2004-07-09

روافد مع السيد محمد حسين فضل الله

إعداد وتقديم

أحمد الزين: نادراً ما شعرت بصفاءٍ كما الذي انسكب في نفسي في حضرة العلامة السيد محمد حسين فضل الله، ونادراً ما أسرني حضورٌ بالمقدار الذي جعلني فيه هذا الإنسان المتدفق المتواضع أن أستغرق في سكينة يمنحك إياها من فرط هدوئه الروحي وصخبه المعرفي وتنوع مداركه وسحره البلاغي، وهذا الهدوء لكأنه صفحة بحر صيفي يتماوج على مهل بعد مكابدة عواصف شتاء معرفي طويل، أو لكأنه استوى بعد إعصار التفكر أو هو مكافأة من العقل بعد صخب الأسئلة والحيرة، أو هو ميزة المطمئن إلى اشتغالات الفكر وتجلياته.

أحمد الزين: في البداية هيك عندي رغبة بلّش الحوار بسؤال، وعادة الناس يعني يرجعون إليك لغاية إجابة على سؤال يقلقهم، أو لملمّة ما، أو لازدياد في معرفة، ولكن عندما يحيّرك على المستوى الشخصي سؤال لمن ترجع إلى العقل أم إلى النص؟

السيد محمد حسين فضل الله: بسم الله الرحمن الرحيم، إنني أؤمن بأن العقل هو عمق إنسانية الإنسان حتى في إيمانه بالنص؛ لأن العقل هو الذي يشق الطريق إلى معرفة الله، وإلى معرفة الإنسان نفسه، وإلى معرفة الحياة. وعندما أسأل العقل فقد يشير لي في المجالات التي لا أملك فيها خبرة تفصيلية أن أسأل الذين يملكون عقل الخبرة، لأستمع إليهم لا لأتعبد بما يقولون ولكن لأفهم وأحاور. إنني أحاور حتى النص..

أحمد الزين: جميل.

السيد محمد حسين فضل الله: لأن النص قد يكون جامداً في حروفه، ولكنه أفق واسع في معانيه، وأنا أنفذ إلى المعنى ولا أتجمد عند اللفظ.

أحمد الزين: نعم، طيب سماحة السيد هل من سؤال الآن يحيرك؟

السيد محمد حسين فضل الله: إن كل الأسئلة تحيّرني لا لتجلِد موقفي ولكن لتحركه نحو الآفاق الواسعة للقضايا التي تهز كل علامات الاستفهام في عقلي. إنني أعتقد أنه عندما يتجمد سؤال في عقلك أو يبحث عن زاوية محدودة فإنك تتجمد. لذلك كل يومٍ يعيش ألف سؤال في عقلي لأن ألف قضية تنتظرني لأفكر فيها.

أحمد الزين: نعم، ذات يوم زارك جورج حاوي، طبعاً هيك ومازحك قائلاً: قلّك أنا مش مؤمن كفايةً ولكن بين حين وآخر تنتابني نفحات من الإيمان، فأجبته هيك يعني بمداعبة قلت له: طبعاً أنا مؤمن ولكن بعد حين وآخر تنتابني نفحات من الشك، الحقيقة سؤالي هو سماحة السيد أنه هل الشك هو دلالة من دلالات إشغال العقل؟

السيد محمد حسين فضل الله: في البداية الإيمان يمثل بالنسبة للإنسان معنى أصالة إنسانيته التي تجعله يعيش في أكثر من فترة ليتطلع إلى معاني الإيمان؛ لأنه يبحث عن شيء، شيء غامض عندما يشعر الإنسان بأن هناك ظلمات تعيش في كثير من آفاقه ولهذا فإنه يلتقي ببعض اللمعات التي تشير إليه أن هناك حقيقةً لابد لك أن تنفتح عليها، أما مسألة الشك فإنه سر المعرفة الذين لا يشكون يتجمدون، الشك يفتح لك كل الآفاق. تشك فتبحث، وتبحث فتفكر، وتفكر لتناقش ولتصل إلى الحقيقة أو إلى ما يقاربها، إننا نعتبر أن الدين قال لنا: إن عليكم أن تشكّوا، ولكن لا تتوقفوا عند الشك، ولكن أكملوا الرحلة فإن الشك المثقّف الواعي هو الذي يضيء الطريق إلى اليقين.

أحمد الزين: نعم، يعني بهذا السياق سماحة السيد ألا تعتقد أن بعض مظاهر السكونية في أنساقنا الثقافية هو سبب لتخلّفنا ومظهر من مظاهر الاستبداد؟

السيد محمد حسين فضل الله: إن مسألة السكونية تعني أن عقلك يختبئ في داخل ذاتك لينام، وأن قلبك يسكت في نبضاته ليموت، وأن حياتك تدخل في ألف كهف وكهف. السكون يعني الموت، والحركة تعني الحياة، تحرّك لتتمرّد على الكثير مما ألفته أو ورثته أو فَرَض نفسه عليك. تمرد حتى تكتشف أن فكرك قد يكون خطأً وأنت ترى أنه الصواب، وأن واقعك قد يكون طاغياً وأنت ترى أنه العدالة، لذلك كلما تمردت أكثر كل ما استطعت أن تحرك كل أعماق ذاتك وكل حركة عقلك وقلبك وتطلعاتك أكثر؛ لذلك أن تتمرّد ليس معنى ذلك أن تنطلق مع الفوضى، ولكن أن تعرف كيف تنتج الحياة.

أحمد الزين: نعم، نعم، وهذا التمرد يعني يطال شتى الأنساق، يعني حتى التمرد على النص إذا صح التعبير؟

السيد محمد حسين فضل الله: إنني.. إننا نعتبر أن العقل يحاكم النص؛ لأن النص لا يمكن أن يخالف العقل، إذا خالف العقل فإن عليك أن تبحث في ثقافتك اللغوية عن التأويل..

أحمد الزين: نعم.

السيد محمد حسين فضل الله: لأن.. والعقل لا أقصد به هو ما قرأتَه، ولكن هو ما يندفع ليمثل فطرة إنسانيتك. لهذا فإن العقل لا يطرح النص بالكلية عندما يختلف معه فطرياً، ولكنه يبحث عن الثقافة اللغوية التي لا تقتصر على الحقيقة في القاموس ولكنها تلجأ إلى الفن اللغوي في المجاز والاستعارة والكناية لتقول: إن النص يشير ويكنّي ويستعير فلا يختلف معي ولا أختلف معه؛ لأن النص ينطلق من قلب الحقيقة والعقل الفطري هو الذي يؤصل الحقيقة.

أحمد الزين: حين تسأله عن أي أمر يشاركك السؤال في إجابته، يبحر في تأملاته ويصطحبك معه في رحلاته داخل النفس وإلى آفاق الكون، يجلي ضباب الغموض على مهل فتتكشف الأبعاد دون عناء، هو يعرف تماماً ما يريد، ومريدوه كثر يرجعون إليه لغاية إجابة على سؤال أو لحيرة فكرية أو لازدياد في معرفة، ويرجع هو إلى العقل المؤمن، يرجع إلى مجرة أفكاره التي تنتظم في حركية الجدل والانفتاح والحوار والإصغاء للصوت الآخر والسجال، غزيرٌ، متدفقٌ، عميقٌ، وعالٍ

أحمد الزين: سماحة السيد بتقديرك انشغال المجتمع الإسلامي يعني بمظاهر الطقوس والسجالات التي تدور حولها هنا وهناك ألا يؤثر على حركية التطور، حركية الإنتاج ووعي الناس؟

السيد محمد حسين فضل الله: أن تكون منتمياً إلى كيان في حجم الإسلام هو أن تكون منتمياً إلى الكون كله؛ لأن الانتماء إلى الإسلام هو انتماء إلى الله المطلق، فأنت تسبح في بحار المطلق عندما تسبح في بحار الإيمان. وعندما تشعر بأن الله خلقك وخلق في إنسانيتك معنى العقل وقال للعقل: كن حراً، ليست هناك أية حواجز تحجزك عن أي مفردة من مفردات المعرفة، ولكن وأنت تمارس حريتك المطلقة كن مسؤولاً، ولذلك فإن قصة الذين ينتمون إلى الإسلام هي قصة حجم الثقافة التي يتحركون فيها. فهناك الذين يحبسون أنفسهم في دائرة العبادات كطقوس، ولا ينفذون إلى امتداد هذه العبادة في معنى الإنسان، في انفتاحه على الله وعلى حياته، الصلاة عبادة ولكنها ليست طقساً، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، عندما نفهم أن العقل هو الأساس في الإسلام ونفهم حرية العقل، ونفهم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، فكيف يمكن أن يكون الإسلام جهلاً أو يكون الانتماء هو اللاعقل.

أحمد الزين: طيب كيف تقرأ سماحتك ظاهرة العنف الدموي الذي يمارس الآن؟ طبعاً وسابقاً، هذا العنف هل هو فقط نتيجة ردة فعل على الظلم وفقدان العدالة أم أن الإنسان يعني حتى هذه اللحظة لم يستطع أن يحقق إنسانيته ويسيطر على القاتل الذي فيه؟

السيد محمد حسين فضل الله: مشكلة العنف هو.. هي مسألة الفكر الذي يبتعد عن مسار الحياة الطبيعية ومشكلة الواقع، وربما يستعجل هؤلاء الناس الذين يجدون حل المشكلة في العنف ربما يستعجلون هذا الحل ونقرأ في النص النبوي الشريف: إن الرفق ما وُضع على شيء إلا زانه، ولا رُفع عن شيء إلا شانه، وأن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف. ولكن الناس يخلطون بين مواقع العنف ومواقع الرفق، فيستبدلون هذا بهذا وذاك بذاك، ثم إن حركة الواقع قد تحاصر الإنسان في بعض الحالات سياسياً وأمنياً فتفرض عليه ذلك، إننا نجد أن هذا العنف الذي يهز العالم والذي يلتقي فيه المسلمون وغير المسلمين، إن هذا العنف يمثل حالةً من حالات انحراف الإنسان في تصوراته لحل المشاكل، إنهم يتحدثون الآن عن الأصولية ويحاربون الأصولية، والأصولية تتمظهر في أمرين: - الأمر الأول: هو عدم الاعتراف بالآخر. - والأمر الثاني: هو اعتبار العنف الوسيلة الفضلى لحل المشكلة. ونحن نرى أن كل هذا العالم الطاغي الذي يمارس الاحتلال ومصادرة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في العالم هو أصولي، أي فرق بين أصولية أميركا أو أوروبا أو أصولية هؤلاء الذين يقتلون الناس لأنهم يحبسون أنفسهم في دائرة ضيقة في فهم كلمة الجهاد أو ما إلى ذلك؟ أو أي فرق بين الدول الكبرى التي تلغي الشعوب - عندما تصادر كل قضاياها وتصادر كل ثرواتها - وبين هؤلاء الذين يعملون على إلغاء شخص يختلفون معه في الفكر أو لا؟ العالم عالم أصولي ولكنه يغلّف هذه الأصولية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، إنها مجرد عناوين كبرى ولكن الواقع شيء آخر.

أحمد الزين: سماحتك أنت مع الشخص الذي يقطع رأس ويستعرضها على شاشة التلفزة؟

السيد محمد حسين فضل الله: لقد تحدثت في أكثر من مداخلة أننا ضد كل هذا الأسلوب في محاولة عقاب أي إنسان لا علاقة له بكل هذا الصراع الذي يقتل الناس فيه بعضهم بعضاً في إطار الحرب، إن المسألة هي ليست مسألة قطع الرأس، ولكن هي مسألة الإنسان الذي نحمّله وزر هويته أو وزر دولته في هذا المقام، إننا نتساءل عن قطع رؤوس الشعوب في هذا المجال تحت أي تأثير من التأثيرات، وهل نستحضر قول الشاعر: قتل امرئٍ في غابة جريمة لا تغتفرْ وقتل شعب آمنٍ مسألة فيها نظرْ إن أميركا تقطع رؤوس الناس شعوباً، وتقطع رؤوس اقتصادها وما إلى ذلك.

أحمد الزين: نعم، يعني في هذا السياق سماحتك تعرضت لأكثر من مرة لمحاولات اغتيال جسدية وربما فكرية أحياناً تقريباً. يعني تقديرك مردّ تلك المحاولات إلى عقلك المنفتح يعني إلى جرأتك في طرح بعض الأمور التي قد تلغي بعض الأدوار؟

السيد محمد حسين فضل الله: إنني أتصور أولاً أن أي إنسان في العالم لا يستطيع أن يلغي إنساناً آخر، أيّاً كان، لأنك في حضورك وفي وجودك تتأصل في الواقع من حيث يتأصل فكرك ومن حيث يتأصل دورك، ولكن ربما تنطلق بعض المسائل لتحاصر بعض ساحاتك، لتضع الحواجز بين الآخرين الذين يقتربون من الساحة وبين الساحة، ولكن هذه الحواجز غالباً ما تكون حواجز تطير مع الهواء، مع كل هواء ينطلق، لذلك حتى وأنت تريد أن تغتال دوراً أو تغتال خطاً سياسياً أو موقفاً إنك قد تغتال شيئاً مادياً فيه، ولكنك عندما تغتال هذه العناصر المادية في الشخص فإنها تتحول إلى بذورٍ قد تصنع الكثير من الأدوار حيث الفكر وحيث الخط وحيث التيار الذي ينطلق في الحياة، ولهذا فنحن نعتقد أن الذين اغتالهم الظالمون في التاريخ أصبحوا يمثلون أشجاراً باسقةً أصلها ثابت وفرعها في السماء.

أحمد الزين: ليس من مطلق عنده سوى العقل، والمقدس صفاءات الإنسان. وفي لحظات تأملاته وسكينته تلمح في وجهه وفي عينيه شغف الذي لم يرتوي بعد من معرفة، وومضات حزن نجفي عتيق، ونورانية حققتها صفوات الروح وعفة النفس.

أحمد الزين: لا حرج عنده أمام أي سؤال، لا حرج عنده ولا حدود لساحة الحوار، مفتوحة ساحته على التنوّع، فحين يبدأ الكلام يحرك الساكن ويرمي حصاته في البحيرة الراكدة، بذهنية المنفتح الذي يضنيه الجمود الفكري والمرجعي؛ لذلك تجرّأ وتمرد وقرأ خلف النصوص وفي عمقها جاعلاً لشهب العقل أن تضيء ظلمات المعنى، ولأنه كذلك عرفناه في أكثر من كتاب، وموقف، ورأي، وتفسير، وتحليل. فقيهاً يستعين بعقله ليهتدي ويهدي إلى الحقيقة، وشاعراً يعلو إلى مصافّ الوجد. في هذا الجزء من الحوار نتابع مع العلامة ما أمكن من الأسئلة حول قضايا الحياة والإنسان.

أحمد الزين: بدي انتقل لموضوع آخر سماحة السيد هناك نوع من تجليات الفكر الاتّكالي يقول: إن أي إنجاز علمي يُحقّق في العالم مصدره هو الإسلام أو النص القرآني. سؤالي هو طالما هذا الإنجاز مصدره متوفر في نصّنا، لماذا لم نكن السباقين في تحقيقه؟

السيد محمد حسين فضل الله: أنا لا أتفق مع هذه الفكرة؛ لأن الإسلام يمثل عقيدةً تفتح آفاق الإنسان على الله، إن عظمة الإسلام هو أنه أعطى الإنسان المنهج ودفعه إلى أن يتطلب المعرفة من خلال دائرتين: - الدائرة الأولى وهي دائرة التأمل والتعقل والتفكير: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً}. - والثاني والدائرة الثانية هي دائرة التجربة: {فاعتبروا يا أولي الأبصار}. لذلك الإسلام لم يحدثنا عن الفيزياء والكيمياء وعن تفاصيل الأسرار وعن الذرّة وما إلى ذلك وعن تكنولوجيا وإنما أعطانا المنهج: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} إن الإسلام احترم عقل الإنسان وقال له إنك سيد الكون، جرِّب أن تعطي الكون معرفة جديدة وواقعاً جديداً، أعطِ من عقلك عقلاً وأعطِ من طاقتك طاقةً، الإنسان هو صانع التغيير، لا الاقتصاد، لا الجنس لا غير ذلك مما أُريد له أن يحبس الإنسان في البعد الواحد. الإنسان بكله عندما تغيّر نفسك تغير الواقع، عندما تغير عقلك وتجربتك تغيّر التاريخ.

أحمد الزين: تقصد بالاقتصاد والجنس ماركس وفرويد؟

السيد محمد حسين فضل الله: أي..

أحمد الزين: طيب يعني سماحتك إلك رأي بعملية الاستنساخ وأنت مش ضدها حسب ما قرأنا يعني، ولكن هناك الكثير من رجال الدين أو من المؤسسات الدينية ضد الاستنساخ، بتقديرك الاستنساخ هو يعني ما بخلينا نرجع نعيد التفكير بمسألة التكوين والخلق؟

السيد محمد حسين فضل الله: لقد عالجت مسألة الاستنساخ في دائرتين: - الدائرة الفكرية بما يتصل بالعقيدة الدينية في مسألة التكوين. -والدائرة الثانية الدائرة العملية في خط التطبيق العملي. - في الدائرة الأولى طرحت سؤالاً: هل يتحول الإنسان إلى خالق بالاستنساخ؟ أو شريك للخالق؟ - والدائرة الثاني: هل يمكن أن نطرح الاستنساخ في الواقع العملي للإنسان؟ - في الدائرة الأولى قلت: إن الاستنساخ لم يحوّل الإنسان إلى خالق؛ لأن عملية الخلق ليست تغيير خلق الشكل ولكنه خلق القانون، كيف يولد الكائن الحي؟ إنه يولد من خلية تجمع 46 من الكروموسومات، النطفة تحمل 23 من الكروموسومات والبويضة تحمل 23، فإذا تلقحت البويضة بالنطفة كملت الخلية 46، فولد الإنسان أو الحيوان، هنا ما الذي فعله المستنسخون؟ جاؤوا بخلية ناضجة تحمل 46 من الكروموسومات، وفرغوا البويضة مما فيها من كروموسومات وأودعوا هذه الخلية في داخل البويضة، فالقانون هو القانون.

أحمد الزين: لم يتغيّر شيء.

السيد محمد حسين فضل الله: لم يزيدوا واحداً هنا أو ينقصوا واحداً هناك. الله خلق أساس العنصر الذي يولد فيه الكائن الحي، إذاً هذا لا ينافي التكوين، أما بالنسبة إلى الدائرة العملية فقلت بأنك لكي تحرك أي مشروع في الواقع لابد أن تدرس إذا كانت سلبياته أكثر من إيجابياته فعليك أن تبعده عن الواقع، وإذا كانت الإيجابيات أكثر من السلبيات فعليك أن تطلقه، والاستنساخ لا يمثل حتى الآن تجربة يعني واضحة حتى نستطيع أن نعرف سلبياته وإيجابياته، ونحن لا نخاف على الإنسانية من مسألة انتشار الاستنساخ؛ لأن الناس تريد أن تتخلص من الواقع الطبيعي وأن تحدده وهو لا يكلفها شيئاً بل إن تحديده هو الذي يكلفها الكثير فكيف بالاستنساخ؟

أحمد الزين: طيب فيما لو استطاع الإنسان ذات يوم أن يكتشف حياة جديدة على سطح كوكب ما، هل هذا يعيد خلخلة اليقين بأكمله؟

السيد محمد حسين فضل الله: لا يخلخل لأن القرآن لم يتحدث بشكل تفصيلي عن الكواكب الأخرى وماذا فيها، هناك بعض النصوص الدينية التي.. الغامضة والضبابية التي قد تتحدث عن سماء أولى أو ثانية، ولكن لا ندري ما المراد بالسماء حتى الآن، ولذلك فلا نستطيع أن نقول أن المريخ سماء بل إن أرضنا هي سماء عندما نصعد إلى الفضاء فنجد الأرض تماماً ككل الكواكب الأخرى.

أحمد الزين: طيب لننتقل إلى الشعر.

السيد محمد حسين فضل الله: نعم.

أحمد الزين: حكينا فكر كفاية.

السيد محمد حسين فضل الله: نعم.

أحمد الزين: بتقول سماحتك في إحدى الحوارات: عندما أقرأ الشعر أقرأ إنسانيتي ولا أقرأ موقعي الذي يمثل انفتاحي حتى موقعي المرجعي لا يمنعني من التحليق كإنسان يعيش كبقية الناس؟العلامة

السيد محمد حسين فضل الله: إنني أعتقد..

أحمد الزين: تفضل.

السيد محمد حسين فضل الله: أن الإنسان لابد أن يعيش رحابة إنسانيته، وإن الإنسان الذي يخضع لتقاليد موقعه هو إنسان يسجن نفسه في موقعه، عندما أعيش موقعاً مرجعياً أو اجتماعياً، فلذلك لا يمنعني من أن أعيش كل جمالات الطبيعة وكل أسرارها وكل أسرار النفس الإنسانية، والشعر هو فن يعبّر عن عمق.. عن عمق الأحاسيس والتطلعات والانفتاحات والإيحاءات واللمسات الإنسانية.

أحمد الزين: ولكن العلامة والفقيه فيك يعني ما بحدّ قليلاً من تجلياتك أمام القصيدة؟

السيد محمد حسين فضل الله: إنني أعتقد أن الإنسان يمثل وحده..

أحمد الزين: يمثل وحده.

السيد محمد حسين فضل الله: الفقه، الشعر، السياسية، هي كمظهورات لما تختزنه في ذاتك، ولذلك فإني أتصور أن كل أفق تعيش فيه يدعم الأفق الآخر، أنا أعتبر أن الفقه لابد في تأصيله وفي انفتاحه من أن يعيش الإنسان الذوق الفني المرهف الذي يساعده على أن يفهم النص، لأن النص - ولا سيما النص القرآني أو النص النبوي النص - يمثل كياناً، كيانا لغوياً أدبياً وخصوصاً أننا نقول أن القرآن يمثل قمة البلاغة من لا يعيش الفن البلاغي لفهم الكلمة كيف يكون فقيهاً؟

أحمد الزين: تماما، تماماً، طيب سماحة السيد كما نعلم أنت أتيت من بيت فقه وشعر ومعرفة يعني هل عشت طفولتك كما ينبغي؟ هل كنت حراً؟

السيد محمد حسين فضل الله: عشت في مجتمع تقليدي 100% باعتبار أني ولدت في النجف الأشرف، البلد الذي يضم الحوزة العلمية والتي تمتد في تقاليدها إلى مئات السنين، ولكن النجف في الوقت نفسه كانت تنبض بالجانب الثقافي والشعري بل كان الإنسان يتنفس شعراً في النجف. لذلك كنا نعيش بعض هذه الانفتاحات خصوصاً أننا كنا نعيش على كتف الصحراء الممتدة، وكما كنا نعيش على كتف التاريخ عندما نلتقي بموقع أو مرقد الإمام علي عليه السلام، وعندما نعيش على كتف العالم الآخر عندما يلتقي بمقبرة وادي السلام اللي هي أكبر مقبرة في العالم حيث أن الكثير من العراقيين والشيعة يدفنون موتاهم فيها وهي تعيش على كتف الصحراء. فكنا ننتقل من كتف التاريخ إلى كتف العالم الآخر، إلى كتف الشعر والأدب والفقه والفلسفة وما إلى ذلك. وهكذا كان يمكن للإنسان عندما ينتقل من كتف إلى كتف أن يشعر بشيء من الهواء يتنفسه.

أحمد الزين: تراه لكأنه آتٍ من أكثر من مكان وزمان، من كتف الصحراء، من عباءات سود في عشيات التفتح على اللغة والبيان والاستعارة والبلاغة في الحوزة وفي كنف أبيه العلامة. فمن لا يعرف سر اللغة كيف له أن يعرف سر الكون؟ سر الروح؟ ومعنى الرحلة في الزمان وفي الكتاب؟ فلسفة الفرح والحزن

أحمد الزين: تروي أيضاً أنك عشت طفولة ينقصها بعض الفرح فيها شيء من القسوة هل استطعت لاحقاً أن تعوّض عن تلك الخسارة؟

السيد محمد حسين فضل الله: إنني أعيش.. يعني أنا لا أعيش المأساة لأتجمد فيها، ولكني أعيشها لأتحرر من تأثيراتها السلبية، وأكتشف في داخل المأساة الفرح، وهناك بيت شعر لا أدري نقرأ قصيدته أو لا في هذا اللقاء:

فأنا أخلق وحدي جنتي

فأرى اللذة في أعماق حزني

أحمد الزين: بيت الشعر من أي قصيدة سماحة السيد؟

السيد محمد حسين فضل الله::هذه قصيدة قلتها في أواخر الخمسينات، هي قصيدة قد يكون شكلها وجداني ولكن عمقها فلسفي أقول فيها

أنا يا ليلاي ما زلت أغني للضحى حبي وللإشراق فني

وحياتي فكرة لم يكتمل في حنايا روحها وحي المغني

هبطت للأرض عذراء المنى ترشف الأطياب في أطهر دني

أنا يا ليلاي مهما يعتصر من دمائي الليل في عزف التجنّي

فدمي قيثارة تعزف لي أغنيات النور في وحي التغني

وأنا عبر المدى ما ضرني أنني وحدي أحيى وأغني

أزرع البسمة في دنيا غدي وأثير النور في أطياف جفني

وأناجيك وحولي جنة من رؤى فن ومن أطياب حسني

فأنا أخلق وحدي جنتي فأرى اللذة في أعماق حزني

فتعالي نقطع العمر معاً بين لهو وعذاب وتغني

فهوانا لم يعد أسطورة في خيال يبدع النجوى وظني

إنه كون رحيب يغدق الخصب نعماه على الروض الأغنِّ

فتعالي نبدع الحب فما العمر إن لم يهدم الحب ويبني

غاية العمر حياة ينتشي في حناياها الضحى منك ومني

أحمد الزين: الله، الله. طيب سماحة السيد أنت طبعاً هذه القصيدة فيها الكثير من الحب، فتقول أنه لم تعش الحب من الناحية الحسية بل عشته بالفكر ولا مرة حدث معك أن عشت قصة حب؟

السيد محمد حسين فضل الله: يعني لم أعش يعني الحياة بهذه التنوّعات الإنسانية الإحساسية الذاتية؛ لأن المجتمع الذي عشت فيه كان أقرب إلى المجتمع المنغلق منه إلى المجتمع المنفتح الذي قد يُغري أو يوحي بمثل هذا الجو.

أحمد الزين: نعم، نعم، يعني ألا تعتقد أن الحب يعني هو حافز أساسي من حوافز الخلق والإبداع؟

السيد محمد حسين فضل الله: من الطبيعي جداً أن الحب يمثل هو حيوية التجدد الإنساني، حيث أنه يفتح إنسانيتك ليحرّك العقل عندما تخطط لحركة الحب في الواقع، ويحرك القلب في نبضاته وخفقاته، ويحرك الإحساس والشعور إنه يمثل الصفاء الذي يحسّ به الإنسان وخصوصاً عندما يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر. ليس من الضروري أن يكون الحب غريزة في الجانب الحيواني للغريزة، ولكن الحب ينفتح على كل الكون فنحن نعيش في صوفيتنا الإيمانية، نعيش الحب لله، وأذكر أنني.. أنني يعني أنه كانت لي قصيدة لا أحفظها طويلة جداً في مناجاة مع الله أقول له فيها: ضمَّني في بحيرة الحبربِّ هبني الصفاء في الروح إني غارق في بحيرة من دمائيإني أغرق العمر في كؤوس الصفاء

أحمد الزين: يعني ماذا عن حضور بهذا المعنى ماذا عن حضور المرأة في التجربة وفي الحياة عندك يعني؟

السيد محمد حسين فضل الله: أنا لا أوافق على أن تكون المرأة مجرد كائن جنسي يوحي بالجنس كما يعيشه الكثير من الناس في الشرق، بحيث كانت في النظر العام حالة إذا تصورتها فإنك تصور الجنس لأننا حبسنا المرأة في تاريخنا الثقافي والاجتماعي وحتى العائلي، حبسناه في دائرة الجنس مع أن.. وأغلقنا على المرأة عالم الفكر وعالم التجربة والحركة والحياة، إن الله سبحانه وتعالى اعتبر الكون ينطلق في هذه الزوجية التي يندمج فيها الرجل في المرأة لا اندماج الجسد بالجسد، ولكن اندماج العقل بالعقل، والروح بالروح، والحياة بالحياة.

أحمد الزين: طيب سماحة السيد بينك وبين نفسك أحياناً ترغب في أن تعيش حياة مختلفة حياة أخرى مثلاً أن تذهب إلى البرية، أن تتأمل في الوجود.. أن؟

السيد محمد حسين فضل الله: لأ أنا كنت أمارس ذلك، أنا كنت أخرج إلى الصحراء لأعيش ما يقترب ولو حسياً من اللانهاية واللامكان وإذا صح التعبير، كنت أخرج إلى البساتين، وأصعد إلى الجبال وأتأثر بجمال الطبيعة، لم يكن هذا يعني بعيداً عن واقعي في الحياة.

أحمد الزين: تقول في بعض الأحاديث أنك لا تخاف الموت، وهذا حقيقة لابد من مواجهة معها، ولكنك تخاف أن تموت قبل أن تنجز ما تفكر به؟

السيد محمد حسين فضل الله: يعني أنا أحب الحياة، أنا أحب الحياة من أجل أن أعيش كل تطلّعاتي فيها. ولذلك أنا طبعاً في إيماني بأننا ننتقل من حياة إلى حياة أرجو أن تكون حياة سعيدة ورضية، كنت أحب الحياة ولا أزال أحب الحياة من أجل أن أستكمل تطلعاتي ومشاريعي في الحياة؛ لأن مسألة ما أعيشه من فكر ومن تطلّع ومن محبة للإنسان ومن حركية في تحقيق القضايا الإنسانية الكبرى، لأنني أفكر دائماً في الساحة العالمية. لذلك فأنا أحاول دائماً أن يعني أن أستهلك كل حياتي، بحيث لا يبقى للحياة عندي شيء وعند ذلك فإنني أواجه مسألة موت الحياة.

قصيدة

رِّي مالي أبكي ومالي أغن وحياتي تصد نجواك عني

أنا أهواك لا لنعماك تستهوي كياني ولا لجنة عدنِ

أنا أهواك للهوى ترعش الروح بأفيائه ويهتز لحني

للسماء الزرقاء تنساب منها شعلة النور في جلالٍ وفنِّ

للصبا يوقظ الصبابة في الأعماق والحب في الضلوع يغني

للصباح الضحوك ينهلُّ كالشلال للنور مائجاً بالتغني

للشواطئ تماوج النَّسَم الرخوُ بآفاقها بألطف جفني

أنا أهواك إن آثامي السود ستنداح في شعاعك عني

أنا أدري بأن خلف ظلال الموت إن ثارت الغريزة سجني

وبأني إذا اقتحمت لذاذاتي وأترعت بالغوايات دَنِّي

سوف أهوي إلى الجحيم ولكن ربِّ هذي حقيبتي ليس فيها لي

أنا أرجو في ظل عفوك أمني من قربةٍ سوى حسن ظنِّي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق