2004-08-06

روافد مع المؤرخ نقولا زيادة

إعداد وتقديم

أحمد الزين : عندما يجلس المرء مع رجل دهري يلفحه نسيم من عبق التاريخ، ويشعر بوقع من وطأة الزمان، فكيف إذا كان هذا المعمّر مؤرخاً معنياً بأحوال الأمم والحضارات، باحثاً عن خباياها مفسراً لأسباب نشوئها ونهوضها وزوالها، عندئذ لا بد أن يتضاعف الشعور لديك ويلح السؤال أكثر عن معنى أن يكون المرء مؤرخاً في عالم يطحن العمر والآمال، هل يؤرخ لسقوطه أم لمأساته؟ هل يؤرخ لانتصارات الآخر: ويجيب كتابة التاريخ متعة عقلية وليس أكثر. لأن أحداً لا يتعلم من دروسه المريرة والموجعة، فالأخطاء نفسها تتكرر هكذا استنتج هذا الدهري المحتفل على قمة المائة عام.

أحمد الزين : ماذا يعني أن يكون المرء مؤرخاً على مدار قرن من الزمان؟ ماذا يعني أن يكون مؤرخاً وعربياً وفلسطينياً؟ هل يكتب مأساته أم انتصارات الآخر؟

نقولا زيادة: في الواقع أنني أنا لم أجرّب أن أكتب مأساتي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بالذات، الذي ذكرته في كتابي: سيرة ذاتية.. أيامي، والذي تحدثت عنه وكتبته في سوى ذلك كان محاولة لتوضيح المأساة العامة.. مأساة الشعب الفلسطيني وفلسطين بالكامل، لكن أنا لم أكتب تاريخاً لهذه الفترة، يعني لا أدري لماذا تجنبت هذا؟ إن كان عمداً أو مجرد اشتغالي بشيء آخر، يعني أنا لم أؤرخ للقضية الفلسطينية لكن كل ما عندي مثلاً لمحات.. أوّل لمحة منها أن الزعماء الفلسطينيين العرب، وأظن جميع الزعماء العرب لم يفهموا تماماً معنى وعد بلفور، أي إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على أن لا يؤذي هذا الأمر الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، لكن لما أعطي هذا الوعد كان اليهود لا يتجاوز عددهم 5 أو 6%، بينما الطوائف غير اليهودية أي ال95% الذي من المفترض أن لا يتأذوا من هذا الأمر! و اللمحة الأخرى هي عن حاييم وايزمان أول رئيس لجمهورية إسرائيل و بروتسكي، الأول كان أستاذ كيمياء في جامعات لندن في انجلترا، بينما الثاني كان أستاذ رياضيات في الجامعة نفسها. هؤلاء هم من الذين اشتغلوا في السياسة الصهيونية المبكّرة. أعلن حاييم وايزمان سنة 1921 في إنجلترا أن فلسطين ستصبح يهودية كما هي بريطانيا بريطانية. هذا يعني الغاية من الأصل لم تكن مجرد زاوية أو قرنة في فلسطين لليهود، وهذا ما لم يفهمه الوفد العربي الفلسطيني الأول الذي ذهب إلى إنجلترا سنة 1921. جرب الوفد أن يطلب من الحكومة أن تلغي وعد بلفور، ما أدركوا أهمية وعد بلفور!! هذا من جهة. أما من الجهة الثانية و فيما تقدم الزمن أصبح شغل شاغل الزعماء العرب أن يرسخوا زعامتهم ويحافظوا عليها ثم فيما بعد يأتي الاهتمام بالقضية.. فالفرق واضح أو أن تكون القضية هي الأساس عندك والزعامة تأتي على طريق القضية، أو أن تكون الزعامة هي الأساس و تأتي القضية على طريق الزعامة والخلافات عليها، فيمكن أن يكون هذا السبب وراء انكفائي عن كتابة تاريخ القضية الفلسطينية.

أحمد الزين : أتيناه في نيسان عام 2003 في دارته في بيروت، آنذاك كانت المأساة تتكرر ومشهدها الدموي كان في بغداد، نقولا زيادة أعتقد أن صاحب هذا الاسم هذا الوجه هذا الجسد الناحل وهذا الرأس المشتعل بالأبيض الفضي حين يطلّ من شرفته المائة، يطل على ماضي الأمم فحاضرها وربما مستقبلها متكرر، وعلى قدر من الغموض وقدر أكبر من المآسي.

أحمد الزين : كيف ترى صورة العالم اليوم؟ إلى أين يذهب العالم؟

نقولا زيادة: وددت والله يا أخي لو استطعت أن أتخيّل ذلك لا أن أعرفه لأن الأساس كما أراه في التطور التاريخي كان القوة، شعب يكون أقوى يتغلب على غيره ينشئ امبراطورية كبيرة، أحيانا هذا الشعب أو هذه الإمبراطورية تكون صاحبة حضارة وفكر فتوزّع على الآخرين وتأخذ من الآخرين، المثل على هذا: الحضارة العربية الإسلامية التي أخذت وأعطت في أيام عزها وحتى بعد أيام عزّها ظلت تعطي القليل. ما دامت القوة هي الأساس نراها الآن عاجزة عن ذلك الأخذ و العطاء، أصبح بمناسبة الاختراعات المتتالية الحديثة لعناصر القوة.. القوة التي تخضع البشر أو تخوّفهم.. هذا السلاح النووي خصوصاً، أصبح من الصعب أن الواحد يقول إلى أين نحن سائرون؟ أين البشرية؟ هل يأتي يوم من الأيام تتصادم فيه جميع القوى النووية مع بعضها البعض وتهدم العالم بأثره؟ ونرجع لأيام العصر الحجري؟ صعب التنبؤ، رغم أن في هذه البشرية و هذه الأيام ما زال هناك القليل من النور عند المفكرين وغيرهم، إلا أن سوق المفكرين اليوم لا تطال أصحاب النفوذ، بل تطالنا نحن الذي نقرأ قصة أو رواية أو كتاب لنستمتع و نفرح به، لكن إلى أي حد يؤثر المفكرون في القائمين على إلقاء القنابل والسلاح؟

أحمد الزين : يعني هل نستطيع أن نسمي هذا الزمن: الزمن الإسرائيلي الأميركي؟

نقولا زيادة: يعني ألفَ الناس أن يسمّوا الأزمنة بأسماء الدول الكبيرة العصر الآشوري العصر الفرعوني.. إلخ، اعتباراً من القرن التاسع عشر الذي كان عصر الاستعمار الأوروبي: بريطاني فرنسي في الدرجة الأولى، ما زالت كلمة "استعمار" تصلح لأن الاستعمار بقصد الاستفادة من الموارد ما زال فاعلا في العلاقات القائمة في المنطقة. فلأميركا مصلحة في نشر ثقافتها و في إيجاد أسواق لتصريف بضائعها وإلخ، لكن بالدرجة الأولى كما قلت أنا في مناسبات كثيرة يبقى البترول العامل الأساسي الذي يدفع بالدول الصناعية على التدخل عسكريا لإحكام السيطرة على منابع النفط و لتجلس هناك لا أن تضمن الشراء والبيع فقط. لا تنسى يا سيدي أن العراق والمنطقة هذه تقع على طريق أواسط آسيا الغنية بالنفط أيضاً، فهذا الدور تقدر أن تسميه العصر الأميركي.

أحمد الزين : كما تذكر في كتاباتك كان عدد اليهود سنة 1918 لا يتعدّى الـ50 ألف يهودي، الآن يتجاوز الأربعة ملايين يعني هذا التغيير الديموغرافي المتزايد يوماً بعد آخر، بتقديرك ألا يكون سبباً في إلغاء فلسطين نهائياً؟

نقولا زيادة: ليس هناك من خسارة نهائية، هناك خسارة جزئية كبيرة. ومن الممكن - وأرجو أن لا يحدث – أن تشجع السيطرة الأميركية على المنطقة إسرائيل على الترانسفير، أي نقل العرب الفلسطينيين إلى الخارج، أما أين في أين سيذهبون بهم أو بالأحرى أين سيرمونهم؟ في الأردن، أو في لبنان أو في العراق. العراق لأنه بعيد، و يتطلب أن تحمِّلهم بالطائرات أما هؤلاء فترميهم على الحدود أي الأردن ولبنان. وتظل بقية من العرب يعطوهم الندَب في جنوب فلسطين ويقولوا لهم هذه دولتكم. هذا ما أخشاه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والفلسطينيين ولبنان، هذا فضلاً عن قضية التوطين، التوطين الذي من الممكن أن يُفرض علينا رغم إرادتنا، و تختلف الأمور عندما يأتي الأمر للقوة.

أحمد الزين : أستاذ نقولا يعني يأتي على البال سؤال عادي جداً يطرحه الإنسان على نفسه: ماذا كان ينبغي أن يفعل العرب كي لا يخسروا كل شيء؟

نقولا زيادة: كان يجب أن يكون هناك نهضة علمية صناعية مثل ما كان عند اليهود أو أقل، على الأقل كانوا قد استطاعوا أن يحافظوا على كيانهم. لكن لم يعمل أحدا على تأسيس هذه النهضة. خذ مثلاً إدارة المعارف في فلسطين أيام الانتداب عندما كانت إدارة المدارس بأيدي الحكومة المنتدبة. اليهود كانوا أحراراً و عندهم جامعة، كما أن إدارة المعارف اليهودية و مؤسسات أخرى كانت تملك الأموال أسسوا المدارس و الكليات و المعاهد التعليمية في فلسطين، إلى جانب الحكومة والمؤسسات اليهودية هناك أيضا البعثات تبشيرية في فلسطين التي كانت تعطي شهادة من درجة كلية، والعرب ما كان عندهم!! نحن ورثنا هذه اللاأبالية، أنه ما دام عندنا كم خوري يبشرون في الكنائس وكم شيخ يخطبون في الجوامع فالحمد لله!! تصوّر أن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الذي كان يشرف على جميع الأوقاف الفلسطينية وكل أموال الأوقاف، ساعد مع مجموعة من المساهمين على إنشاء مدرستين فقط في فلسطين، أحدها روضة المعارف، والثانية الكلية العلمية الإسلامية. بينما سنة 1923 كانت واردات الأوقاف الإسلامية في الخليل وحدها 17 ألف جنيه، التي في ذلك الوقت كانت تساوي 85 ألف دولار، قابل بين القدرة الشرائية للدولار في ذلك الوقت وقدرته الشرائية الحالية لتكوّن فكرة عن كم كان بمستطاع المجلس الإسلامي الأعلى أن يبني من مدارس؛ على الأقل عشر مدارس ثانوية و لم يفعل. هذه مأساة العرب، العرب كانوا على ما يبدو قد أخذوا منذ القرن الحادي عشر الميلادي يقلعون عن الفلسفة والعلم، الخ، وسلّموا و توكلوا في كلِّ شيء على الله، و من هنا القول الشائع "اللّهم ارزقنا".. و نسوا أن عمر بن الخطاب قال: "لا يقولن واحدكم اللهم ارزقنا وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة".

أحمد الزين : مائة عام أو أقل، مائة مكان أو أكثر، وكتاب واحد هو التاريخ وإن كُتب بآلاف الكتب منذ العصر الحجري وحتى زمن النكبات التي نعيش، فهذا الناصري نسبة لمدينته الناصرة، وهذا الدمشقي الحائر على بدايات عمره يوم خطف الموت والده في سوقيات الحرب العالمية الأولى، هذا المقدسي والبيروتي وهذا العربي تحيّرك فيه تلك الذاكرة.. ذاكرة خصبة لم تتلف الأيام فيها حتى أدق التفاصيل فحين يروي لك عن حادثة، لكأنه يروي عن وقائع يشاهدها الآن، وحين يستعيد مشهداً يشكّل عناصره مثلما كانت عليه، فالأمكنة في ذاكرته صورة مؤبدة، سكة حديد الحجاز، والقطار الذي حمله وأمه بعد موت أبيه من دمشق تجاه مرج ابن عامر، وصلافة العسكر التركي، التآمر الإنجليزي، والوكالة اليهودية، ليست عناوين مقالة أو كتاب، إنها أحداث ووجوه حفرت في ذاكرته مثلما حفر في الحضارات منقّباً عن أحوال الأمم في قاع النسيان، ودائماً.. دائماً متوقّد الذهن وذاكرته مشتعلة تضيء صور أيامه. أستاذ نقولا من خلال القراءة لسيرة حياتك، تلك السيرة الغنية الواسعة التي صدرت مؤخراً في مجلدين، يلاحظ القارئ أن هناك حفظاً دقيقاً لأدق التفاصيل في الحياة يعني في هذه الرحلة التي أشرفت على المائة سنة، يعني هل كنت تدوّن يومياً لما يحدث معك أم اعتمدت فقط على الذاكرة عندما بدأت تكتب الكتاب؟

نقولا زيادة: لم أدوّن في حياتي مذكرات، جربتها في صغري مرتين أو ثلاثة و لم أنجح في ذلك، إنما هذا الكتاب بأثره يعتمد على الذاكرة بأدق تفاصيلها التي انطبعت وظلت موجودة.

أحمد الزين : تقول في بداية أو في سياق هذه السيرة أنك كنت ذلك الصبي الحائر في دمشق وفي الناصرة يعني بين 1907 و 1918 تقريباً، هل هذه الحيرة ما أسباب هذه الحيرة و هل ما زالت قائمة أم خفَّت أم زادت مع العمر؟

نقولا زيادة: هذه الحيرة كانت موجودة فيني و أسبابها تعود إلى تجربة الفقر المزعجة التي مرّيت فيها بعد وفاة والدي، وافتقادي لمن يرشدني، وجهلي بما سأفعل، لكن في الواقع هذه الحيرة إذا ما انتهت خفَّت كثيراً لمّا دخلت دار المعلمين واطمأننت أن بعد ثلاث سنوات سأخرج من دار المعلمين بشهادة تؤمن لي عمل أقبض عليه مرتّب. مع مرور الوقت أمور أخرى تحيِّرك مثل التعليم – فأنا علّمت سنة في الضيعة و عشر سنين في عكا – ومثل طموحي في الدراسة الجامعية، وتحملي مسؤولية عائلتي منذ كان عمري ثمان عشرة سنة – و يعني أن ما من أحد يصرف على العائلة إذا ما اعتزمت الرحيل. لمّا صحّ لّي بعد 11 سنة من تخرجي من دار المعلمين كان إخوتي الاثنين قد بدؤوا يشتغلون قليلا و يتدبّرون أحوالهم. أخيراً يصيبك نوع آخر من الحيرة، حيرة التفكير بالمستقبل ليس مستقبلك أنت بل مستقبل مَن مِن حَوَليك – من العائلة الصغيرة إلى العائلة الكبيرة فالوطن فالعالم – فبعد الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وحرب الأسبان، وحرب كوريا، و ما تخلص الواحدة إلا و تقع الثانية، يسأل الواحد نفسه و ماذا بعد؟ فهذه الحروب هي بمثابة نكبة ثانية.

أحمد الزين : لنعد قليلاً إلى الذاكرة إلى المحطة الأولى في حياتك في دمشق حيث ولدت و واجهت القسوة الأولى و هي فقدان الأب، ماذا عن تلك الأيام؟

نقولا زيادة: لما جُنّد أبي بالحرب العالمية الأولى، جُنّد على يد جمال باشا الذي كان قد صار حاكم المنطقة وأراد إرسال المجندين إلى السويس وبدل من أن يدرّبهم على القتال وزعهم على تكايا وأديرة وجوامع دمشق وسمّوهم السَوْقيات، تصوّر السوقيات!! يعني يريدون أن يسوقوهم إلى الجحيم، وقيل لنا في يوم من الأيام أن الوالد مرض وأخذوه إلى المستشفى، ولكن أين في التحديد؟ لم نعرف، وصار علينا أمي وأنا أن نفتش عليه بالدّور، لأن كان لي أخ صغير لا يُترك بمفرده. كنت في سن الثامنة عندما زرت كل المستشفيات التي كانت تحت الإدارة العسكرية. في يوم من الأيام كان دور أمي عندما رجعت إلى البيت ومعها كيس وقالت: نقولا أبوك مات. صدف أن دخلت مستشفىً تسأل عن والدي فلقوا اسمه مدون في سجلات الوفيات و قيل لها أن لمّا أتوا بعبده عبدَ الله زيادة من الميدان تُوفّي على الوفر وأخرج من المستشفى. لما قالت لي أمي أن أبوك مات لم أدرك المعنى، وما هو إدراك فتىً عمره 8 سنين. في ذلك الزمن الناس لم تكن تدخر في المصارف بل من كان عنده كم قرش من الذهب كان يضعهم في الفرشة. فتقت أمي الفرشة وطالت قطعة قماش ملفوفة فيها ليرة عصملية ذهب وقالت لي: نقولا هذا كل ما عندنا. أدركت على الفور المعنى وأهمية وصعوبة ما قالته أمي في ما يخص الليرة العثمانية أكثر من نبأ موت والدي الذي لم أكن قد استوعبته بعد. كانت هذه المرة الأولى التي أستوعب فيها معنى الفقر. التفكير بالموت لا يخيفني بل يحيرني، لكنّي أخاف الفقر دائما. الموت موت لكن الفقر هو أن تعيش من دون أن تعرف كيف؟ كنت أرى أمي تتعب وتشتغل أشغالا مختلفة كي تعيّشنا. قبل التحاقي بدار المعلمين و بعدما نجحت في امتحان الدخول، كنا راجعين بعد زيارة لجيران لنا إلى البيت وقبل أن ندخل وقفت أمي و قالت لي: "نقولا أنا أعمل كي أعيّشك أنت وإخوتك، سأبعث لك كل شهر مائة قرش جنيه مصروف، لا تدخّن لأنه ليس لك الحق أن تدخّن بالذي أتعب فيه أنا، لما تحصّل مصرياتك دخّن". و لم أدخن إلا عندما طبقت سن الثانية و الثلاثين.

أحمد الزين : 32 وبلّشت بالغليون أو بالسيجار..

نقولا زيادة: إي.. إي بس الغليون، بعدين حطّيت سيجار معه ودخّنت ستين سنة، بعدين بطّلنا من الستين سنة وأربعين يوم بكفّي [يضحك] على الطريقة اللي بيقولوا ستين سنة وأربعين يوم.

أحمد الزين : المسافة بين الناصرة وشمال سورية أو بين دمشق وفلسطين قبل ثمانين عاماً، لكأنها تشبه الآن هذه المسافة القصيرة التي يقطعها نقولا زيادة ما بين كليات الجامعة الأميركية حيث كان يعلّم، فهذا المشّاء القديم ما زال يرغب في السعي للاكتشاف لكن الفرق أنه الآن أصبح حالة ترغب الأجيال الجديدة في اكتشافها، وترغب في التعرّف على أحوال رجل لم يتعب من سعيه وراء الاكتشاف، لكأنه أصبح جزءاً من ذلك التاريخ الذي كتبه والذي تقصّى عنه في ما تبقّى من أزمنته السحيقة.

أحمد الزين : لم يبقَ من تلك الأيام الفلسطينية التي قضاها في مدن وقرى فلسطين سوى الحكايات والصور، صارت الأيام حكاية والأمكنة صورة، ذهب بعضها إلى النسيان، وطلول ما تبقى يذكّر بحياة كانت قائمة قبل أن يأتي الغزاة بممحاتهم الهائلة ليمحو الذاكرة والتاريخ. فلسطين حارات الطفولة والشباب، مدن وقرى ودروب مشاها سعياً وراء العيش تارة، وتارة وراء الاكتشاف، هنا بدأ التاريخ قبل آلاف السنين، وهنا بدأت حكاية الرحيل الأزلي، هنا مدرسة جاء تلامذتها حفاة نجا بعضهم بفك الحرف ومضى إلى شأنه، وبعضهم فاز بفك لغز التاريخ ومشى في مجاهل الحضارات والنسيان باحثاً عن معنى كتابة التاريخ، هنا فلاحون يجنون مواسم أعمارهم، وصياد يرمي شباكه في عِباب المجهول، هنا وهناك بلاد اغتُصبت، ومشى أهلها إلى شتاتهم، لقد أزال الغزاة قراهم وبيوتهم عن خارطة المكان، لكن الذاكرة لا زالت تحتفظ بها تخبّئها حقيقة من حقائق التاريخ تدوّنها لتبقى حية على مدار الأيام.

أحمد الزين : هناك سؤال مقلق يعني أقلق المؤرخين وغير المؤرخين والكتّاب يعني أنّو شو الغاية من كتابة التاريخ؟ ما هي غاية الدكتور نقولا زيادة من كتابة التاريخ؟

نقولا زيادة: إذا أخذت القضية من ناحيتي الشخصية يمكن السبب الرئيسي في تدوينه وكتابته أنّو أنا أُغرمت بهذا الموضوع فكتبته، لكن إذا كان المقصود حتى يتعلّم الناس أمثولة منه، فالعالم يبدو أنه تعلم من التاريخ أن لا يتعلم من التاريخ، والدليل على هذا إنه الأخطاء نفسها تتكرّر.

أحمد الزين : يعني بهذا المعنى التاريخ يعيد نفسه ولكن بأشكال مختلفة.

نقولا زيادة: لا.. هو لا يعيد نفسه..

أحمد الزين : يعني يتكرّر بأشكال تتكرّر الأخطاء.

نقولا زيادة: يتكرّر بأشكال مختلفة، والناس لا يتعلّمون من تجارب الآخرين، لذلك أنا بقول إنه قراءة التاريخ هي متعة عقلية أكثر من أي شيء ثاني.

أحمد الزين : متعة عقلية.

نقولا زيادة: إيه، قراءة السياسة تتعلم منها إذا بتشتغل بالسياسة، قراءة الفلسفة إذا كان بتعلم فلسفة، لكن قراءة التاريخ هي.. وكتابته هي متعة عقلية يعني لكن لا تُفيد، لا تفيد لكن قد تكشف كنوزاً مخبّأة غير معروفة أو توضحها بشكل آخر، لكن لا تُعلّم درساً.

أحمد الزين : أستاذ نقولا من دمشق إلى فلسطين ثم إلى لندن لغاية الدراسة، في لندن تلقّيت في ثلاثينات القرن العشرين، تلقّيت خبراً يمكن أول خبر فيه حدث درامي دموي هو اغتيال أو مقتل استشهاد عز الدين القسام، يعني كيف تعاملت مع ذلك الخبر وأنت الذي تدرس في بلد يحتل وطنك بالأساس؟

نقولا زيادة: أنا ما إلي علاقة في إنجلترا مع الحكومة، أنا إلي علاقة جاي أتعلّم فأنا بدي أستفيد، هذا استطعت أن أعزله عن الشعور، لكن في بلد عم يحترق، الآن كان في ذلك الوقت في لندن، مكتب صغير اسمه المكتب العربي يديره الدكتور عزت طنوس طبيب من القدس ترك الطب واشتغل بالسياسة وقضية فلسطين، وكان هذا مكتباً صغيراً فعلاً في واحدة اختارها إنجليزية متبرّعة للعمل فيه، كانت بتحبّ العرب، وكتبت كتاب عن فيصل الأول ملك العراق، وكان عمرها يجي سبعين سنة أو أكثر بس متبرعة، كان في بالمكتب الدكتور عزت طنوس كان لا يتقاضى مرتباً على ذلك، أظن كانت تساعده العراق المكتب هذا، وقضية فلسطين كل الوقت كانت تشحد لحدا يدير باله عليها، كنا طلاب العمل الفلسطينيين يلّي موجودين في إنجلترا خاصة في لندن، كنا نحنا نتعاون مع المكتب نعمل محاضرات، يمكن ألقيت في هديك الفترة مش أقل من ثلاثين أربعين محاضرة في كليات ومدارس، فهذا اللي كنت أعمله اللي أستطيع أن أعمله لقضية فلسطين، أوضح إنه هذا منّه مجرم الرجال هذا رجل يدافع عن بلده.

أحمد الزين : الأمكنة بالنسبة للمشتغل بأمور التاريخ لها مزاج آخر، فهي ليست إطاراً لمشهد عابر في الزمان أو صورة فوتوغرافية التقطها هاوٍ، أو معلَماً أثرياً بل هي أقرب إلى بيت يفتح أبوابه على سرّه، ويضيء العناصر المكوّنة له، ويحرّك سكونية الأشياء من ثباتها، ويضعها على خط بيانها التوضيحي، في محاولة لقراءة مسارها معللاً أسباب النشوء والزوال، وحين يتحدث المؤرخ الذي من طراز نقولا زيادة عن حقبة من التاريخ مهما بَعُدت في الزمان، لكأنه يروي عن حادثة عاشها وشاهد تفاصيلها من على شرفة مطلّة على ساحتها، فكيف إذا هو بالواقع فعلاً عاصر وشاهد وشهد لمرحلة تمتد لقرن من الزمان.

أحمد الزين : طبعاً من دمشق إلى القدس تعلّمت وعلّمت، ولكن تقول في سياق السيرة جملة جميلة جداً، تقول: "القدس ترتفع بك وتحطّك معها، أما بيروت فتسير معها الهوينى" يعني حبذا لو تقول لي كيف توصلت إلى هذا الاستنتاج يعني؟

نقولا زيادة: أولاً تعرفت على القدس وأنا بعدني صغير، بعدين القدس دايماً إلها في نفوسنا نحنا مسلمين ومسيحيين مكان مقدس، يعني أنا أذكر كان مدير دار المعلمين كل الطلاب الجدد ياخدهم يزوروا القدس، أسوار القدس، الحرم الشريف، القيامة ويحكيلنا عن تاريخها، القدس كانت إلنا دائماً محطة روحية، مش بس دار معلمين لكن أنا كنت أروح كتير مرات على الحرم في أيام الصيف،كان قريب عشر دقائق مشي أستأذن طولي، وين رايح؟ عالحرم، ليش؟ بعد أقرأ هونيك.. برود هيك وحلو.. وراحة.

أحمد الزين : ترتفع بك وتحطّك معها.

نقولا زيادة: طبعاً، بعدين القدس والقيامة وبيت لحم يعني كل هاي الأشياء المتعلقة بالمسيح كلها هونيك، فكان فيها نوع من التأمل والنظرة الأمامية يعني نظرة روحية، لما جيت لبيروت أنا أول شي أنا كنت أكبر وكنت مجرب كتير، في بيروت مشيت معها حتى أتعرّف عليها، لذلك أنا بقول تعرّفت على بيروت فعرفتها وقبلتها وأحببتها وبيروت كمان قبلتني وأحبتني، ولذلك أنا أشعر هون بـ.. لا أشعر بغربة أنا فيها أبداً ولا بشعر من أولها.

أحمد الزين : أستاذ نقولا كنت في طفولتك وفي صباك أكثر كنت مشّاءً تحب المشي، هل كان هذا بدافع يعني الاكتشاف؟ أو يعني هو باب من أبواب الشاغل بأمور التاريخ؟ يعني ما هو الدافع وراء هذه الرحلات الطويلة التي كنت تقوم بها يعني؟

نقولا زيادة: لأ، بدأ هذا في الواقع لما كنا في الناصرة قبل ما ننتقل لجنين، كانوا في شباب بالناصرة من أقاربنا ينزلوا كل ليلة من الناصرة للعفّولة، العفّولة كانت مركز من مراكز سكة الحديد الحجاز العسكرية، فتيجي جنود من الشام رايحين بودّوهم لجهة الترعة. العفّولة قرية صغيرة ما فيها شي يشتروه الجنود، في كم شب من الناصرة صاروا ينزلوا يبيعوا خبز، فيوم من الأيام أنا قلت لهم: خدوني معكم. أمي ما بدها، ولَكْ ولد صغير أنت، شو عمرك؟ عشر سنين؟ طب مالو عشر سنين تسع سنين؟ بمشي. فكنت أنزل معهم، وكنت أنزل مرات هذه هي بدء اهتمامي بالمشي، لكن الشيء الكبير اللي عملتو أنا سنة خمسة وعشرين، لما سرت أنا ودرويش المقدادي من شمال فلسطين من صفد إلى جبال اللاذقية عبر لبنان والجزء الساحلي..

أحمد الزين : بترويها هاي بالسيرة..

نقولا زيادة: إيه.. بعدين ظلّت هذي موجودة معي وين ما أشتغل أنا كنت أكتشف، لذلك فلسطين يعني باستثناء منطقة يافا وغزة كلها بعرفها على رجليي أنا.

أحمد الزين : يعني يصح أن نقول أن المؤرخ نقولا زيادة هو رحالة أيضاً؟

نقولا زيادة: نعم، نعم.

أحمد الزين : يصح ذلك، طيب أستاذ نقولا ما هي الحوافز في البداية؟ الحوافز اللي دفعتك لكتابة التاريخ لأن تكون مؤرخاً؟ هل هو القلق لمعرفة الآخر معرفة الأصول.. الجذور الإنسانية يعني؟

نقولا زيادة: هو مثل ما ذكرت لك قبل شوي أنا..

أحمد الزين : إنت كنت تحب الرياضة يعني؟

نقولا زيادة: بالأول بدأ غصب عني بدي أدرّس موضوع هذا اللي مفتوح إلي، لما بدأت أحب التاريخ أصبحت أهتم بالجذور، من حسن حظي كان الصف الأول ثانوي في مدرسة عكا الثانوية كان يدرس التاريخ القديم، فبديت أنا بالتاريخ القديم. هلأ التاريخ القديم قادني إلى الاهتمام بالآثار، ما بعرف أنا واحد من اللي علّموا التاريخ القديم بفلسطين في أيامي، لأنه كتير اللي علّموا في الثانوي راح زار أماكن أثرية، أنا زرت كل الأماكن الأثرية بفلسطين المهمل منها والحي، هذه فعلاً أنا كتير نفعتني بدراستي للتاريخ القديم، صرت أهتم أرجع للأصول بقدر ما يمكن، أرجع مع العصور الحجرية وإلى آخره، بعدين الخطوة التالية كانت إنه الصف الثاني ثانوي أنّو كان يدرس تاريخ العرب، هادا عنا معرفة شوي من دار المعلمين شوي نمشي فيه، لما رحت لإنجلترا أول مرة الفترة اللي تخصصت فيها التاريخ اليوناني والروماني، لما بعدين انتقلت إلى التاريخ الإسلامي كان عندي أنا كل اللي تحت هذا واضح. ولذلك كان نبيه فارس يقول نحنا فيه في الجامعة الأميركية أربعة متخصصين بتاريخ العرب والإسلام، أحسن واحد بيفهم فينا نقولا زيادة لأنه درس التاريخ القديم.

أحمد الزين : لكل منا طقوسه ولهذا الرجل طقوس، أجملها حينما يحتفل بنفسه ويكرّمها أو يحتفي بإنجاز، فيجمع حوله نخبة من أهل الكلام والمعرفة، أساتذة وباحثين ونقاد اعتادوا على جلسة أسبوعية في داره، يتنادمون ويتناوبون على الكلام في هذا الشأن أو ذاك، أما هو فلا يغيب عنه شيء حتى أدق التفاصيل فتراه يهتم بها بدءاً من أشياء المائدة، وما تستدعيه الجلسة من مأكل وشراب وصولاً إلى الأناقة التي ينبغي أن يكون عليها، يعرف مكانته ومكانه بالقرب منه عكّازه، وأمامه الكأس، وفي باله ماضي الأيام، والمؤرخ فيه حاضر دائماً للإجابة، والذاكرة حاشدة بصور الغابر من الزمن، ثم .. ويدور الحوار ويتشعّب: في السياسة، في الأدب والحب، وفي التاريخ، وتتردد جملته في البال دائماً "تعلّم الناس من التاريخ أن لا يتعلموا"، أما فلسطين فتبتعد وتقترب، تشرق وتغيب، وتقتحم الجلسة والوجدان، كان على العرب أن يدركوا معنى وعد بلفور.

أحمد الزين : أستاذ نقولا زيادة طبعاً أنت واحد من المثقفين العرب الكبار، ومن أبرز القوميين العرب يعني منظّراً وفاعلاً لسنوات، يعني هل نستطيع القول الآن في هذه المرحلة أن فكرة القومية العربية بدأت بالانحسار أو أنها تحتضر أو أنها عرضة للزوال؟

نقولا زيادة: القضية إنه لما وصلت القومية العربية إلى أيدي أحزاب اعتبرتها أنها هي مسؤولة عنها فقط، لم يعد هناك مجال للآخرين لأن يدلوا بدلائهم، يعني بعبارة أخرى تحجّم تحجّمت فكرة القومية العربية لا عن سوء نية ولكن شي طبيعي..

أحمد الزين : يعني تأطّرت في أحزاب.

نقولا زيادة: تأطّرت بأحزاب، وحزب البعث العراقي كان مسؤولاً عن تدهورها أكتر، حزب البعث السوري ضل في مجال للأخذ والعطاء يعني، والآن..

أحمد الزين : والفكر الناصري..والناصرية؟

نقولا زيادة: جاييك.. جاييك

أحمد الزين : تفضل، تفضل.

نقولا زيادة: الفكر الناصري ما كان أساسه فكر، كان أساسه موجة، موجة عارمة ما في شك أنها شملت، لكن لما وُضعت على المحك في الوحدة السورية المصرية ثبت أنها ليست.. لم يُفكر بها التفكير الكافي، فكرة القومية العربية الآن إذا كان من الناحية النظرية، بَعد فيه ناس بيصلّوا وبيسلّموا عليها، من الناحية العملية أظن ضعفت كتير، لكن آمل ألا تكون قد انمحت بالمرة أنا متفائل بطبعي..

أحمد الزين : يبدو ذلك.

نقولا زيادة: ولذلك مع أني قد أشوف الخطأ لكن آمل بتصحيحه.

أحمد الزين : أستاذ نقولا إذا كان التأريخ بالألف المهموزة..

نقولا زيادة: أيوا.

أحمد الزين : بالألف المهموزة هو تدوين كما تقول دائماً، تدوين لأحداث كمثل سقطت بغداد في نيسان 2003 بيد الأميركيين، ما هي دلالة كلمة تاريخ بالألف غير المهموزة؟

نقولا زيادة: المفروض أن التأريخ هو ذكر للحوادث، والتاريخ استقراء هذه الحوادث على مدى، التأريخ بتذكر الحوادث بالرواية أنت تحصل على رواية عن سقوط بغداد على أيدي هولاكو، أو قيام المأمون أو إلى آخره، هذا دوّن المؤرخ، الراوية دوّن هادي، هادي تأريخ، الآن لكن التاريخ هو نظرة عامة للأشياء، ولذلك التأريخ بيعطيك المادة والمحطات، التاريخ بيصير يتفلسف .. باختصار يعني، وهذا اللي بيسمّوه رأي تاريخي، هلأ المشكلة..

أحمد الزين : يعني المرء بيسمح لنفسه أن يقرأ من وجهة نظر معينة ويسيّر تلك الأحداث.

نقولا زيادة: هذا أنا كنت جاييله.

أحمد الزين : تفضل.

نقولا زيادة: هلأ من سوء الحظ إنه لما صارت فيه الاتجاهات السياسية مش الحزبية، ولكن اللي إلها معتقدات معينة.. اليساريون إلى آخره، صاروا لما يقرؤوا الحدث التاريخي يفسروه على أساس وجهة نظرهم، ما عاد فيه تفسير للتاريخ، صار في تفسير للحوادث مجتزأ، ومن سوء الحظ إنه في أواسط القرن العشرين لما كان بدأ العرب يكتبون تاريخهم، لأنّو قبلها كانوا ينقلون ما كانوا يكتبون متل الطبري وغيره، كان فيه نزعات يسارية كثيرة في المنطقة، فكان في لا أقول تزوير للتاريخ لكن تفسيره جزئياً، أنا لم أتبع حزباً سياسياً، ولم أتبع وجهة نظر سياسية، لذلك ظليت حصتي أو نظرتي للتاريخ بعتبرها..

أحمد الزين : أرحب.

نقولا زيادة: أرحب كتير ومرات كتيرة بتكون أعمق.

أحمد الزين : ولكن اعتناقك للفكر القومي يعني ما بيخسّر تلك الموضوعية مقداراً معيّناً؟

نقولا زيادة: لأ.. لأ. لأنه هذه صارت قضية أخرى من التاريخ، هادي قضية معينة من التاريخ، أنا بدرسها وبحاول أفهمها كما هي، لا كما يقول ساطع الحصري مثلاً أو الأرسوزي أو قسطنطين زريق بشوف أنا الثلاثة هدول شو عندهم وإلى أي حد يتفق الأمر مع قناعتي أنا مع ما توصلت إليه، ما أنا كمان إلي رأي في الموضوع.

أحمد الزين : أيضاً للهوى شأن في التاريخ ومطارح في حياة المؤرخ، لم يزل هبوبه يحرك في النفس مشاعر الحنين، لكن الشوق يبقى كبيراً للوجه الذي غاب، لامرأة أصبحت رفيقة العمر، وغابت في منتصفه وفي منتصف الطريق، والرسائل التي كانت تخفف من الشوق، وتبلغه صارت شهادات لزمن الود، كان يخطها على مهل في عشيات الأمكنة التي حل بها عابراً أو باحثاً أو مشتغلاً بهذا الأمر أو ذاك، وتعجب بالإضافة إلى أناقته في الملبس، وأناقته في التحدّث، تعجب من سحر خطه وجماله ودقته، لكأنه يتأنّى بصوغ الرسائل كي لا تحتمل أي التباس أو غموض مثلما تلك الدقة في صوغه لقراءة التاريخ ولمساره.

أحمد الزين : كل هالتاريخ والكتابة.. خلينا نحكي شوي عن الحب..

نقولا زيادة: آه ليش لأ..

أحمد الزين : عندك مانع؟

نقولا زيادة: لا أبداً.

أحمد الزين : يعني كما قرأت هيك تركت حبيبة اسمها نورا ذات يوم بألمانيا؟

نقولا زيادة: كيف؟

أحمد الزين : سيدة جميلة اسمها نورا؟

نقولا زيادة: هذا مش حب هذا عشق.

أحمد الزين : هذا عشق؟

نقولا زيادة: هذا عشق ومدة قصيرة.

أحمد الزين : كم مرة وقعت في الغرام في الحب؟

نقولا زيادة: شوف لأقلّك القضية فيها ما الذي يخطر في بالك أو بال المستمع عن معنى: وقعت في الغرام؟ لأنه لما كنت في عكا أنا، كان في اثنتين أو ثلاثة من المعلمات في المدرسة ناس منهم من حيفا وناس من عكا حلوات، تعرّفنا عليهن، وفي بقدر أقول إني حبيتهن، لكن ولا وحدة صحلّي أقعد أتحدث أنا ويّاها وحدي.

أحمد الزين : ما كان في لقاءات حميمة.

نقولا زيادة: لا ما كان في لقاءات حميمة، الآن اللقاء الحميمي أول لقاء إلي كان إلي في لندن أنا، واحدة تعرّفت عليها وحبيتها وخطبتها وبعدين الحمد لله تركنا ما تزوّجنا، لكن أنا الحب الواقع اللي هو زوجتي مش لأنها زوجتي لأنه تزوجتها لأنه حبيتها، كان إلها فضل كبير علي. بعدين من الأشياء الأخرى التي أذكرها لزوجتي زوجتي ماتت بالسرطان وضلت مريضة 31 شهراً، وتألمت ألماً كبيراً فأنا كان حزني عليها كبيراً وما تزوّجت بعدها، تزوجت مرة لكن لقيتها مش زابطة الحكاية خلّصت بشهرين ثلاثة، بس أنّو وتزوجت مش لأني بدي أتزوج لأنه دائماً اللي حوليي بيقولوا لي بكرة بتعجّز وبدك مين يدير باله عليك هيني عجزت أنا ولسه بدير بالي عالناس.

أحمد الزين : أريد أن أسأل هل تشعر أن هناك المزيد من المهمات الكتابية عليك أن تقوم بها بعد؟

نقولا زيادة: أنا لا أتوقف عن الكتابة، كل ما هنالك أني اضطررت أن أقلّل ساعات العمل لأنه عيني تعبوا بس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق