محمد شكري: صباح الخير أيها الليليون، صباح الخير أيها النهاريون، صباح الخير يا طنجة المنغرسة في زمن زئبقي، هاأنذا أعود لأجوس كالسائر نائماً عبر الأزقة والذكريات، عبر ما خططته عن حياتي الماضية الحاضرة، كلمات واستلهامات الندوب لا يلهمها القول، أين عمري من هذا النسَج الكلامي؟ لكن عبير الأماسي والليالي المكتظة بالتوجّس واندفاع المغامرة يتسلل إلى داخلي لكي ليعيد رماد الجمرات غُلالة شفافة آسرةً، لقد علمتني الحياة أن أنتظر أن أعيَ لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما استحصدته، قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتماً طريقها لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تُشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية، أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات، فيا أيها الليليون والنهاريون.. أيها المتشائمون والمتفائلون.. أيها المتمردون.. أيها المراهقون.. أيها العقلاء لا تنسوا.. لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا، لعبة مميتة لي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا بإماتتنا أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة، أقول: يخرج الحي من الميت، يخرج الحي من النتن والمتحلل، يخرجه من المثخن والمنهار، يخرجه من بطون الجائعين ومن صلب المتعيّشين على الخبز الحاف. محمد شكري- طنجة- 17/5/ 1982.
أحمد الزين: كان ينبغي أن ألتقيه هنا في هذه المدينة في ناحية من أزقتها أو في حانة من حاناتها الليلية، لكنه تخلّف عن الموعد وغاب، رحل وبقي صوته وطيفه يتفقد أحوال المدينة في غيابه وصورته على جدار في ليل طنجة، بحثت عنه في صفحات الكتاب المدينة البيضاء المترامية على مساحات الزمن المغربي، بحثت عنه في الماضي السحيق في مدن التاريخ خلف أسوارها وبواباتها وفي عيون أهلها في الأزقة الفائضة بالناس والذكريات، كان ينبغي أن ألتقيه هنا في نصفي الآخر نصفي الضائع والغائب، أو أن أبحث عن ملامحي في ملامحه في بلاده وعن حضوره في حضرة المدن، أن أبحث عن الصوت في صوته عن الخبز في جوعه القديم ، وعن رغيف للجائعين في الأرض في كتاب الغائب ولكنه تعب من الانتظار ورحل إلى صمت نصّه وترابه على شواطئ مدينة التاريخ، طنجة هنا حيث تعانق الروح المشرقية مغاربها نحو الأندلس والحنين، هذا المنتمي إلى المهمّشين في الأرض والحياة، والمعبّر عن مهاناتهم وأوجاعهم وأحلامهم والحضيض الإنساني الذي يعيشون فيه، لم ينتظر أو لم يمهله الزمن بعض الأيام، كي يكمل نصه الآخر عن ليل طنجة و نهاراتها عن الزمن المغربي، عن الإنسان، عن الحب، عن الحرية، وعن الحياة.الشاعر
محمد شكري: أولاً كتبت عن الطبقة المهمّشة، وليس الطبقة الهامشية كما يقال دائماً، لأن الطبقة الهامشية هي التي تختار تهميشها، بينما الطبقة المهمّشة هي الطبقة المفروض عليها التهميش، اختياري للكتابة عن هذه الطبقة هو عدم خيانة جلدي القديم، وجلدي القديم يعني انبثق يعني وكبر معي في هذه الطبقة، وفي فضائها، في أزقّتها ودروبها الضيقة، خاصة مدينة طنجة رغم أن في كتاباتي بعض الفصول التي كتبتها عن العرائش والتطوان والفضاء التطواني، هناك ملامح في الخبز الحافي بينما يعني الفضاء الثاني وهو الفضاء العرائشي موجود في الجزء الثاني من سيرته الذاتية زمن الأخطاء. وطبعاً إذا كنا.. أنا لست كارهاً لهذه الطبقة رغم أنها تسيء إليّ أحياناً لأنها تعتقد أنني أتاجر بحياتها عندما أكتب عن المباذل التي تعيش فيها، بينما أنا لا أتكلم عن مباءة يعني جزافاً عن هذه الطبقة بل عن الأسباب التي جعلتها تعيش يعني في المباءة الاجتماعية، أو في مباءاتها. الأديب الشاعر محمد بنّيس: محمد شكري هاجر من قريته في الريف صحبة العائلة إلى مدينة طنجة أيام الجوع، أتى ليكتشف الجوع في طنجة عكس ما كان يحلم به وكانت تحلم به العائلة، وعاش التشرّد وعاش الجوع، وهذه كلها جعلته طفلاً شقياً في هذه المدينة أيضاً ومن هذه الحياة قرّر محمد شكري أن يتحدّى واقعه ويتعلّم، ومن التعلّم أيضاً تحدّى وقرّر أن يكتب، وعندما كتب.. كتب لنا مدينة طنجة كما لا نعرفها، طنجة محمد شكري التي خلّدها في كتاباته والتي أعطاها هذه الصورة العاشقة فهو أحب مدينة طنجة رغم أنه عاش جميع مظاهر القهر ومظاهر الفقر، ومن هذا العشق جعل كتابته تسمو بهذا المجتمع البسيط، وبالحياة الصعبة والقاسية التي يعيشها، وبالقيم المنهارة جعله يرتفع بها إلى حالة يسمّيها السمو، فهو لم يكتب عن طنجة المهمّشة والملعونة من أجل أن يجعلها الصورة النموذجية لما يريد أن تكون عليه طنجة، ولا أن يخلّد ويؤبّد هؤلاء الناس فيما هم عليه من شقاء، بل من أجل أن يرتفع بهذه الحياة إلى اللحظة العليا والسمو من خلال الكتابة.
أحمد الزين: في الخبز الحافي وفي نصها الإنجليزي الصادر عام 1973م، وبعنوان من أجل الخبز وحده، الرواية التي جعلت من محمد شكري اسماً عالمياً قبل أن يُعرف عربياً عبر النص نفسه وبعنوان: "الخبز الحافي"، بعد هذا العمل كتب الشطّار الجزء الثاني من السيرة، وكرَّت الأعمال الأخرى مجموعات قصصية وحواريات نذكر منها: زمن الأخطاء، ومجنون الورد، وجوه، بول بوولز وعزلة طنجة، السوق الداخلي، غواية الشحرور الأبيض، والخيمة، جان جينيه في طنجة، معظم هذه الأعمال نقلت إلى حوالي عشرين لغة، حققت له حضوراً بارزاً في الساحة الأدبية العربية والعالمية، وسبب هذا التمايز والحضور جرأته في تناول الموضوعات الحساسة الفجّة في واقعيتها.الشاعر
محمد شكري: أنا أساساً لما أكتب كتابات.. كتابات سياحية إرضاءً للغير الأجنبي أو المغربي أو العربي بصفة عامة، أنا كتبت يعني.. كتاباتي فيها نوع من التصريح.. فيها نوع من التصريح وأنا طبعاً كتاباتي مرتبطة بالمكان.. حب المكان وأيضاً يعني الأشخاص الذين تناولوا في أعمالي يترددون على أماكن معينة لمدة عمر يعني كلهم يعني تقريباً، ولذلك كما أقول أنا يعني لا أتناول الجانب السياحي في كتاباتي. ولا أعرف لماذا يقول الناس أنني أكتب عن هذه الأماكن لكي أشوّه الأشخاص الذين يعيشون فيها، لا أعرف يعني لماذا؟ أنا أكتب عن كتابات فيها نوع من الأنثروبولوجيا إذا شئنا يعني أجسد هذه يعني هذا الفقر المسلَّط على هذه الطبقة ويعني مسبباته.الشاعر حسن نجمي (رئيس اتحاد كتاب المغرب): ليس هناك من شك في أن محمد شكري –رحمه الله- كاتب مغربي كبير، وكنا نداعبه بهذه الصفة ككاتب كبير، وككاتب عالمي، ورغم أن الأمر كان يتعلّق بمداعبة مع صديق أحببناه وكنا نحترمه ونعتز به، فإن الأمر إلى حدّ كبير يعبّر عن إحساسنا كمثقفين وكأدباء وكنخب فكرية وإبداعية في المغرب بالمكانة التي حظي بها محمد شكري كاسم في الساحة الأدبية العربية والعالمية فعلاً، فلأول مرة يحدث في مسار الثقافة المغربية الحديثة وفي مسار الأدب المغربي المعاصر أن كاتباً مغربياً ترجم إلى أكثر من عشرين لغة، وكان مجموع أعماله المترجمة إلى مختلف اللغات قد وصل إلى سبع وأربعين ترجمة، (الخبز الحافي) وحدها ترجمت إلى تسع عشرة لغة في العالم، حتى إنه كان يقف مستغرباً ومندهشاً أمام بعض الترجمات التي كان يتوصّل بها متسائلاً أية لغة هذه التي ترجم إليها هذا الكتاب أو ذاك، ونحن في اتحاد كتاب المغرب نظمنا له تكريماً كبيراً ومهماً من حيث نوعية المساهمين والمشاركين فيه من كبار نقاد وأدباء المغرب بل وساهم فيه بعض الأصدقاء من خارج العالم العربي مثل خوان غويتو سيغو الكاتب الإسباني الكبير الذي أحب شكري بعمق وبصدق.
محمد شكري: كان بودي.. كان بودّي أن أقول كلمة أَرْحَب من هذه، لكن وضعيّتي الصحية لا تسعفني إلا أقلّ من القليل لكي أقول بجهد كبير ما أقوله، وفي هذه الندوة، ندوة السيرة الذاتية يخيّل إليّ أن أوّل نص بَشَري يمكن أن يكون قد كُتب هو موضوع السيرة الذاتية، لأن الإنسان بطبعه ذاتي وأناني ويبقى الآخر ثانوياً في معظم الأحيان. شكراً لكم، أتمنى أن يهمنا هذا الموضوع.
أحمد الزين: عندما تصبح التجربة أقوى من الندم ينمحي الشعور بالذنب، لن أسعى في هذه التجربة إلى تبرئة نفسي أو إدانتها، أنا والآخرون فبين الفرح المطلق والحزن المطلق أنا بينهما مثل دودة القز، آه من الأجمل الذي أتمناه لك أو لي، قد يكون ما أتمناه لنفسي أقلّ جمالاً مما أتمنّاه لكل لعين مثلي، لن أخشى من الغد الكئيب اللعين سواء كنت مع نفسي أو مع الشيطان، حتى ليل طنجة الذي كان في الأمس القريب يحتفظ ببعض شبابه وبشيء من روح جماله أصبح اليوم هرماً، مترهلاً، قبيحاً، صار وحشياً ولم يعد يوحي بأي راحة أو اطمئنان.الشاعر
محمد شكري: اختياري لكتابة السيرة الذاتية الروائية بهذا الشكل كان لا بد أن أخترع لنفسي تقنية وصيغة لكي أكتب سيرتي الذاتية قبل أن أكتب الكتب الأخرى، الخبز الحافي يعتبر أول كتاب بكامله ينشر لي، ومن قبل الخبز الحافي كنت قد كتبت بعض المقالات وبعض القصص لا غير، فهذا هو السبب الذي جعلني أضع في الأجزاء الثلاثة مثلاً: الخبز الحاف،ي وزمن الأخطاء، ووجوه سيرة ذاتية روائية.
الشاعر والباحث محمود عبد الغني: مهم الذي يجب أن نثيره بخصوص محمد شكري هو أنه كاتب أثار الاختلاف بخصوصية لم يثرها أي كاتب مغربي آخر أو كاتب عربي، لقد اختلف بشأنه جميع الفرقاء المثقفين بالمغرب مؤسسات وأشخاص، كما هو معروف سيرته الأولى أو روايته السيرة الذاتية الأولى الخبز الحافي مُنعت من الجامعات في المغرب وفي مصر قبل أن يُفرج عنها في السنوات يعني تغيّر الوعي وتغيّر الحساسية في الفترة الأخيرة، وقد كان أول من وقف ضده هم الفقهاء في المغرب، أو المثقفين العصريين بأيدلوجيا الفقيه، المغرب يعني أفرز كاتباً لا يشبه كُتّابَاً عرفناهم فهو كاتب جاء من الهامش ويؤمن بمركزية الهامش، يعتبر أن الهامش مركز، الهامش ليس هامشاً، ويعني مراتع الطفولة من أزقّة ضيّقة وأوساخ وفقر ولعنة تبعته منذ الطفولة إلى مماته، وصورة الكاتب الصعلوك الذي يتّخذ من البارات والحانات مقراً دائماً له، وصداقاته المشبوهة،لم يكن.. تكن له صداقات رسمية مع الشخصيات المرموقة أو التي لها وجاهة في المجتمع، بل كان يفضّل دائماً مرافقة المهمّشين والمتروكين والمنسيين.
أحمد الزين: معظم أيام حياته مرت هنا بين هذا البيت وتلك الحانة التي كانت بيتاً آخر له، وحيدة خطوته مع الجماعة يمشي.. هكذا كان، تلك طاولة للكأس والكتابة، وهذه حقيبة سره، تبدو الأمكنة مقفرة في غيابه ساكنة، الصور تهمس للجدار عن إقامته وعمره في هذا المكان وفي تلك الحياة، صحبة وأصدقاء وكتّاب أقاموا في حياته مثلما أقام هو أيضاً في حياتهم، هذا المتحدّر من الريف المغربي من قبيلة بني شكير أعتقد أنه لم يخطط إطلاقاً لذلك الرجل المبدع الذي أصبح هو، صدفٌ حياته؛ فالولد الشقي الذي كان يرطم بالبربرية انتقم لأيام الفقر والبؤس بالتعلم ومن ثم بالقراءة، ولاحقاً بالكتابة، الصدف دائماً مسيّرة لمسارات عمره، وسيرته التي حكاها للأصدقاء استهوت العديد من الكتاب لنشرها، هكذا هو يروي حين سأله أحد الناشرين عن تلك السيرة من أجل أن يترجمها بول بوولز الكاتب الأميركي إلى اللغة الإنجليزية، يقول: لم أكن بعد قد كتبت جملة واحدة من تلك السيرة لكنها كانت مغامرة استهوت أيضاً بول بوولز، حين كانت إجابتي بأنها مكتوبة كاملة، ووقعت العقد آنذاك، وفي عشية ذلك اليوم من عام 1973 صعدت إلى مقهى روكسي وبدأت في نفس الليلة بكتابة الصفحات الأولى حتى غلبني السكر وأضعفني الجوع ونفضت جيوبي كالعادة. الشاعر
محمد شكري: الفترة التاريخية التي أُجّسدها في هذا الكتاب هي فترة تهمني وتهمنا نحن وتهم أيضاً حتى يعني الأجانب.المحاور: وهي وثيقة تاريخية.الشاعر
محمد شكري: هو ما كنت أريد أن أقوله لا يعني لا أعتبره يعني وثيقة تاريخية، بل أعتبره وثيقة اجتماعية، ومن – طبعاً - الوثيقة الاجتماعية ممكن أن نقول الوثيقة تاريخية. وهذا التاريخ إما يعني ما قبل الاستقلال - نحن نتكلم عن المغرب - أو بعد الاستقلال من خلال السيرة الذاتية، وهذا ينطبق أيضاً على العالم الثالث، العالم الثالث دائماً كان مستعمَراً ومن خلال السيرة الذاتية، وأنا لست متفقاً كما يعتقد أو يظن الكثيرون أو كثير من القراء أنهم سيقرؤون جزءاً أو أكثر من جزء من تاريخ بلادهم.الأديب الشاعر محمد بنيس: كتاباته كانت دفاعاً عن القيم وعن رؤية حرة للحياة، وأيضاً هذه الكتابة القادمة من الجرأة ومن المواجهة مع واقع قاس هو الذي جعله يكتب كتابة لا تتنازل عن الوفاء للفئة الشعبية التي كان عاش فيها وانتمى إليها، دون أن يجعلها عرضة للتشويه أو أن يجعل حياتها متعة في عيون من يستمتع بشقاوة الآخرين.الشاعر
محمد شكري: اختياري التي أكتبها عن هذه الطبقة هو عدم خيانة جلدي القديم.
أحمد الزين: كان لروافد رغبة اللقاء به في ناحية من هذا المغرب الذي انتمى إلى ناسه، بمقدار انتمائه إلى جلده القديم على حدّ قوله، ولكنّه رحل على مغيب يوم آخر من الزمن المغربي، فتحية لمحمد شكري مجنون الأيام، مجنون الورد، والخبز الحافي، المتمرّد على زمانه الذي غلب القهر.. الجوع .. والظلم.. والقمع بلغته الصريحة الجريئة والمبدعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق