2005-04-22

روافد مع الشاعر كاظم جهاد

إعداد وتقديم

كاظم جهاد: لكن التفاوت أين يحصل؟ التفاوت يحصل في نظم العيش، التفاوت يحصل في التعامل السياسي، يعني مثلاً هنا تجد نوع من العزف..

أحمد علي الزين: في أشكال المعرفة الأخرى أيضاً..

كاظم جهاد: بالضبط، هنا تجد نوع من العسف السياسي لكنه يمر عبر تجربة برلمانية عبر تجربة ديمقراطية، عندما تصدر قوانين جائرة يمكن التظاهر ضدها، يمكن انتظار فترة معينة تسمح بإسقاط هذه القوانين أو بإلغائها بتعبئة حركة فكرية أو سياسية أو برلمانية مضادة، يعني هناك نوع من التعامل الهين مع الوقائع. لم يعد الإنسان مثلاً خائفاً على نفسه عندما يطرح مقولة احتجاجية أو مضادة، هذا الشيء هو أن تقبل أن تتكلم وعن تعبر عن أفكارك وأن تحاول التغيير دون أن يشكل هذا خطراً على حياة الإنسان، هذا فارق أساسي في اعتقادي وكله يتلخص في كلمة أساسية هي الديمقراطية.

أحمد علي الزين: طيب كاظم جهاد قد تكون أنت من القلة اللي بنت حياتها ومعرفتها وثقافتها بهذا المستوى بشكل فردي يعني بدون معين أو سند آخر، بتقديرك يعني المرارات التي يعيشها الفرد أحياناً، الخسارات، الفقدان، عقد الآمال على طموحات أيضاً هي تكون محفزات لتكوين المثقف الذي أنت عليه الآن؟

كاظم جهاد: اعتقد أن سؤالك أساسي جداً، والكلمة التي نطقت بها وهي كلمة المرارة تلخص تجربة المهاجر والمنفي، وهي تشكل جوهر.. في اعتقادي الجوهر العلاقة بالثقافة الأصلية وبثقافة المحل الذي يهاجر إليه المثقف، وهي علاقة صراعية لا يمكن الخروج منها إلى محطة إبداعية إذا لم يتم تطويع هذه العلاقة. أعتقد أن المنفي أو المثقف المنفي يمر بثلاث مراحل، هناك أولاً مرحلة الانبهار عندما يأتي إلى أرض منفاه أو أرض الهجرة أو المهجر يمر بمرحلة انبهار، يعتقد أن كل ما يأتي من الآخر هو بالضرورة متوفق وساحر وجميل، ثم تأتي مرحلة تصفية وبلورة وغربلة يرافقها شيء من الشعور كما تقول أنت بالخسارة والفقدان، لاسيما وأن ما يحدث في البلاد الأصلية لا يشجعه على الفرح. مسألة المرارة هنا مسألة أساسية لأنه إن سقط فيها الإنسان أصبح اجترارياً وتكرارياً وتسيطر عليه الهواجس والذكريات المتسلطة والشعور بنوع من الخيبة والنكوس والارتكاس. إذا اقتصر على هذه المرارة بدأ الطور الثلاث الذي لا يشهده الجميع للأسف ولا يمر فيه إلا من تجاوز مرحلة المرارة هو نوع من الولادة الثانية أو ما يدعوه بالبراءة المستعادة، يعني يجب اختراق الذاكرة سواء ذاكرة المعيش السابق في البلد الأصلية، وذاكرة المعيش لأول الهجرة والانطلاق إلى هجرة ثانية تكون الآوان ذاته برانيه وجوانيه في المشهد الغريب وفي داخل الإنسان نفسه. ينبعي المصالحة بين الماضي والحاضر ينبغي تصفية الخسارات استخلاص العبرة أو الدرس من هذه الخسائر، وصياغتها في تجربة تكون فرحة لأنه في النهاية يجب أن يكون انتصار للحياة.

أحمد علي الزين: جميل جداً، يبدو أنت بتشعر نفسك وفقت نجحت في تلك الولادة الثانية؟

كاظم جهاد: أنا بالحقيقة يمكن أتحدث أنني أعيش في هذا الانفتاح من الناحية النفسية على الأقل أو من الناحية الكيانية، أما من الناحية الإبداعية فقد أكذب أو أبالغ إذا قلت لك أنني نجحت في هذا المضمار لأنني بحكم تجربتي الثقافية انهمكت في السنوات السابقة في الترجمة من العربية وإليها، وفي كتابة الأبحاث في العربية وعن العربي، وأهملت ربما الشعر لضيق الوقت وليس لعدم المحبة للشعر أو الإبداع الشعري وقصائدي يمكن القول أنها..

أحمد علي الزين: مسكونة أكثر قصائدك بالذاكرة وبالماضي بالمساحات الأولى بمطارحك الأولى أكثر من أمكنتك الأخرى، يعني هجراتك بالقصيدة بعدها لم تزل في الذاكرة أكثر؟

كاظم جهاد: بالضبط، هذا ينسجم ما تقوله أنت ينسجم مع ما قلته عن ضرورة تجاوز المرارة وإعادة ابتكار الأوطان، يعني قصائدي الأخيرة مثلاً لو تأخذ مجموعتي الأخيرة "معمار البراءة" وهي تضم في الحقيقة ثلاث مجموعات شعرية في كتاب أو ثلاث دفاتر شعرية في كتاب، أغلب القصائد وخصوصاً القصيدة الطويلة الأخيرة التي تشكل ثلاثين قصيدة مجتمعة، وعنوانها: "هكذا أعيد ابتكارك يا أريافي" هي في الحقيقة محاولة لإعادة استذكار العراق جغرافياً وإنسانياً وخيالياً، يمكن تسميته بالجغرافيا العاطفية والخيالية للعراق، وهذه تساعد يعني إعادة تصوير الماضي تجميل الماضي ترميم الماضي هذه تساعد في الدخول إلى ما دعوته بالطور الثالث، طور المصالحة مع الذات ومع الماضي وطور الانفتاح.

