طويل إن شاء الله إذا غادر باريس أو غادر الحياة ما يترك يعني هيك في إحساس بضرورة الخفة لأنه 15 سنة أو يمكن حتى 30 الشي اللي واحد تركه وراءه مش ضروري بهيدا الحنين المأساوي يعني لما بدنا نحكي عن مغادرة المكان الأصلي لأنه آخر شي ما تغادر شي يعني بالنهاية..

أحمد الزين: بتحملي الأمكنة معك غالباً؟

هدى بركات: تحمل الأمكنة معك وتظلك ما في شي عم يخرب عليك إنك تحملها معك فبيصير فيه نوع من الأرموني بين المكان الأصلي يلّي لازلت أنا عم بكتب عنه ومكان الإقامة اللي هو كمان مكان رائع يعني ما نو.

أحمد الزين: طيب من السياق ذاته بدنا نسأل هذه المدينة الصاخبة الجميلة شو عطيتك أو لنقل شو أخذت منك كمان؟

هدى بركات: حقيقة يعني عطتني أشياء كثيرة باريس، بالبداية ما كنت أشعر بهذا الامتنان أبداً، لأني كان عندي شعور كثير معادي لهذه المدينة لأني كنت كأني غار من باريس على بيروت، يعني أنت جاية من مكان انكسر على الأكيد جاية من مكان تشوّه بحلمك هلأ يمكن هو ما تشوه بالواقع، كلها المسائل نسبية وشخصية، وبنفس الوقت جاية على مدينة هي من الروعة وبنفس الوقت من الامتناع يعني هي مش بسهولة أنت فيك تدخل على باريس مثلاً، أنا جاية من ثقافة فرنسية ما تشكي من شي من لما كنت بلبنان، ما عندي يعني حواجز حقيقية للدخول بالحياة، هلأ باريس شو عطتني، هلأ بلّشت احسب شو عطتني باريس، يعني باريس عطتني أشياء حتى ما طلبتها، يعني مثلاً الفرنسيين أعطوني وسام هو أحد أرفع أربع أوسمة بعدني لهلأ ما فهمت ليه؟ يعني ما عرفت كيف أصلاً نبشوني؟ منين عرفوني؟ خاصة أنه ما فيش مؤسسة عربية أو عربية فرنسية مثلاً رشّحتني، وكانوا مش عارفيني يعني وسألوه عني وزارة الثقافة اللبنانية، هنّ مفترضين إني أنا ما عندي جنسية فرنسية، يعني هنّ ما يعرفوني لا بالهيئة ولا بالشكل، يعرفوا إنتاجي.

أحمد الزين: يعرفوك من كتاباتك؟

هدى بركات: يعرفوني من كتاباتي بس أنا ما بكتب اللغة الفرنسية، يعني هيدا الشي يلي كان كثير مفاجئ، بعدين عطتني فرنسا من النوع اللي عطتني ياه مثلاً أني أخذت منحة من كمان مؤسسة فرنسية كبيرة هي المركز الوطني للكتاب حتى أقدر أنتهي من كتابة رواية "حارس المياه" يلّي هيّ مكتوبة كمان مرة باللغة العربية، يعني أنا كمان تفاجأت لأنهم أعطوني مساعدة مادية خلتني أقعد ببيتي 3 شهور ما أشتغل حتى كفي هذا الكتاب إلى جانب الباسبورت، يعني هلأ أنا فيني روح على بلد عربي بلا ما أنطر شهر ونصف، بلا ما يشموني الكلاب على المطار.لسنا نشكل جماعة نحن الذين بقينا خارج البلاد، لا نتشابه ولا تشدنا أية روابط، قلما نلتقي وإذا حصل ذلك لصدفة ما فسرعان ما نفترق ونتفرق على إشارات من أيدينا بالتهاتف قريباً، ذلك بعد أن صرنا نعفي بعضنا بعضاً من العتاب الكاذب نفترق ونتفرق بسرعة ويداخلنا الجذل في التخفف من لحظة ثقيلة معترضة في سياق حياة تسير وتجري كالنهر الهادئ.

أحمد الزين: يعني شو اللي خلاك تجي على باريس يعني؟ شو الدافع؟ شو هي الأسباب ربما؟ ليش تركتِ بيروت واخترتي الإقامة مع ولديك؟

هدى بركات: يمكن السؤال هو ليش تركت بيروت؟ مش ليش جيت على باريس؟ أنا ما نقيت باريس، أنا كان عندي أخت بباريس عندها عشرين متر مربع يعني ممكن أوصل أنا والأولاد وشنتاتي على مكان ممكن نام فيه وأحس جزئياً بالأمان، يعني حدن فتح لي الباب وقال لي: فيك تنامي هون وهون ما في قصف، أنا صرت خاف بطريقة مش طبيعية بلبنان قبل ما أترك لبنان، يعني هيك تلبسني نوع من الفوبيا أنه إذا ما لقطتني الحرب لحد هلأ وشلّحتني حدا غالي راح تلقطني، يعني إحساس كثير عبثي يمكن ومش منطقي بأنها راح الحرب تقدر تلقطني، راح تصيبني، يعني راح تقدر.. يعني صرت خاف على الأولاد مثلاً بطريقة مش طبيعية أبداً، بدأت في الفترة الأخيرة ببيروت أتساءل: شو عم بعمل هون؟ شو وجه مكوثي أو قيامي في هذا البلد مع إحساس عميق بأني ما بقيته بلدي، مش بلدي مش بلد حدا، ولا أني عندي فكرة تقنعني أنه لازم أبقى أو قناعة سياسية أو غير سياسية، يعني صرت موجودة بشكل مجاني ببلد ما بدّه إياني، مش بحاجة لي مع مجموعات من الناس المتكاتفة على فكرة، على مبدأ، على حزب، على طائفة، وأنا ما إلي علاقة بهذا العالم..

أحمد الزين: خارج هذا المعنى؟

هدى بركات: طبعاً.

أحمد الزين: طيب هدى في باريس أنت كتبتِ تقريباً معظم أعمالك، بتقديرك أنت فيما لو بقيتِ في بيروت كنت كتبتِ بهذه الطريقة، بهذا الدفء أو كنتِ تناولت تلك الموضوعات بذلك العمق الإنساني إذا صح التعبير؟

هدى بركات: ما بعرف.

أحمد الزين: كنت كتبتِ.. ما بتعرفي؟

هدى بركات: ما بعرف، لا ما بقدر جاوب على هالسؤال حقيقة لأني ما بقدر حط نفسي بهالمكانين، يعني بمكان أوقات بشعر أني أنا يعني مَنّي موجودة بباريس كمان بعدني بالطائرة اللي موديتيني من بيروت لباريس كمان يعني..

أحمد الزين: إحساس بالعبور؟

هدى بركات: الإحساس بالعبور نفسه، لدرجة أني بقيت لفترة طويلة لما أفتح النافذة بغرفتي فكر أني بدي طل على بيروت، يعني بأوقات معينة صار مرعب هالإحساس بالارتباك بين الأمكنة، لحد ما استقريت على أنه مش مشكلة أن يقيم الإنسان بمسافة ما بين مكانين.لا نشكل جماعة ولا نحب تشابهنا أو ما يذكر به، نفضل الذوبان في أي مشهد عام اتفق وجودنا فيه نفترق ونتفرق بخفه إلى بيوتنا بعد أن نشاهد أو نسمع عن بيروت لنحتفظ لأنفسنا بما نريد، لا نعلق على جدران بيوتنا صوراً أو ملصقات مثل تلك التي تمثل ساحة البرج أو بحر الروشة والتي تُباع بكثرة في البلاد مع أننا حملناها معنا من آخر رحلة أو حملها إلينا أحد القادمين، نضعها في الخزائن والأدراج احتياطاً كغرضٍ ربما احتجنا إليه يوماً لاستعمال لا نتبينه الآن، ليس في بيوتنا هنا ما كان لها هناك مما يدل على انتمائنا إلى بلاد ما ومحبتنا لذلك الانتماء كأن الحياد وسلامة جريان الوقت هو كل ما نبتغيه، ويؤاتينا هذا الطقس الرمادي دائماً.

أحمد الزين: يبدو هيك من خلال جولاتنا الصغيرة معك في باريس أنت مش على علاقة كثير حميمة بهالمدينة، يعني الفضاء الكبير الباريسي غير منعكس تماماً في تجربتك الكتابية على الأقل، يعني يبدو أن فضاءك أكثر داخلي، أنت بيتوتية مثل ما نقول عنا بلبنان، هلأ كروائية أنت شو مفهومك لهذا المكان، المكان بشكل عام شو مفهومك له؟

هدى بركات: الحقيقة أني أنا فكر أنه مش فكّر بحس وبكتب بهيك أن الجغرافيا مش يعني شغلة كثير ثقيلة، أن الجغرافيا هي شغلة كثير ذاتية، كثير داخلية، هلأ مثلاً لما بمرق بباريس بعدني بمرق فيها مثل السائح، يعني أنا عم قول لك حتى ما نكرر نفس الفكرة باستمرار الشيء اللي ما بحبه مثلاً بباريس هي أن ولادي مثلاً صاروا باريسيين كثير مثلاً، هيدي حتى نرجع للسؤال الأول، يعني أنا مثلاً إذا بقول أسامي معينة من ذاكرتي ولادي ما بقا يعرفوا شو معناها، هيدا عذاب الهجرة.

أحمد الزين: كل الأمكنة هي أمكنة عبور في نهاية المطاف، لذلك يتملكني هذا الشعور بالتخفف للسفر بالحياة بأقل الأوزان الممكنة.

أحمد الزين: أحياناً يكتب الإنسان للجواب على بعض الأسئلة الصعبة التي تراوده، ولكن لا أظن أنه يستطيع ذلك تماماً، ترى لأجل ذلك تزاول هدى بركات لعبة الكتابة للعثور على جواب ما لسؤال صعب، لا أدري ولا هي تدري كما قالت، لكنها تكتب وهذا يكفي، جاءت باريس منذ سنوات طوال، حملت معها ابنيها وأحلاماً وصوراً وذكريات كمثل كل الذين يهاجرون، ولكن مع فرق شاسع أن الأمكنة بالنسبة لها هي أمكنة عبور وليست أمكنة إقامة، وقد يستطيع المرء أن يقيم بين مكانين، فالجغرافيا قد تتحقق أحياناً بهذا المعنى والشرفة التي كانت تطل منها على بيروت ما زالت قائمة لإطلالاتها الكثيرة التي نشترك فيها من خلال تحققها أعمالاً روائية، نحن حيناً أبطالها، أبطالها بمقدار، وحيناً آخر شهودها، وحيناً تقذفنا إلى خلاء جغرافي لنكتشف بعض نزعاتنا الإنسانية وبعض هواجسنا ومشاعرنا وكأن باريس بالنسبة لها حتى الآن بمستوى ما، مكان تطل منه على بيروت لكتابة المدينة وأحوالها.

خلينا نرجع طالما عم نحكي عن موضوع الكتابة نرجع للبدايات، يعني خلينا نقول للحوافر اللي خلت هدى تتجه إلى الكتابة، يعني كيف اكتشفت هدى الأخرى في نفسك هيدي هدى الكاتبة؟

هدى بركات: أول شيء تبلّش تكتشف شي يشبه المرض أن أهلك بيصيروا مثلاً قلقانين عليك أكثر، أن هالبنت تظلها شاردة، نحكيها الجملة مرتين ثلاثة، يعني هو إحساس عميق بعدم الالتصاق بالواقع أو بعدم القبول فيه مثلما هو، يعني تحس دائماً في هيك نوع من المسافة اللي ما بتعرف ليش أحياناً عم تركب بينك وبين الواقع، يعني أنت بتحكي يطلع صدى كلامك مختلف، يعني كان عندي إحساس بأن الأدب شغلة كثير عظيمة يعني مش بالسهولة أن الواحد يجرّب يعمل أدب، يعني شغلة كبيرة كثير، بس أعتقد أني بلّشت أكتب عن جد لما بلّشت حس أن حقيقة حواري مع العالم مش راكن يعني مش مضبوط.

أحمد الزين: ففتحتِ حوار آخر مع شخصيات؟

هدى بركات: فبلّشت تجي شخصيات لحالها وبلّشت حس إنو.. مش إنو فيه رغبة، فيه نوع من الضرورة الفيزيائية بأن الإنسان يكتب، مثلما لما يطهر جرح أو لما يحس أنه هو مضرور، يعني آكل شيء يعني عنده هيك أنه فيه شي مش طبيعي بجسمه عم يبرم.

أحمد الزين: بده يعالجه؟

هدى بركات: بده يعالجه، هي يمكن هيك تبدأ حاجة..

أحمد الزين: بهالمعنى الحقيقة بدي اسأل أنك أنت من الجيل اللي كتب عن الحرب اللي حدثت في لبنان.

هدى بركات: أنا مش موافقة عن الحرب.

أحمد الزين: أو في الحرب؟

هدى بركات: من الحرب انطلاقاً..

أحمد الزين: يعني بتقديرك الكتابة عن هذه الموضوعات بالتحديد طالما عم نحكي عن العلاج هي نوع من التطهر من ذلك الخوف، من ذلك الرعب، من ذلك الموت؟

هدى بركات: أكيد إي، بس أكيد ما فيني حط تفاصيل على اللي أنت عم تقوله، يعني فيني أستغرق بشخصياتي، فيني أسترجع كيف بدأت أكتب أهل الهوى، فيني أسترجع حكاية كل حكاية خبّرتها يلّي هن مختلفين كثير عن بعض يمكن عندي أنا لأنه فيه أربع أو خمس سنين بين والرواية والثانية، ويمكن المشكلة أن بس تخلص كتاب ما تحس أنك صحيت، لو رجعنا قلنا أنه هو نوع من علاج للخوف، أحياناً فيه كتب تجرّك إلى خوف أعمق.

أحمد الزين: أو إلى بحث آخر عن غامض آخر بدك تخلصي منه أو بدك تعرفيه شو هو؟

هدى بركات: هي المشكلة، لأني أنا ما بحس أن الكتابة ضرورة لي، مش شي هالقد مرعب إذا بطّلت أكتب، مش شغلة كارثة إذا.. يعني هي إذا بدك حياتي الموازية يلّي ممكن تكون هي الحياة الحقيقية، بينما هي الحياة الحقيقية تفصيل سخيف يعني ما في شي بحياتي أنا شخصياً يستاهل أن الواحد يتوقف عنده ويعمل عليه ملاحم أو يقول أني أنا ضروري أكتب لأني عندي مثلاً ما بعرف تجارب إنسانية عظيمة أو شي، يعني كله بالهاجس، كله تقريباً حتى الواحد يدخل يعطي مثالاً يُفهم منه أكثر، أنا لما خلصت كتابة أهل الهوى ازداد رعبي، يعني بعد فترة لما رجعت قريتها لهذه الرواية تفاجأت كثير أنه منين طالع هذا العنف؟ أنا ما كنت عارفة إني أنا هالقد عنيفة، إني أنا هالقد شربت عنف وما هضمته، إني أنا هالقد قادرة على إني روح على الأماكن السوداء، وإذا بدي أعم لك اعترافات فيني قول لك: إني أنا شخصية هذا الكتاب ما تركتني، يعني مثل ما كان يلح عليّ بوجوده ببداية الكتابة أكثر صار يلح في النهاية، بس قصدي أنه بالعودة للسؤال أنه هل تطهر الكتابة؟ ما بعرف إذا حد يقدر يجاوب على هذا السؤال أبداً.

أحمد الزين: ربما يعني تشفي قليلاً؟

هدى بركات: مسكن يعني يمكن صغير.

أحمد الزين: ترجع اللحمة من جديد، الملفت في كتاباتك هدى أنك أنت دائماً تستخدمين ضمير المتكلم، هو ضمير المتكلم عندك دائماً رجل ذكر وليس أنثى، إلى حد يلتبس عند القارئ أن حتى الكاتب هو رجل لأنك تفوتين بعمق الشخصية الذكورية وبجرأة عالية، بتقديرك هل الأنثى هي أدرى بأحوال الذكر من نفسه؟ وهل أنت تقدرين تخلقي مسافة بين هدى الأنثى وهدى الكاتبة لتلك الشخصيات؟ أرجو أني كون وضحت السؤال.

هدى بركات: إي سؤال ما فيك توضحه أكثر من هيك لأنه هو معقد بالأساس؟ خلينا نقول أن.. أنا بالنسبة لي أنا يعني أول شي الكاتب ما له جنس، بس تدخل بعملية الكتابة هويتك الجنسية تتغير، الحقيقة أني أنا بكتب من منطقة منّا من الذاكرة، يعني ما خبر أشياء حصلت وبرجع أسترجعها وأؤلف عليها، على طول المغامرة هي.. الكتابة هي نوع من المغامرة، يعني أنا عم بقفز بمكان ما بعرفه يعني وبستمر فيه أنا وعم أكتشف..

أحمد الزين: وأنت عم تكتبيه تكتشفيه؟

هدى بركات: إي أكتشف فيه نفسي، أكتشف فيه الشخصية يلي بدأت تلح عليّ من الأساس، أنا مش عارفة شو بدها؟ هلأ النوع من التغريب أنك تأخذ جنس مختلف عن جنسك الأصلي، يعني فيها مغامرة أكثر، فيها تأليف أكثر، فيها تعقيد أكثر بدون ما تكون أنت تتخفى حقيقة، لما مثلاً نرجع للنص لما رجل أهل الهوى يقول أنه: يطلع غياب هذه المرأة فيّ كما يطلع الحليب في ثدي المرأة المرضعة، يعني وين الحد؟ وين الحدود الحقيقية؟ الحقيقة أنا بكره الحدود شو ما كان نوعها، فلما بكتب آخذ هذه الحرية العظيمة بأني ما كون أنا وراء حدود جنسي، وبنفس الوقت ما كون بعيدة عن اللعبة اللي عم تبين فيه أنه انتبهوا، بعدين مثلاً بآخر رواية حجر الضحك أبين أني أنا الكاتبة المرأة، بس أحلى لي بكثير أجمل لي يعني مغري بالنسبة لي أكثر بكثير أني عقّد الحكاية وإني خبّرها من المنطقة اللي هي معروفة ومجهولة بذات الوقت.

أحمد الزين: بس فيه شق من السؤال يمكن ما انتبهتِ له أن الأنثى بشكل عام والكاتبة أيضاً أدرى بأحوال الرجل من نفسه، يعني فيما لو أنا عم بكتب عن أنثى، عندي شخصية أنثى عم عالجها يعني أنا أدرى بنفسها منها هي؟

هدى بركات: هو السؤال على شو عم نبحث؟ هل عم نبحث عن الحقيقة؟ فيه كتب كتبوه نسوان عن حقيقة واقع المرأة الاجتماعي شغلة عظيمة بس أنا مش معنية فيها، يعني مستوى كتابتي ما هو مستوى معالجة اجتماعية، هي أكثر الحكي عن الشرط البشري يلي نشترك فيه نساءً ورجالاً بشكل معقد كثير أكثر مما يفترض التناول الاجتماعي، أنا ما عم دوّر على الحقيقة، أنا مش معنية بالحياة أبداً، ولا مرة كان عندي ادعاء أو قلت أنه: تفضلوا يا شباب ويا صبايا اقرؤوا هالكتاب ورح قول لكم شو هي الحقيقة؟ أبداً.

أحمد الزين: سؤال الحياة، سؤال الكتابة، سؤال الجرأة، سؤال الجرأة والمغامرة في اكتشاف الذات في مرآة الآخر، واكتشاف الغامض في رحلة الكتابة، عن الشخصيات القادمة من معادلة الواقع والمتخيل والمركب، الشخصيات القابعة في أعماق النفس، عن هذه الموضوعات وسواها سنتابع مع هدى بركات في حلقة ثانية لنكتشف معها بعض ملامحنا في تجربتها وبعض حياتها كاتبة شغلها سؤال الأدب وسؤال الحياة.

أحمد الزين: عندما سألتها: ماذا أخذت منك باريس؟ قالت: أخذت ما كنت أرغب بالتخلي عنه، وهو تلك الأحمال المترتبة على المقيم بين أهله وصحبه، وعندما صرت وحدي صرت أكثر قسوة مع نفسي وعلى نفسي، أظن هي أيضاً صارت أكثر قسوة مع محاكمة نصها وكتاباتها، وأظن أن تلك المسافة التي اتخذتها هدى بركات عن مكانها الأول هي التي درّبت مشاعرها وحرضت لغتها لقيام جسر بين مكانين بنته من حكايات لتعبره ذهاباً وإياباً وغالباً تقيم فيه كاتبة وتتركه قليلاً لضرورات الحياة، مقيمة هنا في هذا الفضاء الباريسي أو عامرة كما ترغب أو كما تشعر بذلك، لكنها في الواقع تقيم متنقلة في منازل نصوصها، مثلاً هي زائرة في "زائرات"، وعاشقة في "أهل الهوى"، وحائكة حرير اللغة في "حارث المياه"، وحجرها الأساس ليس فقط حجر الضحك رواية من رواياتها، بل حجر بنت المنقلبة من شواهق جبال الشمال اللبناني إلى مدينة اسمها بيروت حيث درّبت هواها، ثم إلى باريس مدينة المعرفة والقسوة في آن، حيث تدربت على كيفية التسلل في مسارب الذاكرة للعثور على معدن النسيان، هدى بركات كلما قرأت رواية لها تتعرف على هدى أخرى، لكأنها كاتبات يروين بصيغة طرق الأبواب لندخل بمتع الحكايات.

أحمد الزين: طيب في مستوى آخر من الكتابة هو مستوى الجرأة في دفعك للشخصيات إلى احتمالات القسوة، الاحتمالات الإنسانية والغرائزية أحياناً في تعريتها هيك في مساحات من الخلاء، يعني هل تقاطعات رغبات الكاتب وغرائزه وتقلبات مزاجه تتقاطع أحياناً مع رغبات شخصيته يعني؟

هدى بركات: أكيد هيك وهيدا المرعب، يعني هيدا سؤال إذا بده الواحد يأخذه كدرجة من درجات تقسي الوعي بالكتابة مرعب، تفضّل ما تعرف مثلاً إني أنا اكتشفت أنا وعم بكتب لأي درجة المرأة مش كائن مسالم مثل ما تربيتي كانت مثلاً تعودني أو الأدبيات اللي كنت أقرأها أو راجعها أننا نحن نعطي الحياة ما فينا نكون كائنات عنيفة أو كائنات شيطانية، للرد على سؤالك أديش عندك أنت جرأة؟ يعني جرأة تجاه نفسك أديه تقدر أنت تتحمل تبعات أنك تكسر قناعة وراء الثانية، يعني كسر القناعات مش مثل لما كنا نقول لما كنا عمرنا 18 أنه لازم الإنسان.. هذه شغلة مهولة يعني كبيرة كثير أنك قناعة مستتبة ترجع تكسرها وتفوت بشرط البحث عن جديد لأن البحث يعني أنك عم ترجع تهجس، عم ترجع تشكّل، عم ترجع تقول لأ ما هيئتي بعرف شي، يعني كل الموروث على مختلف مستوياته المرعب أنه ممكن يرجع يهتز كل مرة، يعني رغبتك بأنك تبعث شخصية لها مكان كثير كاشف وكثير خطر هي رغبتك الفعلية الحقيقية بأنك تروح لهذا المكان مع احتساب الخطر..

أحمد الزين: المحتمل.

هدى بركات: إي الاحتمالات، يعني ممكن الواحد أوقات إذا بده يبالغ ليتسلى فيّ قول أنه فيك تبدأ بكتابة رواية ويمكن ما ترجع منها..

أحمد الزين: يمكن ما ترجع منها.. صحيح.. مشان هيك الكاتب نتيجة هذا التقاطع الكبير بينه التقاطع الإنساني الغرائزي والنفسي والعقلي بينه وبين شخصيته اللي عم يكتبها هو يصير لا جنس له لا ذكر ولا أنثى.

هدى بركات: أنت لما تقرأ لكاتب كثير كبير لما تفوت بالعالم يلّي هو عم يقدم لك إياه بالكتابة ما أنت ما تفوت بجنسك يعني ولا بجنسه، يعني هيدي مسائل عابرة للأجناس بحكم المستوى اللي أنت عم تطلبه من الكتابة، هلأ بذات الوقت إذا الكتابة من أساسها يعني طرف الخيط يلّي الكاتب عم يعطيك إياه هو مستوى معاناة اجتماعية شرط اجتماعي شرط سياسي بتقبل بتدخل فيه، بس أنا على الأقل مش هيدا..

أحمد الزين: شخصياتك معظمهم مش من هذا القبيل.. مجانين..

هدى بركات: بعدين أنا رح قول لك شغلة: يعني طبيعي أنا كمرأة حب أكتب عن الرجال، يعني ما بعرف أنا ألاقيها طبيعية. هكذا هم الأصدقاء، هكذا هم الأصدقاء والغرباء هؤلاء الذين بتنا نلتقيهم عرضاً في هوامش نهاراتنا التي صرنا نجهد حتى لا تضطرب بالمفاجآت، حتى تنتظم على سلامة الضجر وأمانه، نلتقي كما تتقاطع القطارات، ونرى بعد أيام من رحيلهم أننا إنما احتفظنا بصور مهزوزة مرتجة الخطوط واهمة بل لعلها كاذبة قليلاً أيضاً، لا يشقينا أبداً غياب الدقة أو الوضوح عن تلك الصور إذ أن هذا الغياب سيتيح لنا أن نخترع اللقاءات كما نريد وبحسب رغبتنا، كل مرة مختلفة مع التعديل والإضافة حيث نشاء كما يفعل العشاق حين يستعيدون لقاءاتهم في الفرح والألم إياهما وفي لعب الخيال في فضاء الرواية المتكررة حين يستقل أحدهم التكسي إلى المطار أو إلى محطة القطارات نجد أنفسنا مسربلين بحالة غرام كاذب كالحمل الكاذب، نشتاقهم فوراً وتدمع عيوننا لشجن الكمانات والأغاني الحزينة نكاد نسرع إلى الهاتف لسماع الصوت للاطمئنان للقول أن كثرة التدخين أمر مضر أو إن المشي أحياناً شيء مفيد للصحة، كلام لم نقله في عز حكايات الغرام، إذ كنا أيامها طائشين مبهورين من أوار الشباب ومن رعونته.

أحمد الزين: طيب خلينا نرجع لموضوعات العمل الروائي بتقديرك الكاتب المبدع من المستحسن أن يأخذ وقته شوي بالابتعاد عن زمن الحدث وربما في الابتعاد في الجغرافيا عن الحدث حتى يقدر يعيد تشكيل هذا العالم اللي عاشه؟

هدى بركات: ما بعرف ما بعتقد فيه وصفة يعني ينجح النص أو ما ينجح، ما فيك تقول أنه يمكن كان لازم أنتظر أكثر، يمكن كان لازم أبعد أكثر، يمكن لأني ما زلت بدي أخلص.. لم تتوفر بعد المسافة، أنا ميالة أني قول أنه لما تبقى بنفس المكان داخل نفس الجغرافيا وبنفس الزمن فيه تعقيدات تستوجبها أو تستلزمها الحياة اليومية تعمل عليها برازيت يعني تخليك أنت يعني مش قادر يمكن تأخذ هالمسافة، بس كمان هيدا مش شرط يعني..

أحمد الزين: بتقديرك النص ما يفقد شيئاً إذا كان هو نص إبداعي بالآخر عمل روائي وعمل إبداعي، ما يفقد شيئاً من هيك من روحه التكوينية من هواجس الإنسان الأخرى غير مشاهداته اليومية اللي يحب يحكي عنها؟ يعني شو وظيفته.. يعني شو مهم إذا الواحد كتب رواية عن حرب وهو عاش الحرب وشافها وبتطلع فيه مشهد بالتلفزيون ربما يكون أقوى بكثير من عشرين كتاب تُعمل؟

هدى بركات: يعني هيدا أنت عم تحدد هلأ الشروط تبع اللي بده يخرج فيها هالنص أنه هو عم يتناول الانطباع للواقع المباشر، طبعاً ساعتها الكاميرا أحسن والريبورتاج أهم، والمؤرخ أهم وأهم، الإبداع اللي ولا مرة نقدر نعرف شو شروطه يعني أنا على طول عندي مشكلة مع النقد يلّي يحاول أنه يحدد شو هي شروط أن هالإبداع، بعدين إذا ترجع لكتب كثير كبيرة لروائيات ولروائيين نحن نعتبرهم كثير كبار في أوقات ما كان في هيدي المسافة، يعني وصف انهيار الإمبراطورية الأصرو إنكرواز كانت مع موزيل بمراحلها الحقيقية، يعني هو كان عم يرافقها وهو عم يكتب، مش دائماً قصدي بتجي الكتابة الكبيرة بعد الحدث، فيه أوقات ما بتعرف كيف كمان الإبداع يعني؟ يمكن هذه موهبة من الله ما حدا يعرف شو شروطها، الكاتب نفسه هو وين ما حطيته يقدر يأخذ هالمسافة يلّي تخلي أنك أنت عم تبدع بشرط معين عن مكان أو عن حدث معين بلا ما تستغرق بيومياته، ما في.

أحمد الزين: طيب أنت بأي مقدار كهدى موزعة بشخصياتك في الرواية؟

هدى بركات: شوف هيدا أصعب شي كمان يعني شو هالأسئلة هي؟ صعبة كثير..

أحمد الزين: ليه صعبة؟

هدى بركات: كلها.. كلها..

أحمد الزين: يعني أنت متناثرة في الشخصيات اللي كتبتِ عنها؟

هدى بركات: بعتقد إي، ما تقدر تتابع شخصية إلا إذا تمنيتها وحبيتها، يعني أنا بعتقد أنه ما فيه شخصية كاتبها يكرهها أو يحتقرها..

أحمد الزين: حتى لو كانت سلبية..

هدى بركات: إذا كانت سلبية بدا بعتقد..

أحمد الزين: جهد أكبر..

هدى بركات: إي مجهود أكبر بكثير لتتبناها وتحبها لأن الشخصية السلبية مش بس هي أنك تتبنى الجانب السلبي للبشر، يعني تقبل أنك أنت هيك أن البشر ممكن يكونوا أي شي..

أحمد الزين: ممكن يكونوا هيك..

هدى بركات: يعني منا.. يعني من الإخوة كارامازوف ما يقدر غير ما يحبهم كلهم نفس الشيء وإلا ما كان.. يعني الرواية تكون كثير ناقصة ويكون بعدها الإبداعي ناقص، مش بس أن..

أحمد الزين: بس ما يحدث معك أنك تتعاطفي مع شخصية أكثر من سواها وأنت عم تكتبي يمكن لأنها بتشبهك كثير؟

هدى بركات: أو تتعاطف معها لأنه ما بتشبهك أبداً.

أحمد الزين: هل الكاتب هو تلك الشخصيات التي يكتبها أو يخلقها ويدفع بها إلى التعرية في أمكنة كاشفة إلى مواجهة مصائر غالباً تكون مؤلمة وإن انعقدت حيناً على أمل يكون شحيحاً؟ وأين هو من هذه الثنائيات أو التعددية في السلوك والرغبات والرؤى والأحلام، أين هو من كل شخوصه؟ ولماذا يسير به في دروب مؤدية دائماً إلى خسارة أو فقدان، أسئلة ليست مطلقة أو معممة لكنها تراود من يقرأ هدى بركات، أو من يقرأ نصاً مسكوناً بتلك الروح الهاجسة بالريب وبالشك والقابعة على حافة الفقد، شخصيات تسير على حبل يتأرجح فوق هاوية، ترغب في مساندتها كي لا تسقط أنت في الهاوية فتشد الحبل لتمتينه ولضمانة احتمال العبور، إنها أمكنة يعدها الكاتب خصيصاً من استعارات الواقع والمتخيل لرحلته المؤجلة نحو ذلك المجهول، وكأنه يبعث بأبطال رواياته بالوكالة عنه ليختبر احتمالات قسوة ذلك المجهول ووحشته.

أحمد الزين: طيب كمان برواياتك وخاصة بـ "حارث المياه" و"أهل الهوى" هيدي الشخصيات تعيش نوع هيك من العذابات والمرارة والوحشة والوحدة ومثل ما قلنا أنه تدفعيها هيك كعزلة مرعبة قاتلة أنت على المستوى الشخصي يعني تحسي بعبثية هذا العالم وتحسي بالوحشة والوحدة؟

هدى بركات: بده يكون هيك [تضحك] يعني بدون ما فوت بتحليل نفسي فظيع يعني من النوع اللي نحن مش خصاصين فيه بده يكون هيك..

أحمد الزين: بده يكون هيك، وإلا هودي ما راحوا لهنيك ما بعثتيهم على تلك المصائر يعني..

هدى بركات: يمكن كمان لجرب أكثر بأكثر أنه شو إمكانيات إني أنا شخصياً.. يعني هوّ تبعثهم محلك يعني يعيشوا عنك بالوكالة..

أحمد الزين: حلوة كتير..

هدى بركات: تجرّب فيهن وتشوف شو رح يصير فيهن..

أحمد الزين: يروحوا يتفقدوا الوضع قبل ما..

هدى بركات: أيوة، تجرّب لوين؟

أحمد الزين: جنوب الاستطلاع..

هدى بركات: إي صحيح، مشان هيك عم قول لك أنه فيه شخصيات تبقى عايشة معك لوقت معين لأنه يبدو تقول لحالك يمكن بعثتها أبعد مما ينبغي وهلأ لازم أنا روح لعندها حتى أقدر ردها، يعني هلأ إذا.. فيه كتاب رح يسمعونا ويقولوا عم يشوطوا بالحكي كتير يعني عم يروحوا لبعيد، بس أنا بالواقع بعيش هيك يعني ما بخجل قول إلى أي درجة فيه مغامرات مع الشخصيات اللي عندي مش مشكلة إذا حدا ما فهم يعني، مش عم بكتب يعني مشان ضبّط أي وضع من أي نوع كان، وفيني آخذ..

أحمد الزين: ما عم تراهني على شي؟

هدى بركات: لأ الحقيقة.

أحمد الزين: كمان أيضاً بنفس السياق أنه فيه هيك فقدان فيه دائماً خسارات عند هؤلاء الناس، خسارات يعني بهالمعنى بتجي الكتابة نوعاً من الدفاع عن النفس نتيجة إحساس بالفقد بالخسارة؟

هدى بركات: أكيد هيك، شيء محزن اللي عم نقوله، يمكن الناس رح يبلّشوا يكركبوا يعني يحسوا هيك بيضيق خلقهن، هو نوع من الوعي الشقي اللي جرى أنه تسمى بهذه الطريقة، الحقيقة لأني أنا يمكن من بداية وعيي للعالم يلّي كنت مهيأة إني لاقيه كثير زهري ما فيه داعي يكون أسود، يعني أكلت كم ضربة قوايا يعني إلى جانب أنه يمكن الواحد هو كمان يعني صار أنه مهيأ شوي يشوف أن اللي عملوه البشر بحياتهم مش مفخرة أبداً، يعني عملوا أشياء فظيعة كثير وأشياء عظيمة كثير بس بعدن مخيبين للآمال يعني بعده قادر الإنسان يكون كثير فظيع، أنا ما كنت عارفة هيك، تفاجأت الحقيقة.

أحمد الزين: طيب اكتشفتِ فظاعة هذا الكائن البشري من خلال الحرب ومن خلال..

هدى بركات: لأ من خلال باب الحرب، الحرب فتحت لي لشوف شو عامل البني آدم؟ شو عمل كل حياته باستمرار؟ إن كان من خلال الآداب الكبيرة أو من خلال الحروب العالمية أو من خلال اضطهاد البشر للبشر أو من خلال حتى يعني الأشياء اللي تبدو لك سهلة وهايلة بأن الأسود ما لك مضطر أنك تحتقره لأنك أبيض وبعده لهلأ عم يكفّي الأبيض يحتقر الأسود بطريقة فظيعة مش بس بباريس بالدكانة، يعني شوف أفريقيا كيف عايشة؟ شوف كيف العالم الأبيض عايش والعالم اللي ما اسمه ثاني وثالث مدري شو عاد اسمه؟ ما بتفهم يعني ما فيه معادلة.. حتى لما بتكون قاسية تعطيك نوعاً من.. كيف بدي أقول لك الأمان، أنك لأ بتظلك عم تتفاجأ وبتظلك مش قبلان وبتظلك يعني مش معقول يا جماعة كيف عم تعملوا هيك؟

أحمد الزين: بتقديرك هذه الأشياء الكثيرة اللي تحدثتِ عنها والحرب اللي هشّمت الأحلام وحوّلت هذا الزهري اللي كنتِ تحلمي فيه إلى نوع من الرماد والسواد هي اللي ربما تكون الحافز الأساسي اللي خلتك تصيري هدى بركات الأخرى الكاتبة؟

هدى بركات: يمكن ما بعرف، يمكن كمان في مسألة لازم الواحد يتوقف عندها هي اسمها العمر، يعني طبيعي أني لما كان عمري 17 و 18 كنت مهيأة بنوع من التربية الطبيعية يعني مثل ما تربيك أمك والمدرسة يمكن أنا بشكل خاص كمان زيادة أن يكون كائناً منفتحاً على عالم زهري، ما فيه مبرر ما يكون إلا زهري. قلّ ما نتأمل في ألبومات الصور، تلك الصور التي التقطناها في البلاد وحملناها معنا إلى هنا، قلّ ما نتأمل فيها لا لأنها تثير الشجن والحنين لما مضى بل لأن في بعض الأغراض التي حملناها معنا شيئاً غامضاً يجعلها عصية على الاندراج في خانات الذكريات المختلفة، عصية على التصنيف بحسب ما تُملي مناسبات الماضي وما يرتبط به من لحظات مثيرة للمشاعر، إنها صورنا القديمة التي أودعناها الألبومات بشكل اعتباطي لم نرتبها بحسب المناسبات كما درج الجيل السابق على فعل ذلك بعناية كبيرة، ففي غرف الجلوس كانت ألبومات الزفاف والأشهر الأولى للوليد الأول جزءاً أساسياً من الأغراض التي تزيّن أركان الغرفة، وطويلاً ما تحكمت ببدايات الزيارات ومستهلات الأحاديث أو شغلت الزوار بتصفحها فيما تعد المضيفة القهوة، أو أطايب الضيافة، نحن لم نفعل ذلك، لقد جمعنا صورنا كيف ما اتفق، لم نستضف أحداً لينظر فيها وكثيراً ما نقف هنا حائرين أين نضعها؟ في متناولنا أم على الرفوف العالية؟ وسرعان ما نرفعها إلى الأعلى مشيحين بوجهنا عنها.

أحمد الزين: طيب هدى أنت من بشرّة بلاد جبران، كتبتِ عن تلك المطارح إلى حد ما وعن بيروت وعن.. ولكن ما كتبت عن باريس إلا بعض الرسائل منها..

هدى بركات: حيث هي غائبة..

أحمد الزين: حيث هي غائبة، أنت بتقديرك بس ترجعي على المكان المصدر الأول تكتبين عن باريس؟

هدى بركات: أول شي هل قولك رح ارجع؟

أحمد الزين: خلي السؤال لبعدين..

هدى بركات: إي، الحقيقة ما بعرف أنا ولا مرة بعرف عن شو بدي أكتب قبل ما أبدأ بالكتابة.

أحمد الزين: طيب مثل ما ذكرنا بداية الحديث كرّمتك باريس بوسام كبير وأيضاً كرّمتك باريس وأوروبا بالترجمة، هل كرّمتك ببيروت؟

هدى بركات: هلأ ما بعرف يمكن أنا بعتب دائماً بعتب على الناس يلّي..

أحمد الزين: تحبن..

هدى بركات: تحبن وتعرفن أكثر يمكن من غير أمكنة بس..

أحمد الزين: يعني يبدو ما كرموكِ..

هدى بركات: مش قصة كرموني أنا ما كان بدي يكرموني، أنا كنت..

أحمد الزين: بعرف أنك كنت بوظيفة ببيروت..

هدى بركات: كنت موظفة كحتوني من الوظيفة، الحقيقة بنفس السنة تقريباً نفس الشهر يلّي..

أحمد الزين: أخذتِ فيه الوسام.

هدى بركات: إي أخذت فيه الوسام تبين أن وزارة التربية أقالتني بلا ما تقول لي بعد 13 سنة كنت فيها معلمة ثانوي عم علّم كنت بالفعل فرنسي وعم عبّي 18 -20 ساعة تحت القصف، طيب هيدي شغلة معلش يعني..

أحمد الزين: طيب..

هدى بركات: مش معلش لأ الحقيقة بنقهر إي، بنقهر لأني ما بعرف ليش بخفة يتم التعامل أوقات بين الناس اللي بيعرفوا وبيحبوا بعضن يمكن، حتى الصحافة يعني مثلاً، الاهتمام النقدي، أنا ما كثير كمان للحقيقة لازم الواحد يقول اللازم..

أحمد الزين: بتروّجي لنفسك..

هدى بركات: لأ ما بحبها لهذه القصة، وهيدي مسألة تُفسر أني أنا شايفة حالي وأقول لك الجملة تقريباً اللي تُقال: أن هدى بركات ما صارت عالمية، ترجمة لعشر و15 لغة ما بقيتا بحاجة لنا، لأ أنا بحاجة لكم لأني بكتب بالعربي ولأنكم أنتم أهلي اللي بحبكن وبكرهكن بذات الوقت لأنكن ما بتعرفوا تحبوني يعني مش هيك يصير.

أحمد الزين: هدى بركات ربما كان اسماً عادياً عابراً لفتاة جاءت من بلاد جبران إلى الحياة، لولا لم تثبت أن عبورها لم يكن مجانياً أو عادياً عبر تلك الأعمال الروائية التي جعلت منها اسماً تناقلته اللغات في ترجمة حكاياتها ولم يسقط حضورها أو يمر خفيفاً أو خفياً كما يحدث دائماً بل ترك علامات لعبور مغامر ومبدع وما زال يبحث جاداً عن استكمال حضوره. طيب لو نرجع هيك للأشياء الحميمة شوي لو أردنا التحدث عن بعض الخسارات في حياتك الشخصية، يعني هل من خسارة هيك ما زالت تترك أثراً بليغاً للمرارة؟

هدى بركات: لأ ما..

أحمد الزين: ما فيه..

هدى بركات: ما بعتقد لأ، يعني الحمد الله أنه ما في شي هيك على المستوى اللي هيك العلني أو العام أو حتى الشخصي يعني الحمد الله.

أحمد الزين: الحمد الله، طيب هذا العبور الطويل في باريس بتقديرك سوف يؤدي عودة إلى بيروت؟

هدى بركات: بتعرف يعني بعد وقت ومثل ما قلنا أننا قررنا أن الجغرافيا مش هيّ هالقد عنصر محدد يعني خصوصي للحياة الداخلية للإنسان أنا مطرح ما أولادي أكون، شروط العيش بلبنان اللي هي شغلة اللي هو بلد عظيم كثير يعني ومش معقول أديش مدهش وحلو، صعبة كثير يعني إذا حدا من أولادي قرر أنه ديما أو رضا قرروا ينزلوا يعيشوا بلبنان بصير أنا ساكنة فيّن بلبنان.

أحمد الزين: فيه مطارح هيك تلازم ذاكرتك على طول يعني؟

هدى بركات: إي..

أحمد الزين: وين هي المطارح؟

هدى بركات: فيه مطارح كثيرة كانت في بيروت ما عادت موجودة مشان هيك كانت هيدي الخسارة اللي أنت تحكي عنها يمكن لأني بخجل أنا أحكي عن خسارات شخصية، فيه جزء منها في بيروت ويعني خلص راحت تأكدنا هلأ.

أحمد الزين: لمين تشتاقي أكثر شي بس هيك؟

هدى بركات: لضيعتي، لأن بيروت ما بقيت هي ذاتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق