2004-07-23

محمد الماغوط

إعداد وتقديم

أحمد علي الزين: طالما عشرون ألف ميل بين الغصن والطائر، بين السنبلة والسنبلة سأجعل كلماتي مزدحمةً كأسنان مصابة بالكزاز، وعناويني طويلةً ومتشابكةً كقرون الوعل، ولكن بعض الكلمات زرقاء أكثر مما يجب صعبةٌ وجامحةٌ. هذا الرجل المنهدم على كنبته الذي يصغي إلى فيروز، لكي تصل إليه في مخابيه القديمة أو في سجونه أو في حريته عليك أن تستعين بشعره بجنونه أو بصفائه، بغيومه أو بفرحه، بأحزانه بسخريته بحكمته بصَمْته وصَخبه، ولكي تعرفه أكثر رَدّد معه قصيدة السائح مثلاً: (ضع منديلك الأبيض على الرصيف واجلس إلى جانبي تحت ضَوْء المطر الحنون لأبوح لك بسرّ خطيراصرف أدلاءك ومرشديك وألق إلى الوحل أو إلى النار بكل ما كتبت من حواشي وانطباعات إن أي فلاّح عجوز يروي لك في بيتين من العتابا كل تاريخ الشرق وهو يدرّج لفَّافَته أمام خيمته).أحب التسكع والبطالة ومقاهي الرصيف ولكنني أحب الرصيف أكثر، أحب الغابات والمروج اللانهائية ولكنني أحب الخريف أكثر، أحب الشهيق والزفير ورياضة الصباح ولكنني أحب السعال والدخان أكثر.

أحمد علي الزين: كم سنة صرلك بتدخن أستاذ محمد؟‌

محمد الماغوط: من زمن خلقتي..

أحمد علي الزين: من خلقتك.. خلقت إنت والسيجارة، يعني ما وقفت الدخان أبداً؟

محمد الماغوط:أنا بعرف.. وقفت بسجن المزة مرغماً..

أحمد علي الزين: بسجن المزة مرغماً..

محمد الماغوط: مرغماً بالـ 55..

أحمد علي الزين: يعني ما كانوا يجيبولك دخان؟؟

محمد الماغوط: لأ ممنوع..كان السيجارة أردأ نوع من الدخان يعني يهربونه لنا تهريب براتب الواحد كنت آخذ ثماني ليرات بالشهر أنا، كنت إدفعهن حق السيجارة..

أحمد علي الزين: نعم.. نعم.. بتقول بكتاب سياف الزهور: (كل الرياح والعواصف والدموع والأحلام والكوابيس والمناحات خرجت من دفاتري ولا أزال في الصفحة الأولى)، مزبوط بتقول هالشي؟

محمد الماغوط: ايه.

أحمد علي الزين: يعني هل أنت إلى هذا الحد الفجائعي مُثْقَل بالانكسار والأحزان؟

محمد الماغوط: مو.. قصة لا نصر ولا هزيمة، قصة أنا ما بعرف أعمل شي في العالم إلا الكتابة أو التفكير بالكتابة، أما نتائج المعارك أو المعركة ما بتعنيلي شي.. يعني ما.. ربحت أو خسرت..ما..

أحمد علي الزين: نعم.. طيب ليش ما بتحسّ، عندك هالإحساس لم تزل في الصفحة الأولى رغم هالتجربة التي أشرفت على ستين سنة تقريباً؟

محمد الماغوط: ما بعرف..هذا إحساسي..

أحمد علي الزين: نعم.. طيب محمد الماغوط منذ يعني حوالي خمس سنين لازمت هذا البيت، لم تخرج على الإطلاق.. لم تخرج على الإطلاق يعني وعشت..

محمد الماغوط: إي.. إي لازمت.. أربع سنين..إي.. إي..

أحمد علي الزين: أربع سنين.. وعشت نوع من العزلة يعني شو سبب هالانقطاع عن الحياة عن الخارج؟

محمد الماغوط: صُدمت بأحد أعز الناس إلي صدمة قوية كتير، أنا متعوّد على الصدمات، لكن هيّ كانت مثل ما بيقولوا بمسرحية خالد الشرم: (القشة التي قسمت ظهر البعير) فقعدت.. لكن .. وأدمنت على الكحول إدمان غير طبيعي يعني و..و..

أحمد علي الزين: يعني أحد.. أحد الأصدقاء ارتكب خيانة بحقك؟

محمد الماغوط: ايه ايه.

أحمد علي الزين: فينا نعرف مين؟

محمد الماغوط: ما بدي سمّيه معليش.. ‌

أحمد علي الزين: يعني كتار الأصدقاء اللي خانوا محمد الماغوط؟

محمد الماغوط: لأ هذا يعني كتار لكن في منهم خيانة ومش خيانة شايف كيف، اللي غدروا فيي ما بحب كلمة خيانة غدر، الخيانة تقيلة يعني، اللي غدروا فيي كتار.. بنسب متفاوتة.

أحمد علي الزين: وشو عملت خلال الخمس سنين بالبيت؟

محمد الماغوط: أول شي ما آكل شي.. شرب، اشرب ودخّن.. اشرب ودخّن، لكن في عندي شي أنا ما بمشي بخطط، عمري ما عملت خطة شايف كيف؟ مالي رجل خطط ولذلك كنت أفشل عسكري بحياتي في الجيش يعني، وما بحب النصائح، بكره حدا ينصحني، وبكره أنصح حدا – شايف كيف- بعدين عندي ابن أختي طبيب، صار مقيم معي، أقام معي هون،

أحمد علي الزين: صار يقدملك نصائح ..

محمد الماغوط: لأ، مو نصائح، لأ، نصائح عملية وبلشت يبقى بهديك الفترة اللي بيذكر لي مجرد ذكر: شعر مسرح كذا، لكن حتى فيروز ما كنت أسمع..

أحمد علي الزين: يعني مع أنك أنت من محبي فيروز يعني..

محمد الماغوط: إي.. إي..

أحمد علي الزين: يعني إلى هذا الحد كان القصة مريرة عليك؟

محمد الماغوط: مجروح.. مجروح مطعون بأعماقي كنت،

أحمد علي الزين: هذا الرجل النسر العتيق، الذي جمع حطام الأيام، وأقام عزلته خلف جدار مليء بالصور والذكريات، تقرأ على مائدته المؤلفة من النبيذ وعقاقير الدواء والدخان، سيرة شاعر مسكون بالتمرد، هذا الرجل الذي يمنحه صوت فيروز أملاً جديداً، لكي تعرفه أكثر سل عنه رفيقة عمره آخر النساء في خيمة حزنه، تقول إنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط، ومنذ مجموعته الأولى "حزن في ضوء القمر" وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ، ليرى.. ليرى.. ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية، وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع وحيداً، ولا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر، فبمقدار ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحرية، نجدها في الواقع طريقاً إلى السجن، ولأنها - أي الكلمة - كانت دائماً إحدى أبرز ضحايا الاضطرابات السياسية في الوطن العربي، فقد كان هذا الشاعر يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مرّ على الوطن، وفي إحدى هذه الانقلابات خرجت أبحث عنه كان في ضائقة وقد تجره تلك الضائقة إلى السجن أو إلى ما هو أمرّ منه، وساعدني انتقاله إلى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار. غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشراً في إحدى المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني.. ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمان.

أحمد علي الزين: الآن ماذا تفعل الآن؟

محمد الماغوط: قاعد. عندي عدة التزامات: عندي أولاً كتبت حوالي مائة قصيدة جديدة..

أحمد علي الزين: حلو..

محمد الماغوط: عندي مسرحية "قيام جلوس سكوت" مع زهير عبد الكريم قيد الإعداد يعني.. قيد الـ..الـ..

أحمد علي الزين: الكتابة..

محمد الماغوط: لأ..لأ .. خالصة..

أحمد علي الزين: كتبتها..

محمد الماغوط: كتبتها وعطيتو ياها، عندي مسلسل تلفزيوني كنت عامل معه بالستينات أنا كاتب شي 15 حلقة، وهلأ بدنا نستأنفه بالأشياء المعاصرة التي طرأت على الحياة العامة، بتناول أشياء سياسية عاطفية تاريخية يعني..

أحمد علي الزين: يعني فينا نقول خلال هالأربع سنين أيضاً يعني أنتجت شيئاً..

محمد الماغوط: أنتجت..هذا اللي عوّضني، وما بفكر بالموت ما بيعنيلي الموت شي أبداً، يعني بحب الناس كلّن، بس أنا الناس بتنظر لي نظرة يعني ممنوع اغلط، أنا ممنوع اغلط لو بموت من الجوع..

أحمد علي الزين: بالنسبة للآخرين..

محمد الماغوط: بالنسبة للآخرين هنّ بيحبوني، يعني ما بيسمحوا لي..

أحمد علي الزين: يعني فينا نقول يعني ما ارتكبت خطأ في حياتك..

محمد الماغوط: لأ..لأ..لأ..

أحمد علي الزين: على الإطلاق..

محمد الماغوط: لأ لم أندم على شيء بعمري..

أحمد علي الزين: لم تفعل شيء تندم عليه..؟!

محمد الماغوط: على كلمة كتبتها.. بجوز على بعض تصرفات ولدنة ما ولدنة كذا..نسرق مشمش من البساتين..نسرق جاج (دجاج) كذا.. بالنهار.. نسرق بَسكليتات ( دراجات) نركب عليها، لكن شي عن عمد وبوعي لأ..

أحمد علي الزين: نعم.. نعم.. يعني بين السلمية عام 1934 شباط 1934 ..

محمد الماغوط: لأ 34..

أحمد علي الزين: 34 نعم سنة الولادة يعني، واليوم في دمشق عام 2004 سبعين سنة تقريباً.. يعني شو المحطة اللي مرّت بحياتك اللي كنت بتشعر فيها بشيء من الأمل؟

محمد الماغوط: أنا عمري ما يئست ولا عمري تفاءلت شفت كيف..؟

أحمد علي الزين: متشائل يعني..مو متشائل.. يعني على طريقة إميل حبيبي..

محمد الماغوط: لأ..أنا مو متشائل.. على طريقة إميل حبيبي..ما بفكر يعني.. بكره الفكر.. أنا ضد الفكر، لذلك كل شعري ومسرحي صورة.. شفت كيف..؟

أحمد علي الزين: نعم.. ولكن بشعرك وبمسرحك في مقدار من السخرية والألم يعني..

محمد الماغوط: إي.. هيّ لَقِلَّك يعني شايف كيف..؟ السخرية وهيّه شعر.. وكل إنسان جدّي، جدّي على طول هوّ إنسان مريض.. أيوه..

أحمد علي الزين: نعم.. يعني بتقديرك الكتابة الساخرة هي أبلغ تعبير عن الألم.. عن الوجع؟

محمد الماغوط: هي ذروة الألم.. هي ذروة الألم..

أحمد علي الزين: وأنت تعيش ذروة الألم؟

محمد الماغوط: أنا أعيش ذروة الألم..ولن أصادق الألم.. [فاصل إعلاني]

أحمد علي الزين: طفولتي بعيدة.. وكهولتي بعيدة.. وطني بعيد.. ومنفاي بعيد.. أيها السائح أعطني منظارك المقرِّب علَّني ألمح يداً أو محرمةً في هذا الكون تُوْمِئُ إليَّ صوِّرني وأنا أبكي وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق وأكتب على قفا الصورة هذا شاعرٌ من الشرقفي هذه المدينة (السَّلمية) ولد محمد الماغوط في شباط 1934، شأنه كشأن سائر أبناء فقراء ذلك الزمان، الذين لم تسعفهم الحال للتحصيل العلمي، لذا كانت طفولته على قدر من البؤس والحرمان، الذي تمرَّد عليه لاحقاً في القراءة وفي البحث عن أداته لمواجهة الظلم، وربما عثوره على تلك الأداة التي هي الكلمة فتحت أمامه درباً زرع على جنباتها شجره الباسق، شعراً ومسرحاً، وكانت تلك الكلمة كما تقول زوجته سنيّة صالح، هي بمقدار ما تكون في الحلم طريقاً نحو الحرية، نجدها في الواقع طريقاً إلى السجن، وهكذا عرف الماغوط مبكراً السجون، وخلف قضبانها بدأ يصوغ نصَّه بفرادةٍ جعلته واحداً من كبار شعراء الحداثة، وكتاب المسرح في عالمنا العربي، وإن كان كما يروي في بدايته لا يدرك أهمية ما يكتبه..

أحمد علي الزين: طيب لنعد إلى البدايات إلى.. إلى السلمية أنت حيث ولدت، يعني نحن كما نعلم أو كما تروي ورويت لنا لم تتعلم لم تدخل المدرسة.. يعني دخلت مدرسة..

محمد الماغوط: أنا لقلَّك كنت حبّ القرآن كتير جداً.. أخذت(Sertefica) شفت كيف، وشهادة ابتدائية وبعدين دخلت بدّي كَفِّي أدرس زراعة.. الحقيقة أنا دخلت زراعة لأنو داخلي، وداخلي بكون الأكل مجاناً، نحن كنّا فقراء شفت كيف..؟ بعدين اكتشفت إنو..

أحمد علي الزين: ما إلك علاقة بالزراعة..

محمد الماغوط: لأ.. إنو..ما هدفي مكافحة.. مكافحة الحشرات الزراعية بالحشرات البشرية..

أحمد علي الزين: فلجأت إلى مكافحة الحشرات البشرية..محمد الماغوط [مقاطعاً]: بطريقتي بقى..

أحمد علي الزين: وتقديرك نجحت بهالمكافحة بهالمهمة؟

محمد الماغوط: يعني بتصوّر إلى حدٍّ ما.. ما فشلت.. لأنه الفشل مثل ما بيقول الإمام علي: "شكل من أشكال الموت" وأنا بعدني عايش..

أحمد علي الزين: ما فشلت طبعاً.. الله.. يعني من بداياتك كنت هيك منحاز لقضايا الناس وقضايا الوطن و..و..

محمد الماغوط: إي.. إي.. يعني كل شيء شايف كيف؟ مش شايف كيف؟ كان في عندي إحساس فيه غلط، فيه غلط ما تاريخي لازم يتصلّح بين البشر، فيه خطأ وأنا مع القضايا الخاسرة حتى الموت.

أحمد علي الزين: بمن تأثرت يعني من أصحاب الأفكار آنذاك؟ يعني.. معروف عنَّك إنت كنت يعني هيك ميَّال للقوميين السوريين.

محمد الماغوط: هوّ الحقيقة يعني أنا مثلاً دخلت بالحزب القومي بس ما قريت مبادئه شفت كيف..؟

أحمد علي الزين: بدون ما تقرأ المبادئ..؟

محمد الماغوط: بدون ما أقراها لأنه هي الأمور معروفة على صعيد كتير واسع إنّو كانت الدنيا شتا، وجاية حزب القومي وحزب البعث بدهم يفتحوا مكاتب ، حزب البعث مكتبهن بعيد وبرد على الطريق ووحل وكذا، وجنبي القوميين قريب من بيتنا وفي صوبة، فدخلت بتبع الصوبة، يعني المهم صار هيك ودخلت بسجن المزة ولهلأ لاحقتني هالقصة..

أحمد علي الزين: طيب أستاذ محمد، بوقت ما أنت هربت من المدرسة الزراعية مبكراً، طبعاً وبدأت تكتب الشعر. يعني كيف؟

محمد الماغوط: بسجن المزة أنا بعرف من قراءتي لجبران أو المنفلوطي، أو مصطفى صادق الرافعي، أنه كل سنة بيكتبوا مذكراتهم، فكتبت مذكراتي، ما فينا نطلعها لأنه ممنوع، فكان بهديك الأيام في دخان اسمه بافرا ملفوف بورقة شفافة، فكتبت مذكراتي على هالورقة على علبتين، كنا ندبرهم بطريقة ما، بالرشوة وبِالْـهَيْ.. وأخدتهم معي، وأخدتهم بتيابي الداخلية خبيتهم، ورحت على بيروت.

أحمد علي الزين: وتروي أيضاً سنية صالح، تقول: قبل ذلك كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت، وعندما قدمه أدونيس في إحدى اجتماعات مجلة شعر المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم، دون أن يُعلن عن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون من هذا؟ هل هذا الشعر لبودلير، أم لرامبو ولكن أدونيس لم يلبث أن أشار إلى شاب مجهول غير أنيق أشعث الشعر، وقال: هو الشاعر. لاشك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم، وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيفة. أما هو وكنت أراقبه بصمت فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه، بلغة هذه التفاصيل، وفي هذا الضوء الشخصي نقرأ غربة محمد الماغوط، ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غيّر موقعها من عزلة الغريب، إلى عزلة الرافض.

أحمد علي الزين: بالـ (55) أنت التقيت بأدونيس بالسجن تعرّفت عليه، وهذا اللقاء أسّس لصداقة لاحقة.

محمد الماغوط: أدونيس بين القوميين اسم معروف، أنا نكرة ولا شي، عرفت كيف؟ بس أنا بتذكر من لما بالسجن كنت أعمل المسرحيات، ألّفها أنا يعني.

أحمد علي الزين: كنتوا تمثلوها بالسجن؟

محمد الماغوط: كانوا يمثلوها بالسجن.

أحمد علي الزين: نعم، نعم، يعني هيدي الموهبة كتابة المسرح من قديم يعني، يعني فينا نقول أن السجن أفادك ككاتب يعني.

محمد الماغوط: هو الحقيقة ما بدها عبقرية الكتابة، بدها تكون موهبة وصادق، الصدق هو..

أحمد علي الزين: الأساس..بتكون ابن الحياة..

محمد الماغوط: أيوه.. صادق أما إذا بتكون أفلاطون وكذاب بتنتهي.

أحمد علي الزين: طيب بعد مرحلة سجن المزة هربت..

محمد الماغوط: لك حاج تقلّي هربت.

أحمد علي الزين: هربت لبيروت..هربت لبيروت..؟

محمد الماغوط: إي هربت على بيروت

أحمد علي الزين: إي نعم..وتعرفت على الرحابنة..

محمد الماغوط: وتعرفت على مجلة شعر..

أحمد علي الزين: مجلة شعر نعم..

محمد الماغوط: الرحابنة فيما بعد، أما لما رحت على بيروت تعرفت على يوسف خان وسكنت ببيت أدونيس كمان استضافني، والله يعين يلّي بيستضيفني ما بطلع..[يضحكان]

أحمد علي الزين: أديش أفادتك تجربة بيروت؟

محمد الماغوط: كتير.. كتير.. كتير.. لدرجة..

أحمد علي الزين: كتبت خلال إقامتك ببيروت؟..

محمد الماغوط: إيه معلوم..

أحمد علي الزين: يعني شو أهم الأشياء اللي كتبتها في بيروت؟

محمد الماغوط: كتبت يا سيدي..تقريباً معظم القصائد كتبتهم في الغربة تحت ضوء القمر، أما أهم قصيدة هي القتل، كتبتها بسجن المزة، وهي اللي هرَّبتها معي بتيابي الداخلية..

أحمد علي الزين: في السجن الأول..

محمد الماغوط: أيوة.. أيوة..

أحمد علي الزين: في بيروت عام 62 خلال الانقلاب اللي..

محمد الماغوط: انقلاب القوميين..

أحمد علي الزين: كمان سُجنت في بيروت..

محمد الماغوط: سجنت كمان في بيروت، إي ورجعت لهون كمان عالسجن، يعني شايف كيف..؟

أحمد علي الزين: يعني مشوار حلو كان..؟ [يضحكان]

محمد الماغوط: لأ وبالسجن .. يعني أنا فوَّتوني عالسجن، وحتى يجرّموني حطّوني بجناح المحكومين بالإعدام، قواديس وما قواديس لمن قالوا لي شو مساوي؟ إلتلّن الصحافة احتقروني بعدين.. [يضحكان] واللي محكومين إعدام طلعوا قبلي.. [يضحكان] وبعدين رحت على بكفيّا، أبوها لسهام بيشتغل لحام، وأنا عندي جوع مزمن للـ.. أفطر لحم، وأتغدى لحم، وأتعشى لحم، أتغدى وأتعشى، قالت لي سهام: خلصت حصتك روح يلاّ، قلت لها: لأ القصة إلها ذيول أنا بدّي ضلّني هون. [يضحكان]

أحمد علي الزين: قصة إلها ذيول.. لأنّو اللحمة قائمة.. طيب لحتى نفلسف الأمور شوي أستاذ محمد..

محمد الماغوط: لأ أنا ما بحب فلسفها، أنا ما بدي.

أحمد علي الزين: عم بمزح أنا، من خلال إقامتك بالسجن، يعني شو الأسئلة اللي كنت تسأل.. تطرحها على نفسك؟

محمد الماغوط: ولا شي، أتذكر أمي وبَيِّي ورفقاتي، البقرة تبعنا والنعجة الحمامات.

أحمد علي الزين: ما في أسئلة كبيرة يعني.

محمد الماغوط: لا لا لا..كل شي بيطرحوه أسئلة كبيرة زلط، أعظم الأشياء بتنطرح بأبسط العبارات.

أحمد علي الزين: نترك محمد الماغوط في هذه الحلقة في عزلته مع تبغه وكأسه وأحزانه وسخريته لنعود إليه في الحلقة القادمة حيث سنتعرف على الوجه الآخر للشاعر، على الكاتب المسرحي الذي حقق العديد من الأعمال نذكر منها: غربة، وضيعة تشرين، وكاسك يا وطن لدريد لحام، والمهرّج والمرسلياز العربي، وهذين العملين من إخراج يعقوب الشدراوي، إضافة إلى عشرات الأعمال الأخرى الموزعة بين الشعر والمقالة والكتابة السينمائية والتلفزيونية، وسوف نتعرف أكثر على هذه التجربة من خلال ما يقوله دريد لحام، وما يقوله المخرج يعقوب الشدراوي في تجربتهما مع محمد الماغوط الذي نردد معه في ليله: هناك نحل وهناك أزهار ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي هناك طرب وأعراس ومهرجون ومع ذلك فالنحيب يملأ قلبي.

أحمد علي الزين: ثانية إلى عزلة محمد الماغوط، هنا في هذه الحارة الدمشقية يزاول هذا الشقي المتمرد احتجاجه بالصمت حيناً، وبالكتابة حيناً آخر، ولمن نسي صورته القديمة يمكن أن يعيد تشكيل ملامحها حينما يسمع صوته التبغي الأجش، أو ضحكته المشحونة بألم خفي، ولمن لا يعرفه يمكن أن يستخلص حكمة المتمرد الذي لم يحنِ رأسه إلا لجلال الحرية، ولوطأة السنين، لا بأس من منادمته كأس العزلة في نصف ساعة أخرى من الزمن، والتأمل في نَصِّه وعالمه القائم على المفارقات المتوحدة تحت رايته الخفاقة على قمم جباله البعيدة، هكذا غادرته متّكئاً على عمره تسعفه موسيقى باخ لاحتمال وحشة العالم، وصوت فيروز لتخفيف الرعب، والعتابا لمعانقة الجروح القديمة، وهكذا حين عدت إليه.

أحمد علي الزين: مثل ما ذكرت حضرتك أن محاولاتك الأولى بكتابة المسرح كانت بسجن المزة.

محمد الماغوط: إي بالمزة لأ يعني كنا ..

أحمد علي الزين: محاولات صغيرة..

محمد الماغوط: محاولات..بحب الحوار أنا، شايف كيف؟ ومشان هيك بشكّ بأصولي العربية. العربي ما بحب الحوار، شفت كيف؟

أحمد علي الزين: بيحكي لحاله.

محمد الماغوط: بيحكي لحاله.. آه ممنوع يحكي، واحد بيحكي، وواحد بيسمع، أنا بحب الحوار، أنا ما بقول هناك شعب، وهناك مسرح، وهناك صحافة، هناك نص جميل..

أحمد علي الزين: بغض النظر عن نوعه.

محمد الماغوط: بغض النظر.

أحمد علي الزين: عن نوعه.. طيب، يعني لمن قرأت بالمسرح؟ قبل ما تكتب ما قرأت لأحد بيكتب مسرح؟

محمد الماغوط: والله ما قرأت.

أحمد علي الزين: ما قرأت؟

محمد الماغوط: لا والله.

أحمد علي الزين: عجيب، عجيب أمرك..

محمد الماغوط: حتى مثلاً أنا بعد 8 آذار لوحقت قضائياً من أكثر من جهة، فتخبيت ببيت، فكانت تعرف فيه سنية زوجتي، وزكريا تامر صديق عمر هذا، فإجا على بالي بدي أكتب يعني قلت بدي أكتب قصيدة يعني شغلة هيك: العصفور الأحدب، بعدين حسيت وأنا عم بكتب إنه فيه أصوات تانية بدها تحكي، يعني بداخلي أنا، وكفّيت تابعت، وكان السقف واطي كتير هونيك، فظلني أكتب وأنا محني شايف كيف؟ فسمّيتها العصفور الأحدب.

أحمد علي الزين: (لقد حطمتني يا رجل، ونثرت الملح القاتل في أكثر جراحي عمقاً وكبرياء، لا أستطيع أن أصغي إلى شرذمة العصافير المرذولة تغني، طالما هناك عصافير حمراء وخضراء تمزقها القنابل وهي على أهبة التحليق، وعذارى نحيلات وسعيدات ينتظرن عشاقهن عند المنعطفات يحضرن الكلمة الجميلة والنظرة الساحرة ليقلنها بين لحظة وأخرى، وعشاقهن ممزقو الرؤوس في الدهاليز، وتحت الأضواء البربرية، لقد جاؤوا إليك من قرى بعيدة لا يعلم إلا الله أين تقع بالسنابل المحطمة، لا لتعيدها خضراء أو حمراء ولكن لتقول لهم فقط: "حسناً أيها الرفاق القدامى عودوا إلى منازلكم لقد رأيتها"، وكما يقول: لقد أفادته تجربة بيروت كثيراً، في هذه المدينة حلّق الماغوط في مجلة شعر، وألف قصائد، وألّف أصدقاء كُثُر منهم يوسف الخال، الأخوين رحباني، ويعقوب الشدراوي، الذي أخرج له عملين: "المرسلياز العربي"، و"المهرج". يعقوب الشدراوي (مخرج مسرحي): محمد الماغوط الإنسان الشاعر المسرحي مثل حبة ملبس، الملبسة درجات نكهتها طيبة، بس عالغميق فيه عتمة، فيه غموض، فيه شك، فيه حياة معذبة، فيه جنون، فيه تشاؤم، كابوس.. كابوس مرعب ومتعب بالوقت نفسه، كابوس كوميد مظلل بمسحات مأساوية.

أحمد علي الزين: كيف علاقتك بيعقوب؟

محمد الماغوط: من بعد ما اختلفنا يوم "المهرج" شايف كيف؟ ما عاد حكيت معه، ما عاد شفته ما تسألني عنه، أنا إذا أنا عندي نص، وبدّي أعطيه لمخرج رغم هالشّي بعطيه ليعقوب.

أحمد علي الزين: ليعقوب..

يعقوب الشدراوي:الماغوط متناثر غريب، بتتطلع فيه مرِح، مرَحْ وضَحِكْ بيوجّع الخواصر، وبتشوف فيه شغلات تانية مهمة كويسة، ولكن الماغوط لو أنا شاعر كنت بقول عنه: نزوة ومي مرسبة بسقف مغارة جعيتا، وإذا بدّك اختصره للماغوط بقول: "في الهزل جدٌ وفي الجد هزلٌ"، محمد الماغوط هديك الأيام ماغوط العصفور الأحدب، وماغوط المهرج، وقت كنت تقعد معه وتتحاور كان يخطر عبالك رابليه، لما تقرأه كان يخطر عبالك شعر مايكوفسكي الهجائي، ولما كنت تريد تصوّره كنت تقشع بخيالك رسوم دومييه رسام الثورة الفرنسية، هيدا هو الماغوط.

مشهد من مسرحية كأسك يا وطن

غوار: في حدا بدو يضيّق لي خلقي ويكرّهني عيشتي، لأرحل عن وطني، ما بعرف مين هذا الحدا، من برّة من جوّة والله ما بعرف. بس مين ما كان يكون هذا الحدا، أنا ما بقدر أرحل عن الوطن أنا بدوخ بالطيارة يا أخي، ثم لنفرض إني أنا بعدت عن الوطن ورحلت عنه لبعيد، بس مشكلتي أنه الوطن ما بيبعد عني، بيضل عايش فيّ من جوّة وين بدي أهرب منه؟ وين؟ ( تصفيق حاد) لذلك بدي ضلّ عايش فيه غصب عن اللي ما بدّه، طالما عم بقدر احكي يلي بدي ياه مارح أيأس وبدي ضل أصرخ للغلط غلط بعينك، وبدّي أعمل ثورة بالبطحا، واشرب كاسك ياوطني على رواق، بدي أشرب كاس عزك، ولسّه بدي أكتب اسم بلادي على الشمس اللي ما بتغيب..

أحمد علي الزين: ولمن لا يعرفه، أو لمن يرغب أن يتذكّر هذا الشاعر هو الذي كتب للمسرح والسينما روائع هامة، كالمهرج، والتقرير، والحدود، غربة، وضيعة تشرين، وكاسك يا وطن، وسوى ذلك من الأعمال، وقد جمعته بعض تلك الأعمال بدريد لحام لسنوات طويلة، وجمعت حولهما جمهوراً كبيراً في أكثر من مكان عربي، وللذين تسنَّى لهم أن يشاهدوا تلك الأعمال أعتقد أنه من الصعب أن تخبو ومضاتها في باله.

أحمد علي الزين: كيف كانت.. يعني كيف بلّشت العلاقة مع دريد؟ وكيف انتهت؟

محمد الماغوط: هي ما انتهت الحقيقة..

أحمد علي الزين: بس مرت فترة هيك فتور ومشاكل.

محمد الماغوط: هي المهرّج كانت إلو، أول شيء كنت عم بكتبها إلو، بعدين بدّو يتدخّل هوّ قلتلّه لأ..

أحمد علي الزين: يتدخل في كتابة النص؟

محمد الماغوط: يعني أيوة بالشخصيات والهي، بعدين بحرب حزيران.. بحرب تشرين عملنا ضيعة تشرين، وبعدها غربة، وبعدها كاسك يا وطن، وبعدها شقائق النعمان، وعملتلّه للتلفزيون: وادي المسك، ووين الغرام؟ وبالسينما: الحدود والتقرير.

أحمد علي الزين: طيب شو سبب الخلاف لاحقاً؟

محمد الماغوط: الخلاف يعني كان عنده غرور، وفيه ناس دخلوا عالخط، شايف كيف؟

أحمد علي الزين: في تخريب العلاقة.

محمد الماغوط: إي.. إي..ليه يعني؟ لشو النص .. أنت بتطلع عالمسرح بتكفّي.

دريد لحام:محمد الماغوط أنا بعتبره خزان فرح، وخزان وجع، خزان ألم وأمل بنفس الوقت، وبسبب شاعرية كلمته بخليك غصباً عنك تكون شريكه بكل هدول، في.. بقولوا إنه المحبة بالمحبة بتُوْسَع المطارح، بتصير المطارح أوسع، مشان هيك قلب الماغوط واسع الوطن كله بكل فرحه وبكل حزنه. تجربتي معه كانت تجربه كتير.. كتير غنيّة، طبعاً جاءت فترة اختلفنا أنا وإياه بس حتى لما اختلفنا بالرأي ظل حبيبي، وظل صديقي، وظلّ بالنسبة إلي الشاعر الأهم، والكاتب الأهم.

أحمد علي الزين: يقول بدون النظر إلى ساعة الحائط أو إلى مفكرة الجيب أعرف مواعيد صراخي، لا شيء تغيّر أيها الشاعر البري منذ صرختك الأولى يوم ولدت في شتاء يبعد عن صرختك الآن سبعين سنة، لا شيء تغيَّر سوى أن الجدران تعلو بين صراخك وآذان العالم، وسخريتك تعلو والطفل الذي فيك يشاغب ويحاول تسلق تلك الجدران، لا شيء تغيَّر سوى أن احتجاجات محمد الماغوط أخذت أشكالاً أخرى على فظاعة الظلم والهوان.

أحمد علي الزين: طيب، هلأ كيف بتعيش حياتك أستاذ محمد حالياً يعني أنه شو مصادر عيشك مصادر مصادرك المالية؟ الكتابات بتكفي؟

محمد الماغوط: إي يعني أولاً .. يعني هيّ لأ ما بتكفي، لك ممكن يعني الواحد هيّ شايف كيف، عندي تقاعدي..

أحمد علي الزين: كنت موظفاً..

محمد الماغوط: إي متعاقد أنا مع .. وانحلت عالتقاعد بعدين الرئيس بشار الأسد خصصلي راتباً مدى الحياة.

أحمد علي الزين: حلو..

محمد الماغوط: هي شغلة.. وكتبي بتطلّعلي.. وهيك مناسبات متل مناسبتكن مناسبة كذا..

أحمد علي الزين: نحن مناخذ منك. طيب أستاذ محمد مين من اللّي هيك تعاملت معهم على مستوى النص المسرحي وأضافوا للنص شيئاً، يعني أضافوا له بعداً جمالياً آخر..

محمد الماغوط: ما حدا لأ ما حدا.

أحمد علي الزين: يعني المخرجين ما كانوا لهم أبعاد جمالية؟

محمد الماغوط: لأ وأنا مثلاً ما بحط توقيعي عالنص إلا ما بكون شربان 200 لتر ويسكي، ومدخن 20 ألف كروز دخان.. ما بعطيه هيك يعني أنا..

أحمد علي الزين: يعني بتصرف بنزين منيح عليه؟

محمد الماغوط: مهما كان يكون مثلاً، يعني لذلك أنا .. هاي المهرج مثلاً دريد.. يعقوب حرف ما شالوا ولا رقم.. أبداً

أحمد علي الزين: ما بشيلوا..يعقوب الشدراوي (مخرج مسرحي): الماغوط أنا أخرجت له مسرحية ثانية هي المرسيلياز العربي، والمرسيلياز العربي اللّي اليوم الماغوط ما شافها، ولا حدا لعبها غيرنا لأنه مكتوبة على الدفتر، والدفتر يمكن كان مع انطوان كرباج بعده.

أحمد علي الزين: بالشخصيات اللّي هيك كنا نشوفها بهالأعمال أنت يعني كيف كنت تركّبها، من وين بتستوحيها..

محمد الماغوط: من الحياة..‌

أحمد علي الزين: بتضيف من هذه الشخصية إلى تلك.

محمد الماغوط: إي إي.. بطوّر عليها.. ما بكتب شي أنا .. ما فيه شيء كاتبه إلا إلو في ظل بالواقع

أحمد علي الزين: يعني إنت مثلاً بتراقب الحياة اليومية في الشارع؟

محمد الماغوط: ايه عايشها.

أحمد علي الزين: كنت تعطي وقت؟

محمد الماغوط: أوه كل حياتي للحياة.

أحمد علي الزين: بتعطي وقت بتراقب الناس في الشارع، طيب على سيرة الكتاب أنت.. أين ومتى تكتب؟

محمد الماغوط: ما لي أوقات، وما بكتب على طاولة، بحياتي ما كتبت على طاولة، بكتب على ركبتي.

أحمد علي الزين: دفتر وقلم رصاص؟

محمد الماغوط: مو رصاص القلم العادي، بحب القلم يكون جميل، والدفتر أنيق، وعلى ركبتي بكتب، كل شي كتبته بعمري علي ركبتي.

أحمد علي الزين: وبس تاكل وإنت وصغير كنت تحط الرغيف على ركبتك؟

محمد الماغوط: إي طبعاً.

أحمد علي الزين: يعني مثل الأكل الكتابة يعني.

محمد الماغوط: إي طبعاً..

أحمد علي الزين: بدنا ننتقل لموضوع هيك شراكة الحياة، إنت فقدت شريكة حياتك..

محمد الماغوط: إي سنية صالح..

أحمد علي الزين: سنية صالح، كانت شاعرة وناقدة.

محمد الماغوط: شاعرة وإنسانة عظيمة.

أحمد علي الزين: يعني فينا نقول هي كانت آخر الأصدقاء الذين كنت تبوح لهم بهمك وبفرحك وبأسرارك.

محمد الماغوط: إي هي هية..

أحمد علي الزين: بعد منها ما عاد فيه أصدقاء.

محمد الماغوط: صار علاقات هيك عابرة وكذا، لكن متل بقلّها بسياف الزهور: كلهم نجوم عابرة في السماء.

أحمد علي الزين: طيب مسافة طويلة هيك بالحياة سبعين سنة ممَّ كنت تخاف؟ وعلى ماذا كنت تخاف؟

محمد الماغوط: ليك عمري ما كرهت حدا كراهية..

أحمد علي الزين: مش على الكراهية على الخوف. مم كنت تخاف؟

محمد الماغوط: من كل شي.

أحمد علي الزين: كنت تخاف من كل شي، يعني عندك حذر تجاه الآخرين.

محمد الماغوط: بخاف من العصفور.

أحمد علي الزين: وبتحبه للعصفور.

محمد الماغوط: بحب الزهرة، وبخاف من الزهرة، دائماً أمامي سؤال: نسر خائف، نسر خائف، أم فأر مطمئن؟

أحمد علي الزين: طيب عندما ترى الآن يعني بعين اليوم إلى السلمية أمس وقت كنت صغيراً يعني لمين بتحن؟ لمين بيجرفك الحنين؟ لأي شخص؟ لأي مكان..

محمد الماغوط: كتار يعني كتار اللّي.. رفقات الطفولة هدول.

أحمد علي الزين: بتشتقلهن

محمد الماغوط: إي بشتقلن كتير، بس هلأ يعني اللّي هاجر، اللّي مات، اللّي انسجن، اللّي..

أحمد علي الزين: طيب على مستوى السياسة مين هيك مرق بعالمنا العربي من نجوم سياسية أعجبت فيها بتجربتها بفكرها.

محمد الماغوط: ما.. ما حبيت السؤال.

أحمد علي الزين: ما حبيت السؤال؟ وأنا ما حبيت الجواب..[يضحكان] طيب بسياف الزهور أيضاً مثل ما بلّشنا بالبداية تحب الشيء ونقيضه، ليه؟

محمد الماغوط: بحب المفارقات بالحياة بتلفت نظري، شفت كيف؟ النسر – الفأر، القمة الحضيض شفت كيف؟ الربيع الخريف، يعني.. وأمثالها..

أحمد علي الزين: وأنت..

محمد الماغوط: وأنا باعتبار مالي مثقف، ما مُطَّلع، ما عندي لغات، ما عندي كذا، فشايف كيف؟ بحب الصورة. يعني أنا بكل شعري هيّ الصورة اللّي بتلفت النظر.

أحمد علي الزين: وأنت يعني في هذه المفارقات وين بتعيش؟

محمد الماغوط: نعم.

أحمد علي الزين: [معلياً صوت] وين بتعيش بهالمفارقات؟

محمد الماغوط: شخصية وحدة، أنا إذا كنت عاشقاً، أو حاقداً، أو طفراناً، أو ممتلئاً، أو شي، أنا ما بغيّر، ما بغيّر ولا ببدّل.

أحمد علي الزين: طيب إذا بدي أسألك سؤال إله علاقة بالسياسة هيك إذا بدنا نعمل قراءة للمشهد العربي اليوم بتقديرك شو هي الأسباب اللّي أوصلتنا لهذا الـ..؟

محمد الماغوط: هو مو ببكّي وهديك الكلمة كمان..

أحمد علي الزين: ليه صار فينا هيك؟

محمد الماغوط: نعم

أحمد علي الزين:ليش صار فينا هيك

محمد الماغوط: ما فيه حرية عنا، الإنسان العربي عمره ما عرف وين هي الحرية.

أحمد علي الزين: عمره تاريخياً!!

محمد الماغوط: بتاريخ حياته ما عرفها، دائماً هناك من يتكلم وعلى الآخر عليه أن يسكت ما في نقاش.

أحمد علي الزين: من أجل ذلك أنت كتبت الحوار..

محمد الماغوط: أبداً.. أبداً..

أحمد علي الزين: لجأت للحوار.

محمد الماغوط: يعني هلأ يعني أهمية المسيحية كلها، بداية لما بطرس قلّن قال الرب أو قال المسيح ما بعرف مين قلّوا، بطرس يمكن اللّي قلّو، قلّو أنا بدي قول كمان.

أحمد علي الزين: أنا بدي قول كمان!

محمد الماغوط: بدون حوار، أسوأ.. أسوأ.. أسوأ ديمقراطية في الدنيا أهم من أعدل دكتاتور.

أحمد علي الزين: قولوا لوطني الصغير والجارح كالنمر، أنني أرفع سبابتي كتلميذ طالباً الموت أو الرحيل، ولكن لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة من أيام الطفولة وأريدها الآن، لن أصعد قطاراً، ولن أقول وداعاً ما لم يعدها إلي حرفاً حرفاً ونقطةً نقطة، وإذا كان لا يريد أن يراني أو يأنف من مجادلتي أمام المارة فليخاطبني من وراء جدار ليضعها في صرة عتيقة أمام عتبة ما، أو وراء شجرة ما، وأنا أهرع لالتقاطها ما دامت كلمة الحرية في لعبتي على هيئة كرسي صغير للإعدام..

لمخرج المسرحي يعقوب الشدراوييا محمد الماغوط بيقولوا لي بعدك شبّ، صار زمان ما شفتك .. من السبعينات، أنا ما بقيت شب ما بعدني شبّ، يمكن منشان هيك بعده عقلي ظاهر بمسرحية المهرج، [يقبل يده] طيري على الشام والزقي بجبهة محمد الماغوط.

أحمد علي الزين: هذا الشاعر البري، هذا المتسكّع، والشريد في بداياته، هذا الصعلوك النبيل أو الفطري الصادق، الفريد في نصه لكأنه يحمل في جسده السبعيني كل شقاء السنين، وصخب الأطفال، وفي عينيه كل الدموع، وكل الفرح وفي صوته الأجش الذي جعله التبغ أكثر جرشاً يحمل كل صراخ أطلقه الإنسان من جوع أو تعذيب أو ظلم، في غرفته في عزلته يبقى مشحوناً برغبة الحياة يردد ساخراً: أيها المارة أخلوا الشوارع من العذارى والنساء سأخرج من بيتي عارياً وأعود إلى غابتي.