كاظم جهاد: عراقيون.. غائرين وسط فخاخ من الظلام.. كذلك كنا دائرين طويلاً حول العالم بإزاء هامشه المزنّر بالأحداث.. فكرتنا عن الخطيئة كانت مبتسرة وغامضة وليس تحتاج إلى شروح.. عندما يخطو الواحد منا فطويلاً يتحقق من أنه على حلم جاره لا يدوس.. فجأة ارتطمنا باليابسة كان ذلك كمثل سقوط في الديمومة غطسة في الزمن.. نعاس دون انتهاء..

أحمد علي الزين: إذا بدنا نسأل عن سؤال الهوية والانتماء سؤال الهوية والانتماء، بالنسبة إلك هل أصبح هذا السؤال يعني فاقداً لمشروعيته، فينا نطرح هذا السؤال شو الانتماء بالنسبة إلك شو الهوية؟ شخص صار له 33 سنة حاضر ما بس يعني أكاديمياً في الغرب حاضر ثقافياً أيضاً، تكتب وتبحث بلغة أهل البلاد اللي أنت تسكن فيها و33 سنة بعيد عن المصدر، بتصور فيه نوع من الطلاق يمكن أو شيء بشبه النسيان.

كاظم جهاد: نعم قد لا أجرأ وأتحدث عن طلاق ولا عن نسيان لأن الشعر في رأيي وظيفة الشاعر هي الحفاظ على الذاكرة ضد النسيان إعادة ابتكار الذاكرة وتشذيب الذاكرة، لا أتحدث عن طلاق وإنما عن محاولة لبلوغ نوع من التعدد يرفض الهوية ويغنيها ولا يبطلها ولا يوقعها في النسيان، يعني في اعتقادي الهوية تكون متعددة أو لا تكون. يعني لو رجعنا الثقافة العربية مثلاً أجمل لحظات الثقافة العربية الإسلامية هي تلك اللحظات التي كان فيها المثقفون العرب والمبدعون العرب من القوة بحيث سعوا دائماً إلى استيعاب الآخر وإلى الإفادة من الآخر، مثلاً الفلسفة العربي ولدت من الحوار مع الثقافة اليونانية ومن جهد المترجمين، وكما تعرف أغلبهم كانوا مسيحيين وسريان ترجموا أولاً إلى السريانية ثم إلى العربية. إذاً الاقتناع بالآخر الداخلي وبالآخر البراني يقف في صلب نشأة الفلسفة العربية الإسلامية، هذا من ناحية. من ناحية الأدب لا يمكن إغفال دور شعراء مزودجي اللسان مثل بشار بن برد أبو نواس أو سواه حتى وإن لم يكتبوا بالفارسية كان البعد الورائي لثفافتهم، إذا أمكن القول بعد غير عربي ولكنه أخصب العربية. بالنسبة للحظة الحالية أعتقد أن الثقافة العربية تجاوزت أيضاً النظرة الواحدية، يعني في الماضي مثلاً تذكر عندما وصلتم هنا كان الكتّاب العرب الذين يدعون بالفرانكفوريين الذين يمارسون التعبير عن أنفسهم بالفرنسية، يتم اتهامهم بسهولة بأنهم يرجون لثقافة المستعمر القديم، الآن لم تعد هذه النظرة موجودة، إذن في اعتقادي أنهم عندما تتعدد تزداد تشبثاً بالدماء تعود إلى انتماءك الأصلي تعود إلى جذور وأنت تراها من على بعد أي بصفاء أكثر ويمكن القول بوفاء أكثر أيضاً.

أحمد علي الزين: كاظم جهاد هو من بين تلك القلة النادرة التي تدخلت بحزم في تحديد مصيرها ومسار حياتها، وفي بناء الذات دون معونة من أحد. هو من طينة مغامرة، شغوف بالاكتشاف، لربما كان يبحث عن فضاء بعيد عن العراق كي لا يأسره مسار السرب، وهكذا فعل عمر حياته أو كتبها كلمة.. كلمة صفحة.. صفحة كتاباً.. كتابا، وكان تعدد اللغات بالنسبة له أوطاناً أخرى تسكنه وجهات للتأمل، حوّل مرارات أيامه إلى طاقة، والفقدان إلى رحلة بحث عن لقاء، لم تسرقه الظواهر وهكذا فعل. وكان تعدد اللغات بالنسبة له أوطاناً أخرى تسكنه وجهات للتأمل حول مرارة أيامه إلى طاقه والفقدان إلى رحلة بحث عن لقاء لم تسرقه الظواهر ولم يخطفه الانبهار في هجرته ولم تأسره الذاكرة وهبات الحنين، بل كان كل ذلك محركاً للمضي نحو إنقاذ النفس من السقوط، وتحصينها بالمعرفة لمواجهة مطبات الدنيا وفخاخها.

غادر بغداد صيف عام 1976 وكانت باريس هي وجهته وحلم أبناء جيله، فصارت بعد حين وطناً آخر وصار فيها مواطناً حاضراً فكرياً وثقافياً يدرس في جامعاتها، وينشط في ميادنيها المعرفية و الفكرية والبحثية، ويجول في نصوصها وتراثها الشعري والفكري والإنساني.

كاظم جهاد: نعم في الحقيقة عندما أنهيت دراسة الثانوية في المرحلة الثانية في مدينتي في جنوب العراق، انطلقت إلى بغداد وكنت منذ البداية أنوي أن أدرس اللغة الفرنسية، قبلت طالباً في قسم اللغة الفرنسية وآداب اللغة الفرنسية في جامعة بغداد، ولكني لم أذهب إلى الدرس لأسباب مادية محض كنت بلا عمل، إذاً أمضيت عاماً كاملاً متسكعاً في بغداد، لم أكن مسيساً في تلك الفترة لكنني كنت رافضاً لما يجري كتبت..

أحمد علي الزين: ما كنت محسوب على أحد..

كاظم جهاد: أبداً كتبت في الصحافة الأدبية العراقية أيام الجبهة الوطنية 74 و75 عندما كان الحزب الشيوعي يتمتع بفرصة للمشاركة في الحكم، عندما بدأت تنتشر في العراق، بوادر انتهاء هذه المرحلة من المصالحة الكاذبة بين النظام الحاكم ونظام البعث والأحزاب الأخرى أحسسنا بذلك، أنا كانت هناك نوع من العلامات والإشارات التي تشجعنا على الهجرة..

أحمد علي الزين: على التفكير بالهجرة..

كاظم جهاد: بالضبط، وفرنسا هي أول ما كان يفكر به العراقيين لأسباب في الحقيقة أدبية محض، تأثير سارت وتأثير الثقافة تأثير الشعر عبر الترجمات كنا نقرأ هذا الشعر وهذا الأدب وهذه الثقافة، ونشعر بانسحاب خاص للثقافة الفرنسية هذا شيء يتقاسمه أغلب أبناء جيلي، والدليل على ذلك أن أغلب المثقفين العراقيين هاجروا إلى فرنسا والقليل منهم هاجروا إلى بريطانيا.

أحمد علي الزين: فينا نقول هل استطاعت باريس أن تطوّع فيك خصالك العراقية المشرقية؟ أم يعني ما زالت تلك الجنيات بعدها تفيق وبتقول لك أنا عراقي مش فرنسي؟

كاظم جهاد: إن الثقافة الفرنسية ساعدتني في الحقيقة في اكتشاف عمق الجذور وعمق الثقافة العربية التي أنتمي عليها، ساعدتني إلى النظر إلى أشياء كنت أراها عادية أو مبتذلة الفكر يهبك مسافة ويهبك أيضاً نوع من المنظار، منه ترى أشياء جميلة لم تكن لديك الحساسية الكافية في الماضي لتقف على مواطن الجمال فيها يعني إعادة اكتشاف، الشيء الثاني هو أنني أنتمي بحكم مزاجي الشخصي وبحكم حساسيتي الشخصية إلى مجموعة من المثقفين العرب المقيمين في باريس الذين يسعون دائماً إلى الحفاظ على علاقة يومية وحياتية وكيانية بثقافتي العربية.

أحمد علي الزين: يعني هذه المدينة بكل وجوهها وتعديدها ومراياها طوعت فيك خصالك المشرقية؟

كاظم جهاد: بلا شك، وبهذا المعنى أنا أقول أن باريس مدينة فريدة ونادرة، يعني أنا عشت في برلين الغربية سابقاً وتعلمت الألمانية وعشت في مدريد وتعلمت الأسبانية ودائماً كان يستفزني أو يستفزني الحنين إلى باريس بسبب هذا التعدد الهائل الذي لا تراه في مدن الغرب الأخرى.

أحمد علي الزين: ذكرت قصة اللغات أنت من الناس اللي يعني المفتون باللغات، يعني شو هذا السر يعني لاكتشاف الآخر الاكتشاف ذاتك أكثر لتعبر إلى نفسك أكتر شو سر افتتانك باللغات؟

كاظم جهاد: هو بالحقيقة كما تقول هو افتتان ينطوي على نوع من السر، يعني كلمة السر تهمني هنا جداً. يعني هناك نوع من القانون اللاواعي أو من الناموس اللا شعوري الذي يحركني إلى اللغات، وهناك فئة من البشر لديها هوس في اللغات هوس التعدد، لكن معرفة اللغات لا تنحصر لدي في معرفة اللغة فقط وإنما في الاطلاع على الثقافة التي تنطوي عليها هذه اللغات، ومن هنا ندرة اللغات التي تعمل فيها..

أحمد علي الزين: هواجس معرفية..

كاظم جهاد: بالضبط أنا لا أعتقد أنني أندرج ضمن من يدخلني لغات كثيرة أو عديدة لدي ثلاث لغات أو أربعة تحرك في مجالها الثقافي.

أحمد علي الزين: طيب تعتقد كاظم أنه أنت شخص صرت غير ملائم وغير صالح للعيش خلينا نقول في مطرح عربي؟

كاظم جهاد: يمكن في اللحظة الحالية في الحقيقة هناك ستكون ستجابهني لو عدت للبلاد العربية صعوبة في التأقلم، طبعاً أقول لو عدت بمعنى العودة النهائية لأنني دائماً أسافر إلى البلاد العربية أسافر إلى لبنان وسافرت كثيراً إلى الأردن لرؤية الوالدة التي فُجعت بفقدانها قبل شهور، لرؤية أخوتي وأبناء وبنات إخوتي ألاحظ صعوبة في التأقلم، لأن أذهان البشر قد تغيرت كثيراً في هذه السنوات خصوصاً في العراق، سنوات القمع الطويلة سنوات العوز الطويل..

أحمد علي الزين: هذا الحشد هو تظاهرة لأساتذة الجامعات في باريس احتجاجاً على قرار الرئيس ساركوزي الهادف إلى نوع من تخصيص التعليم الجامعي، كان هذا على أواخر أيار من عام 2009 أما هذا الرجل الذي يبدو عليه أنه وصل لتوه فلم يكن عابراً وضل طريقه صدفة أو أخطأ المسار أو أنه وجد جمهرة مبهجة فالتحق بها لإجلاء بعض الغم عن النفس.

هو الشاعر والباحث العراقي كاظم جهاد، وبصفته أستاذاً في واحدة من جامعات باريس وركن من أركان الهيئة التعليمية لا بد له من مشاركة زملائه هذا الاحتجاج. على كل حال كان الموعد مع كاظم جهاد هنا في هذه التظاهرة كبداية للانطلاق في اللقاء، قبل أن نلتقيه ثانية في واحدة من صومعاته الباريسية مكتبة ابن سينا حيث يستأنس قاضٍ في هذا المكان كمحطة لقاء بين الكتاب والكتّاب والقرّاء والأصدقاء، ودائماً حين يكون اللقاء مع واحد من أهل العراق يبدأ السؤال من الجرح العراقي ترى إلى أن تسير أحوال البلاد؟

كاظم جهاد: هو الحقيقة هذا سؤال تصعب الإجابة عليه، هو السؤال الجوهري الآن إلى أين يسير العراق؟ يعني منذ أكثر من أربعة عقود والمآسي تتوالى على شعب هذه البلاد. فرح العراقيون عندما تخلصوا من الديكتاتورية وإذا بهم يجدون أنفسهم في معترك إضافي، محاولة بائسة في اعتقادي لاستيراد الديمقراطية لأن الديمقراطية كما تعلم لا تستورد وإنما تبتكر ابتكاراً، هذا كله يشعر الإنسان بالخوف. لكن يبدو أن هناك تململات، يبدو أن الثقافة العراقية تنتمي إلى ضرورة الحوار إلى ضرورة الإصغاء إلى الآخر خاصة عندما يكون آخراً قريباً أو حميمياً.

أحمد علي الزين: يبدو صار لك أكثر من ثلاثين سنة مغادر العراق، بعد الحرب اللي صارت أنت ما رجعت ما زرت حدا في العراق؟

كاظم جهاد: لا لأنني بكل تواضع ساهمت في ثقافة العراقيين الاحتجاجية في المنافي وأراضي الهجرة، طيلة الفترة التي كان صدام حسين أو الحكم البائد يتربع على سدة السلطة لم استطع.. لم أتمكن من العودة، ولكنني التقيت بالعائلة والأصدقاء مرات عديدة في عمان في الأردن قبل سقوط النظام القديم، ولم أجد ما يشجعني إلى العودة بعد الاضطرابات حديثة العهد في العراق.

أحمد علي الزين: إذا الواحد بسأل سؤال أديش يبعد حاضر العراق أو حاضرنا في العالم العربي عن حاضر هذه المدينة التي أنت تعيش فيها؟

كاظم جهاد: يعني أنا بحكم إقامتي الطويلة في الغرب وبحكم انخراطي في الثقافة المهاجرة وكذلك في الثقافة الفرنسية، لأنني كما تعلم أعلم في الجامعة الفرنسية أعلم الأدب العربي والأدب المقارن وأكتب في الفرنسية مثلما أكتب في العربية، أؤمن بالاختلاف لا أؤمن بالتقسيم التراكمي للثقافات، لا أعتقد أن الثقافة الفرنسية مثلاً هي أغنى من الثقافة العربية على صعيد الخيال الأدبي على الأقل، صحيح أن هناك في الغرب نظام تقدماً ثقافياً هائلاً من حيث المعارف التحليلية الفلسفة مثلاً أو العلوم الإنسانية والاجتماعية أو النقد الأدبي، لكن الأدب العربي أثبت خصوصاً في العقود الأخيرة تطوراً ملحوظاً واستفاد من جميع التجارب التجديدية في الأدب العالمي سواء كانت أوروبية أو آتية من أميركا اللاتينية، وبالتالي فإن الغرب الحالي ما زال يبحث عن إضافة روحية تأتيه من الشرق، بهذا المعنى أنا متفائل. ولا أجد أن هناك تفاوتاً هائلاً ولا أجد أن هناك تفوقاً للغرب من ناحية المخيال أو من ناحية الثقافة.

أحمد علي الزين: هذا على مستوى الإبداع الأدبي ربما..

أحمد علي الزين: أبقت الناس كما كانوا..

كاظم جهاد: بالضبط، جعلت الناس أولاً ينحسرون أولاً ثقافياً وفكرياً هذا طبعاً لا أتحدث عن المثقفين أتحدث عن المواطن العام، هناك في العراق مثقفون استمروا رغم المصاعب السياسية والمادية في الاشتغال على ثقافتهم وعلى تجاربهم الإبداعية، مستوى المواطن العام أصبح همومه مادية محضة هموم لقمة العيش التي تذل الكائن وتنقص مخليته في اعتقادي، بهذا المعنى لا أدري أي دور يمكن أن يلعبه مثقف عندما يعود.

أحمد علي الزين: طيب لنعود إلى الشعر قليلاً يعني يبدو أنت مقل في.. يعني شاعراً مقلاً في الإنتاج إنتاج القصيدة، يعني هل هذا عائد إلى تعدد نشاطك كأستاذ مثلاً في الجامعة ثم كباحث؟ أم أن هو الشعر بحد ذاته يعني لا يقاس بالغزارة؟

كاظم جهاد: طبعاً الشعر كما تقول لا يقاس بالغزارة، يعني إذا أمكن التشبه بالكبار وإذا أمكن أن نطرح بعض التجارب الكبيرة مثلاً، يمكن أن نقول أن ساهيون بيرس وهو شاعر كبير وحائز على جائزة نوبل لا يتعدى ديوانه الكامل أعماله الشعرية الكاملة 300 صفحة، هناك طبعاً أمثلة أخرى في لوتريامو وهو لديه ديوان واحد أناشيد التي ألحقها بفصلين صغيرين بعنوان أشعار.. هناك تجارب كثيرة حتى في العربية، إذاً المسألة يست مسألة كثرة. لكن من ناحيتي أعتقد أن هذا الإقلال في الحقيقة هو إقلال مرحلي، كما لاحظت حصل لدي من التبعثر والانبهار المتعدد الانبهار بالترجمة انبهار باللغات انهيار بالأدب والفلسفة في نفس الوقت، وترجماتي تنحصر كما تعرف في ترجمات الشعر دانتي ورامبو مثلاً، هناك أيضاً اهتمام في البحث لأنني عندما دخلت إلى الجامعة الفرنسية قبل عشر سنوات لاحظت نوع من الحاجة أولاً لدى التلامذة ولدى القارئ الفرنسي عموماً إلى معرفة الثقافة العربية، هناك الكثير من الروايات والدواوين العربية التي صارت تلقى طريقها إلى الترجمة، لكن ليس هناك دراسات تواكب هذه الترجمة وتمنح القارئ الفرنسي وطالب بالعربية..

أحمد علي الزين: هذه فرصة للتعمق أكثر..

كاظم جهاد: بالضبط ومفاتيح براعة هذا الادب، أنا قمت الدور وأنتجت نصف دزينه من الكتب، والآن ألاحظ نوع من الحنين إلى الشعر، أعتقد أن الشعر هو صوتي الأساسي، فلهذا السبب أنا اعتذر عن الكثير من الأعمال الكثير من المؤتمرات الكثير من مشاريع الترجمة للتفرغ إلى هذا الصوت. الذكرى.. تسكن الذكريات في القلب ثلاثين عاماً.. وبعد ذلك تتفتح.. وردة جلية من الدم.. بدأب خياط أعمى ينسج القلب كآبته.. وشيعة كبيرة تتفرق في كل وجهة.. ثم تلتم حول محور غير مرئي كطائر حديدي يحول السأب حوله ذهاب هذه القصيدة.

أحمد علي الزين: كاظم جهاد من مواليد مدينة الناصرية في العراق مصدر الفنانين والشعراء والكتّاب، بعد إتمام دراسته الثانوية كما يروي جاءت سنة من التسكع في بغداد لضيق الأحوال، قبل أن تطن في باله إشاعة الهجرة. بدأ تمارينه الأولى في الكتابة في الصحافة الأدبية على أوساط السبعينات زمن الجبهة الوطنية، ثم جاء باريس كما سلف الذكر سنة 1976 فكانت سنوات التحدي والتحصيل والكد والاكتشاف ومغالبة الأيام، انصرف كلياً للمعرفة للدراسة وللغات دون أن يستقيل من مشواره كاتباً وشاعراً وباحثاً.

كتب في الصحافة العربية، وكانت له محطة طويلة مع الشاعر محمود درويش في مجلة الكرمل استمرت خمسة عشرة سنة، 33 عام أنجز خلالها كاظم جهاد العديد من الكتابات بحثاً وتأليفاً وترجمة وشعراً، منها ترجمة الأعمال الكاملة لريلكه ورامبو ودانتي في الكوميديا الإلهية، وذهب إلى جاك دريدا فترجم العديد من أعماله. كذلك كتب في الفرنسية أعمال عديدة في الرواية العربية وفي الأدب العربي عبر بعض النصوص والوجوه.

وفوق كل ذلك ذهب كاظم جهاد في منتصف مشواره الثقافي إلى التدريس الجامعي كأستاذ للأدب العربي والأدب المقارن، أما الشاعر الذي فيه يستريح حيناً وراء القصيدة وحيناً يطل عبر نصوص تحاكي الذاكرة والمصادر الأولى وتغالب النسيان. يقول الراحل محمود درويش أنه كثر الشعراء وقلّ الشعر شو رأيك بهالقول؟

كاظم جهاد: أنا أعرف محمود درويش جيداً وأعرف أن تفكيره بالأدب وبالشعر مر بمراحل، فعبارة مثل هذه في الحقيقة كثر الشعراء وقلّ الشعر يجب أن نقرأها في صياغها، لكن يمكن فهمها باعتبار أن هناك الكثير من الإنتاج هذا شيء غير سلبي في اعتقادي، الكثير منهم سواء في القصيدة الحرة القصيدة التفعيلية كان محمود درويش يمثل أحد أهم مجدديها أو في قصيدة النثر وهناك إساءات فهم يعني الراحل محمود درويش يشكو منها، كثير ممن يكتب ضمن إطار قصيدة النثر ليس شعراً في الحقيقة، يمكن الاتفاق مع ذلك ويمكن الرد عليها أيضاً بأن كثير مما يكتب في إطار القصيدة التفعيلية ليس شعراً، وبالتالي يمكن إدراجه ضمن إطار الشعر المنظوم.

أحمد علي الزين: ما هو الشعر؟ شو معيار الشعر إذا.. مين بقول هذا الشعر وهذا ليس شعراً؟

كاظم جهاد: نعم يمكن في الحقيقة هنا أنا نستعيد أو الناقد الإنكليزي أو الأميركي ريتشارز أن الشعر هو ما لا يمكن تعريفه، نعم يمكن أن نعرف بسهولة ما لا يكون شعراً، أما ما يكون شعراً فهذا يصعب البت فيه. نحس أن هذا الشيء يشكل قصيدة وقصيدة قد تكون عظيمة وكبرى، لكن الإمساك بما يجعل من هذه القصيدة قصيدة يحتاج إلى عمليات تحليلية طويلة.

أحمد علي الزين: نعم، ما بتحس أن فكرة الحداثة أو هذه المظلة الواسعة جداً يعني فتحت أمام معظم الكتّاب يعني الانخراط في مشروع القصيدة تحت مظلة الحداثة، أنه هذه قصيدة نثرية فيه نوع من الاستسهلال؟

أحمد علي الزين: الاستسهلال موجود في كل الممارسات في كل الفنون، هناك استسهلال في السياسة هناك استسهال في كتابة الرواية هناك استسهال كما قلت في الشعر التفعيلي وهناك استسهال في قصيدة النثر، المسألة ليست هنا. في اعتقادي هناك غربلة والقارئ الحقيقي ليس مخدوعاً أو لا يمكن أن يُخدع بسهولة، هناك في جميع اللغات في اعتقادي نوع من التضخم في الانتاج، نوع من الاستسهال مسألة الغربلة وهي يقوم بها التاريخ تقوم بها بصيرة القراء أنفسهم، ويقوم بها العمل النقدي الواعي والخلاق. يمكن أن نشكو بهذا المعنى أن هناك القليل من النقد الذي يساهم في هذه الغربلة بالعربية..

هذه مجموعة دراسات كتبتها بالفرنسية عن الأدب العربي القديم والحديث عنوان الشامل أو الجامع "المتاهة والمساح" لمختارات شعرية من الشعر ترجمتها إلى الفرنسية بالتعاون مع الشاعر اللبناني الفرانكفوني صلاح ستيتة هذه مجموعة نصوص مختارات فلسفية أولى جاد دريدا بعنوان الكتابة والاختلاف الكوميديا الإلهية النص الكامل لدنكليه مع دراسة تقع فيما يقرب من 150 صفحة تسلم القارئ العربي مفاتيح قراءة هذا النص.

أحمد علي الزين: أبواب صعبة طرقها كاظم جهاد في اشتغالاته على المعرفة وإنتاجها، ولمن يقرأ أبحاثه وترجماته ومقدماته يستشف جدية هذا المثقف الذي نذر قسطاً كبيراً من حياته لهذا الهم. فلقد قدم للقارئ الفرنسي ما يشغله كمثقف وما يراه محفزاً لخلق حوار أو طرح سؤال، فقدم الصورة الخلاقة. كذلك نقل من الفرنسية إلى العربية جواهر من الأدب أو من الشعر والفلسفة، وقدم أسماءً شغلت عصرنا بحضورها.

طبعاً أنت عندك أكثر من كتاب منها كتاب عن الرواية العربية بالفرنسي، إذا بدها نسألك وجهة نظرك في الرواية العربية الآن يعني مقاربة أو مقارنة مع ما يُنتج من الرواية في الغرب بشكل عام، هل هي يعني تقريباً عن نفس المستوى أم تحاول أن تتعثر؟ أين هي الآن؟

كاظم جهاد: يعني يمكن بالبداية للبدء في محاولة الإجابة على مثل هذا السؤال العريض والأساسي، أولاً أن نتذكر مقولة الصديق الدكتور جابر عصفور في أن العرب يعيشيون الآن..

أحمد علي الزين: العرب زمن الرواية..

كاظم جهاد: زمن الرواية لماذا؟ لأنها أولاً فن للكتابة كامل ويمكن أن يستوعب الفلسفة مثلما يمكن أن يستوعب الشعر ومثلما يمكن أن يستوعب التاريخ، بمعنى أنها متعددة الأساليب متعددة الإمكانات. وأنها تطال القارئ العربي مثلما تجتذب المثقف المتمرس، بهذا المعنى يمكن القول أن الرواية هي فن ديمقراطي بامتياز، الرواية العربية لقد تابعت عملية ترجمتها إلى الفرنسية وإلى الإسبانية والإيطالية، ولاحظت أن القارئ الغربي يجد فيها زاداً لا يجده في الأنماط الروائية الأخرى، هناك نوع من أنماط العيش من فنون العيش من فنون التفكير من الحساسيات يجدها هذا القارئ الغربي، مثلما كان يجدها في الرواية الأميركية اللاتينية تساعده في الخروج من نمط العيش الغربي المتسم بشيء من المادية بشيء..

أحمد علي الزين: تفتح نافذة على الآخر..

كاظم جهاد: بالضبط، إذاً هناك ثراء مخيال يعود به الكاتب الشرقي، أما على المستوى التقني بالتأكيد يمكن الكلام عن نوع من قلة التمرس عن نوع من قلة الاجتهاد عن نوع من التعكز على أساليب قديمة، هناك الكثير من الإفراط في شعرنة اللغة مثل بعض الروائيين العرب هناك إفراط في الوصف السطحي للظواهر والأشياء، هناك قلة تعمق في المواطن السيكولوجية للأبطال، لكن هذا لا يعفي هذه الرواية من أن تكون وسيلة لمعرفة الكائن الشرقي عموماً.

أحمد علي الزين: طيب منرجع عن دورك كمثقف حاضر بالمشهد الثقافي الغربي الفرنسي تحديداً، تواجه مشاكل وصعوبات في السجال في هذا الوسط، يعني فيه اعتراف فيك كمثقف فرنسي أيضاً؟

كاظم جهاد: حسب الأوساط في الحقيقة أنا لا أتقدم تحت يافطة مثقف فرنسي في الحقيقة، أتقدم باعتباري كاتب عراقي أو عربي يكتب بالفرنسية أحياناً وبالعربية أحياناً أخرى، وأعلم بالفرنسية وأغلب تعليمي ينحصر في الثقافة العربية. إذاً لا أحمل هذا الشعار حتى أعرف هل أنا مرفوض أو مقبول كفرنسي، لكن التعامل في الجامعة هو تعامل ودي لأن الجامعة هنا مختلطة، يعني لدي زملاء عرب بقدر ما لدي من زملاء فرنسيين. هناك نوع من التعامل خاص بالعرب ربما في الجو السياسي أو في الإعلام التلفزيوني، يعني تلاحظ نوع من الضيق المكتوم بوجود العرب الكثيف في فرنسا هذه مسألة سياسية، هناك نوع من الضيق المكتوم الذي يعبّر عنه بعض الصحافيين، هناك نوع مثلاً من التحجيم لحرية المثقف العربي في شجب سياسة إسرائيل، وهذه القضية طالت حتى بعض المفكرين يعني فرنسيين كبار مثل اديغار مورانو وآخرين، يكفي أن تتنقد إسرائيل كي يقال أنك معادٍ للسامية وكأن العرب ليسوا ساميين، يعني هذه المسألة مسألة الخلط السياسي الإعلامي هي الأساسية، أما الجو الثقافي في الحقيقة فأعتقد أنه ديمقراطي بما فيه الكفاية ليستمر الإنسان على العمل فيه والإنتاج فيه.

أحمد علي الزين: طيب الجانب الأساسي بتجربتك بشغلك هو طبعاً الترجمة مثلما أشرنا، بدي أحكي عن الجانب الآخر يعني نصك المترجم إلى الفرنسية من العربية، أديش كان حضوره.. يعني أديش استقبل بالمشهد الثقافي الفرنسي أديش قُرء؟ أديش أفاد ربما يكون عندك فكرة؟

كاظم جهاد: بالنسبة لترجمة شعري إلى الفرنسية هي في الحقيقة تجربة محدودة، وأنا أنذر نفسي وطاقتي لمواصلتها لاحقاً لأنني لم أترجم من شعري إلى الفرنسية سوى مجموعة واحدة..

أحمد علي الزين: ولكن ترجمت من أشعار الآخرين..

كاظم جهاد: طبعاً ترجمت وأنا الشاعر اللبناني صلاح ستيتة تشاركنا في ترجمة قصائد عديدة للشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب، ومنحنا الترجمة عنوان "قصائد جيكور" لأننا اخترنا القصائد المتعلقة بحنينه إلى قريته، لأننا لاحظنا أن محور الحنين هو الأساسي بشعر السياب، ترجمت أيضاً قصيدة سور لعباس بيضون وهي قصيدة ديوان يمكن القول..

أحمد علي الزين: طيب الترجمة بشكل عام اللي بتقوم فيها والأبحاث خلينا نركز على الترجمة أديش فتحت أمامك من آفاق؟ أديش حرضتك على كتابة نصك أنت أيضاً يعني؟

كاظم جهاد: طبعاً الترجمة بالنسبة لي بالحقيقة لعبت دوراً أساسياً في تكويني الثقافي والشعري وفي خلق نوع من التوازن الكياني إذا أمكن القول، أولاً يعني مارستها كهواية فنية لم أعش من الترجمة، ولم أقبل بترجمة روايات أو أعمال تجارية، كل ما ترجمته كان موضوع اختياري في الحقيقة، ترجمة دونكلي لأنني لاحظت في شعره نوع من الاختراق السياسي لفترته ونوع من التصوير للهيام بالقصيدة عبر الهيام بامرأة، يذهب بها إلى العالم الآخر سعياً إلى رؤية امراة لم ينل فرصة الاقتران بها بالحياة، هذا كان في رأيي استعارة شاملة تغطي ألف صفحة عن عملية اللقاء الشامل. ترجمة رامبو لأنه جدد القصيدة ولأنه ابتكر قصيدة النثر، هناك محاولات قبله لبودلير وسواه في قصيدة النثر لكن رامبو في اعتقادي وفي اعتقاد جميع النقاد هو من أسس قصيدة النثر، بمعنى أن هو من منحها بنية راسخة. ترجمت الفلاسفة لاهتمامهم بالكتابة أصلاً أنا لم أترجم إلا فلاسفة الكتابة، بهذا المعنى لست متناقضاً مع اهتماماتي الأخرى. هذا كله ساعدني إذا شئت القول بالشعور بأنني موجود في الحياة بلا مبالغة وموجود في الإبداعية العربية حتى عندما لم أكن أكتب شعراً.

أحمد علي الزين: يعني بتحس فيه نوع من التحدي أنت هيك نوع من المنازلة بتعملها بس تختار نص يمكن ما بيتجرأ أي شخص يفوت يترجمه؟

كاظم جهاد: نعم أنا اخترت في الحقيقة أعمالاً صعبة لهذا السبب، هي ليست قضية تحدي وإنما قضية شوق..

أحمد علي الزين: نوع من الامتحان للنفس..

كاظم جهاد: بالضبط هناك كما نيتشة من يقول في الترجمة نوع من إرادة القوة، تكلمت عن قضية الشوق أو الرغبة عندما تحاول أن تمنح لبيت شعري مكثف ونادر أو لعبارة سردية شديدة التكثيف شديدة الصلابة بنية مقاربة في لغتك العربية، فكأنك ساعدت لغتين على أن تقترنا في لحظة نادرة في لحظة شديدة..

أحمد علي الزين: حلو كتير.. جميل..

كاظم جهاد: فهي تجربة اللقاء الترجمة والقراءة والحب كلها تجارب في اللقاء.

قصيدة.. ارتطام

بالعنف كله أنا ذاهب لأرتطم.

بمصيري.

قد يقبل المصير في هيئة ثورٍ في هذه الحالة سأبقره أمام جموع متلذذة بمرأى دماء.

سأبقره بمدية خارقة من صنع ذهولي

وأدعه يتمرغ على رمالٍ تنسكب من الذهن بلا انتهاء.

الرمال أنا والحلبة والمدية البارقة في الجرح والمصارع لا يتعب

والدابة التي تُنحر هي أنا عندما سيتلامح المصير

سأطرحه أرضاً

وأسترد ما فاتني منه

حاسباً الحساب لباقي أيامي.

أو قد أغسله ببساطة

كمثل ما يغسل الوليد

من ماء الولادة

وبذلك الاحتدام النشوان أقيمه في العالم بعدالة.

أحمد علي الزين: لم يعد كاظم جهاد إلى بلاده العراق منذ أن غادرها صيف 1976 ولم يرها إلا على شاشات التلفزة أو في لقاءات الأهل والوالدة في عمان، ويقرأها في الصحافة. كان يستعيد أمكنته وأطيافه الأولى في قصيدته باعتبار الشعر محاولة ضد النسيان كما يقول، لقد حاول كاظم جهاد حنينه وأشواقه والخسارات إلى طاقات لشحذ همته في منازلاته مع الدنيا، أسرته اللغات والفلسفة فخاض غمار هذه المدارك، ووجد في الترجمة فضاءات بعيدة فاختار منها الأصعب لكأنه في كل ما يفعل يمتحن ذاته أو يكتشفها ربما من جديد، يكتشف معنى آخر للهوية والانتماء في التعدد، ويغني الشاعر الذي هو عليه.

أحمد علي الزين: إذا بتحب نرجع شوي للعراق يعني بتشوف فيها تلك السنة، شو تخبرنا عن تلك السنوات الأهل؟ ثم كيف انتبهت لنفسك أنه أنت مهيأ تكون كاتباً شاعراً؟

كاظم جهاد: العراقيون عندما يختارون التعبير عن أنفسهم شعراً وسرداً، يمكن أن يكون هذا صحيحاً في جميع البلدان العربية. لكن أتحدث عن بداياتي.. العراقيون عندما يختارون التعبير الشعري أو الأدبي يمرون بمرحلة تلقين صارم وطويل، يساهم في بلورة بدايات ناضجة ومتماسكة. الشاعر المبتدئ أو الشاعر الناشئ أو الشاب. أنا خضعت لهذا التلقين عبر أساتذتي في الثانوية، كان من بين أساتذتي علماء في العربية يمكن القول وممارسون أقوياء للشعر العمودي، فحفزوني على قراءة المعاجم العربية، حفزوني على أن أحفظ آلاف الأبيات الشعرية. هذه النصيحة التي وجهها حماد الرواية أو خلف الأحمر إلى أبي نواس المعروفة فمررت بمرحلة التلقين الشعري..

أحمد علي الزين: ونسيتهم أنت مثلما نسيهم أبو نواس..

كاظم جهاد: الحياة جعلتني أنساهم، نسيتهم لا بقرار مني. والآن أعدت اكتشافهم لأنني منذ سنوات عندما اخترت التعليم الجامعي اخترت مادة الأدب العربي القديم أو الكلاسيكي.

أحمد علي الزين: تحدثت عن المرحلة الثانوية اللي يمكن أفادك وجود أساتذة كبار يهتموا بالقصيدة، البدايات الأولى الأهل شو كانوا يعملوا؟

كاظم جهاد: بالضبط أنا كنت أريد أن أتحدث عن الجانب العائلي في الموضوع هو جانب أساسي في اعتقادي في تربية الشرقيين، وخصوصاً عندما يكون الإنسان منتمي إلى عائلة هي في الأساس ريفية، يعني أنا ابن فلاحين هاجروا مع ولادتي التي تصادفت وتزامنت ولادتي مع هجرتهم إلى المدينة، لكن بقيت جذورهم في الريف فكنا نذهب إلى الريف في كل صيف عند عماتنا وخالاتنا وأعمامنا وأخوالنا، وعشت نوع من الازدواج السعيد، خلقت في الحقيقة في داخلي نوع من الانتماء إلى كيان سحري العلاقة بالنخيل العلاقة بالجارة، العلاقة بأزيز الحشرات، العلاقة بصليل المياه بصليل الحصى في المياه هذا كله شديد القرب إذا شئت من العالم الأصلي الذي يكتنف قصائد السيّاب.

أحمد علي الزين: ومتوفر في قصائدك هذا؟

كاظم جهاد: وحاولت بالزبط الارتباط به من جديد في قصائدي، عندما أتيت إلى فرنسا شعرت بفقدان هذا العالم كله، هناك طبعا مشاهد خلابة في فرنسا أو في الريف الفرنسي، لكنها لا تشبه الريف الذي أنا آتي منه..

أحمد علي الزين: على الإطلاق..

كاظم جهاد: ولا تشبه الكائنات التي تسكنه، ولا تشبه اللغة التي بها يتحدثون. لهذا السبب حدث عندي إذا شئت نوع من الجرح الصامت، أنا لم أعرف كيف أعبّر عنه طيلة عشرين سنة، هذا الانقطاع مع العراق. وأعتقد أن انخراطي في عملية البحث المعرفي آتية لردم هذا الثغرة أو هذا النقص، لكن الذي حصل هو نوع من المعجزة في الحقيقة وتحدثت عنه في الصفحة الأولى من مجموعتي الشعرية الثانية "معمار البراءة" الصادرة عن منشورات الجيل قبل عامين، عندما أعدت الالتقاء استعدت الالتقاء بوالدتي بعد ربع قرن من الانقطاع حصل عندي نوع من إعادة الارتباط بالعراق، إعادة اكتشاف العراق. جميع الذكريات التي كنت أعتقد أنني نسيتها، جميع المشاهد التي كنت أتوهم أنها انمحت من ذاكراتي تفجرت عبر كلام الوالدة، وحاولت أن أترجم كلام والدتي إلى واقع.

حشرات الريف

أعرف أزيزها في سائر تنويعاته

غابات النخل بعوالمها المكتظة أعرف مايدور فيها من ولادات

وطيور الريف أميز بعضها عن بعض

من نبرة الشدو لا غير..

اللقاح أعرف طعمه الغريب

ومن الورد أعرف هذه اللذاعة التي تتسبب لك بدوار عذب

كمثل برتقالة في جوف الماء يرقد في أعماقي

بدونه أتقدم في العالم محروماً من جانب من الكيان

الجانب الأجمل ولا ريب

أحمد علي الزين: الأمكنة تصاب هي أيضاً بالتصدع والتلف، والذي يبقى منها ليس هو تماماً الذي كان كحال البشر في مسار الحياة، هو أسيد الزمان يفعل فعله في أشكال الوجود وتجلياته. وسؤال المكان سؤال لطالما يراود الكتّاب والشعراء ويشغل البال، هل هو متعدد متحول متغير والثابت فيه ثابت فقط في الذاكرة صورة في جغرافيا وتاريخ وعلاقات وأحوال؟ أو هو تشكيل أنجزته الطبيعة نسبي في ديمومته يخسر وجوده المباشر بطيئاً على عكس حال الإنسان؟ على كل حال قد يكون منصة أو سينوغرافيا نلعب عليها وفيها لعبة الغياب.

كاظم جهاد: أنا أعتقد كلامك هذا عن المكان أساسي جداً، وهو يعيدنا إلى مقولة الفلاسفة أن المكان أو الفضاء عموماً أهم من الزمان، الزمان قابل للتلاعب يمكن أن تختلط الأزمنة بذهن الإنسان يمكن أن يُلغى بعد الزمان، أما المكان فهو تاريخ. جدروس أيضاً عندما كتب محاولة لتعريف تاريخ الفلسفة ما هي الفلسفة الكتاب الذي وضعه بالاشتراك مع صديقه المحلل النفسي والفيلسوف واتاري قال أن تاريخ الفلسفة يجب أن يكون جغرافيا للفلسفة وليس تحقيباً زمنياً للفلسفة الأماكن تخلق حساسيات معينة وتخلق انطباعات معينة ترتسم في ذهن الكائن باعتبارها جغرافيا عاطفية وروحانية معينة، والزمن هو في الحقيقة يلعب دور تشذيب لا أكثر.

أحمد علي الزين: صحيح، إذا بدنا نسأل أنه الإقامة والعيش في باريس والعمل أيضاً شو خلقت عندك من مفاهيم من قيم أخرى؟

كاظم جهاد: نعم، هذه التجربة الطويلة علمتني شيئاً أساسياً هو مسألة التسامح وقبول الآخر لا بالمعنى الشعري الاستعراضي للتسامح، بمعنى أن تغفر للإنسان خطاياه أو أخطائه. وإنما أن تؤمن بأن جميع الكائنات وجميع الثقافات لديها شيء جوهري وشيء باهر لا يمكن التعويض عنه، ولا يمكن لثقافة أخرى أن تعبر عنه بنفس الدرجة من الكثافة وبنفس الدرجة من التعمق وبنفس الدرجة من الجمال، وليس هناك في الحياة ما هو أجمل من عملية الإصغاء للآخر سواء عبر قراءته أو عبر محاورته، الآخر هو ما لا يعوض.

أحمد علي الزين: تحدثت بالجواب السابق عن مسألة الشوق والحنين للأمكنة والمطارح والوجوه، الآن أنت ينتابك الشوق والحنين لمطارحك الأولى؟

كاظم جهاد: هذا في الحقيقة سؤال تراجيدي أو مأساوي جداً لأننا تحدثنا عن سحر الأماكن وعن عبقرية الأماكن، هناك تعبير فرنسي يقول عبقرية الأماكن أن لكل مكان عبقرية معينة، لكن السؤال هل أن الأماكن خالدة؟ هل أنها لا تموت؟ يعني هناك مكان معين مثلاً المكان الذي ولدت فيه في جنوب العراق أو الريف الذي ترعرعت فيه هو الآن باقٍ في مكانه، لكن الآن لو عدت هل هو باقٍ بنفس التلاوين بنفس الحساسية التي خلقت بنفس الوشوشات بنفس الأصوات بنفس أخلاق الكائنات التي كانت تسكنه؟ بهذا المعنى المكان مهدد وما أخشى منه لهذا السبب أنا أمانع في العودة إلى العراق، ما أخشى منه هو أن أعود إلى الأماكن فلا أجدها في أماكنها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق