2004-09-17

روافد مع الموسيقي مارسيل خليفة

إعداد وتقديم

أحمد الزين: الذين يُولدون في أمكنةٍ كهذه هم محظوظون غالباً، وحظهم أوفر إذا أقلقهم سؤال المكان، أو إذا افتكروا بسر تموج الضوء وتناغم الأشياء أو تنافرها، وتأملوا في المدى بعينٍ نافذة، الذين يُولدون هنا وفي أرواحهم شغف الكشف إذا أصغوا للصمت من على قمةٍ مُشرفةٍ على ما يُقارب النهايات، أو إذا افتكروا بالصوت ومصدرهِ وكانت نشأتهم ما بين شاطئ الرحيل وأبجديتهِ وبين عزلة السفوح ورعاة الضباب، هؤلاء إذا أصيبوا بلوثة الوجدِ أو بمسٍ من سحرٍ تدبره عبقرية المكان سوف يغرّدون خارج السرب ويحلّقون بعيداً بعيداً، وهم في غمرة البحث المستديم عن لغةٍ تعبر عما أصابهم من رغبات وما انتابهم من عواصف الإحساس بالأشياء والوجود، أما الذين يأتون إلى الصوت للتعبير عن اشتعالاتهم وتساؤلاتهم وخواطرهم فهم الأقرب إلى اللغز؛ لأنهم اختاروا طريق الموسيقى للوصول، اختاروا اللغة الأكثر تجريداً للوصف وللتعبير عما هو أكثر واقعية حيناً أو أكثر تجريداً في حالات تأملاتهم في الحياة، فلغتهم غالباً تُسعف إذا شفّت على احتمال هذه الحياة. يوم أمس هيك أخذتنا برحلة لأكثر من مطرح، ما بين شواطئ جبيل وعمشيت وصولاً إلى قمم اللقلوق، يعني شو بتعنيلك تلك الأمكنة؟

مارسيل خليفة: أنا كنت جزء من هالطبيعة، وعيت على هالطبيعة وأنا يعني كنت صغير هالبحر الأبيض الممتد، هالجبال العالية بالأصل هي كانت تسوّر القرية اللي أنا عايش فيها، حبيت هالأمكنة وكانت بتمثلّي ذلك الصفاء، وهذا الصفاء اللي انفقد..

أحمد الزين: اليوم.

مارسيل خليفة: اليوم، كانت بتمثلّي بذلك الحب وكمان الحب اللي انفقد، كل مرة برجع لهالأمكنة برجع لأؤكّد ذلك الحب ولأتمسّك بذلك الحب، ومثل ما بتعرف أنه كل الأعمال اللي عملتها هي الدافع الأساسي كان لإلها هو الحب.

أحمد الزين: بكل تأكيد هالأمكنة تعرضت يعني للتحوّلات للتبدّل، فيه أشياء تبدّلت فيها كتير وفي أشياء بعضها زال نهائياً يعني، يعني أنت على المستوى الشخصي شو اللي تبدّل فيك غير أنه لحيتك صارت بيضاء؟

مارسيل خليفة: بقي، بقي، بقي هداك الطفل يَحْـبُو..

أحمد الزين: يلعب.

مارسيل خليفة: ما بحب أفقدو عرفت كيف؟ متمسّك فيه؛ ولذلك مبارح بالمشوار اللي عملناه رجعت على الأمكنة اللي ربما بقيت متل ما هي، طبيعة، الصفاء، البحر، اللون الجميل، الغروب، يعني تلك الطقوس ما زالت موجودة، هلأ إذا بدنا نحكي أكتر عن الواقع اللي عم نعيشه أو اللي عشناه كسّرنا بأيدينا ذلك الجمال، إن كان من الناحية السياسية أو الناحية الاجتماعية أو الأخلاقية..

أحمد الزين: والطبيعية كمان..

مارسيل خليفة: إيه حتى الطبيعة امتدت اليد عليها، يا ريت بنحاول نرجع نلمس الطبيعة مثل ما بنلمس الآلة الموسيقية بنلاعبها، يا ريت فينا نلاعب.. نرجع نلاعب الطبيعة هيدي لأنه هلكناها للطبيعة، اتحشّرنا كتير.

أحمد الزين: طبعاً أنت من أكثر الناس ربما أو أكثر الفنانين قمت بجولات في أنحاء مختلفة من العالم لغرض موسيقي، للقيام بأمسيات أو للمشاركة بنشاط معين، يعني هل عثرت في تلك الأمكنة الكثيرة التي جلت فيها على شيء بيشبهك؟

مارسيل خليفة: مش ضروري..

أحمد الزين: أو على مكان بيشبهك؟

مارسيل خليفة: عثرت على أشياء حسيت أني كنت عم نبّش عليها..

أحمد الزين: مثلاً؟

مارسيل خليفة: أول شي أكيد بدي قول أنه بيروت مدينتي حبيتها كتير وعشت فيها فترة كان فيها صخب فترة الحرب، رغم كل شي كان فيه غنى حقيقي يعني عند الناس، عند البشر رغم ذلك الصراع الكبير كان فيه بحث كان فيه أحلام، وفيه مدينتين حبيتهم كتير اللي هي غرناطة واللي زرتها مؤخراً من بعد ما كتبت كتير من الأعمال الموسيقية اللي بتحكي عن الأندلس وبتحاكي الجو الأندلسي، إن كان في لموشح وإن كان في العمل الموسيقي، مدينة ثانية كمان عجبتني وحبيتها هي اسطنبول مش نفس الإحساس اللي حسيته بغرناطة، وإنما أيضاً بعلاقة بالذاكرة وخاصةً في التراث اللي درسناه..

أحمد الزين: تراث الموسيقى قصدك يعني.

مارسيل خليفة: وكله شفته في اسطنبول في الجوامع، في الكنائس، في المتاحف، في القصور، يعني هول مدينتين حسيت أنه كتير بنتمي لإلن.

أحمد الزين: حلو نتذكر سوا أنه موسيقى برنامج روافد هي خاصةً بدايته الجيناريك، ما يُسمى بالجيناريك هيّ اسم كونشيرتو الأندلس على ما أعتقد..

مارسيل خليفة: إيه من كونشيرتو الأندلس، من متتالية أندلسية.

أحمد الزين: دائماً كانوا الناس يسألوا أنه هيدي الموسيقى لمين، مين عملها للبرنامج، كان يعتقدوا أنه هيدي معمولة خصوصي للبرنامج.

مارسيل خليفة: ما كنتوا تكتبوا على الـ..

أحمد الزين: بالآخر، بالآخر كنا نكتب.

مارسيل خليفة: إيه..

أحمد الزين: بس يبدو الناس ما بيقرأوا في الآخر.

مارسيل خليفة: لأنه بتعرف اليوم..

أحمد الزين: نحنا حنطالبك هلأ بموسيقى جديدة للبرنامج.

مارسيل خليفة: إيه منيح.

مارسيل خليفة: كنت طفلاً آنذاك لا أتجاوز الخامسة من عمري، أقفُ على عتبة القبو ألعب بطابةٍ صغيرة، وانتظر جدي يوسف في زيارته اليومية لنا، وعندما أسمع رندحة العتابا والميجانا من بعيد أترك الطابة وأركض مسرعاً باتجاههِ أتعربش على أكتافهِ العريضة، ووجهاً لوجه أمام طربوشه الأحمر، فأمسك الشرابة التي كانت تتدلى على النقرة من الخلف وأبدأ بهزها يميناً ويساراً مع إيقاع أغنية سكابا يا دموع العين سكابا.

أحمد الزين: بلكي هيك منرجع شوي إلى الذاكرة، كما نعلم أنت جئت إلى الموسيقى من عائلة يعني ليس لديها اهتمام بهذا الشأن، الشأن الإبداعي والموسيقي، من عائلة متوسطة الحال إلها علاقة عضوية بالحياة اليومية بالبحر وبالتربة وبالأرض، يعني إذا بدنا نقول هالموهبة اللي عندك اللي اكتُشفت من أين أتت؟ ومين اكتشفها؟ ومين حفزك لتصبح هذا الفنان؟

مارسيل خليفة: صحيح عائلتي يمكن ما انخرطوا في الفن ولكن كان إلهم علاقة بطريقة أو بأخرى، جدي بيّو لبيّي كان يغني، صوته حلو، وكان يلعب على الناي ويلعب على الإيقاعات وكان يرقص بنفس الوقت، وكان فنان معروف في المنطقة، هو كان معمرجي يُعمّر البيوت، وبنفس الوقت كان صياد سمك، يعني يمتهن..

أحمد الزين: كذا شغلة.

مارسيل خليفة: بس جدي بنفس الوقت كان معروفاً بالمنطقة..

أحمد الزين: كعازف ومغني..

مارسيل خليفة: إيه، يعني كانوا يدعوه للسهرات للقاءات يعني وكان هاوي كلنا هواة.. أحمد علي الزين : أنت بتتذكّرو لجدّك؟

مارسيل خليفة: آه بتذكّره منيح جدي، وكان في علاقة بيني وبين جدي علاقة كتير حميمة، كنت أنطر جدي كل يوم يجي لعنا عالبيت كان يلبس الطربوش والشروال، وهو جاي من بعيد عم برندح عم برندح مواويل، أنطره بس كنت أوصل كان يوصل لعنا على البيت كان يحملني بعدني بتذكر كنت صغير، وكان يغني غنية كنت حبها كتير واستعملتها اليوم بعمل اللي هو كتبت ديو للعود والكونترباس اللي هي أغنية سكابا يا دموع العين سكابا..

أحمد الزين: كان يغنيها؟

مارسيل خليفة: كان يغنيها، وهو عم بغنيها كنت أمسك الشرابة تبعون الطربوش ورندح معه على إيقاع الغنية الحزينة.

مارسيل خليفة: يعني أنا بتذكر سهرات كتيرة كنا نعملها بالقبو، تحت بيت جدي، وكان جدي تقدّم بالعمر كان يحمل الناي ويلعب، وحسّه أنه فيه كتير أشياء جميلة، وكان يجمعنا كلنا كان بيّي ينزل وأنا..

أحمد الزين: دبكة؟

مارسيل خليفة: وخياتي ونعمل سهرة، احتفال، وكان في عنده بالطبع فونغراف واسطوانات لمحمد عبد الوهاب، وكانت ستي دايماً تنزعج من جدي أكتر شي كانت تنزل ويكون صوته عم بلعلع وأكتر شي تنقهر من جدي وتقُلّه ما.. استحي على كبرتك وعلى شيبك.. أنه ولَوْ ما هلأ خلص يعني، وجدي كان كتير لذيذ كان يغمر ستي هيك غمرة حنونة وبس يغمرها كانت ستي يعني تنسى كل هذا الغضب وتدخل معنا في إحياء السهرة..

أحمد الزين: أنت مكتسب شغلتين من جدك قصة الغمر وقصة الفن..

مارسيل خليفة: إيه؛ لأنه العود بدك تغمره ما فيك تلعب..

أحمد الزين:[ضاحكاً]: بس العود؟

مارسيل خليفة: إذا بتحكي عالعود، لا.. والغمر حلو.. الغمر الإنساني لذيذ.

أحمد الزين: أظن أن الكثيرين أحبوا هذا الملتحي، قبل أن يغزو الأبيض لحيته الثوري ويفعل ما ينبغي أن يفعله في زحفه، وثابروا على هذا الحب، وهم بدورهم لو فَطِنوا سيجدون أن مرآتهم لم تعد فتيّة وأفكارهم أيضاً أصاب بعضها الضرر، ولكن ذلك الحب أصبح أكثر حكمةً، هذا الملتبس بين قديس البراري والثوري، بين العاقل والعبثي، بين المقيم والعابر، بين المدني والرعوي، بين الهاوي والمحترف، وبين الماركسي والطوباوي، بين المجنون والحكيم، بين المثقف والهامشي، يزاول تنشيط هذه المفارقات في سعيه بوعيٍ أو بحكم التعوّد، فتتجلى هذه المفارقات مرةً في أغنيةٍ لبحارة الذاكرة وصيادي بلاد جُبيل، ومرةً في مُحاكاةٍ جارحةٍ للأندلس، أو في ارتجاليةٍ يشاغب فيها مع ابنيه، أو في قصيدة لا يعرف صاحبها لحّنها ذات يوم وربما كان لا يعرف أيضاً أنها ستكون حجر الأساس أو البوابة التي سيخرج منها إلى عالمٍ سيجعل منه نجم مرحلةٍ، ولم يخفت بريقه وإن غاب، تراه يبان مرةً هنا ومرةً هناك، تارةً حانياً على عودهِ يغزل في شعاب الحنين، وتارة مُتماهياً في أوركسترا تُعالج تآلفاته وتأملاته.

أحمد الزين: بدأت تجربتك العملية مارسيل أنت بنوع من التلازم بين الهمّ الإبداعي السياسي والهمّ الإبداعي الفني، وهناك همّ آخر وهو الهمّ السياسي، يعني كيف تكون عندك الهمّ الآخر؟

مارسيل خليفة: هوّ نشأ.. نشأ ربما يكون في البيت، نشأ في المدرسة، نشأ في المعهد، نشأ في.. كنت بتتطلع بتشوف حواليك أنه فيه أزمات كثيرة، ما فيه عدالة فكان من الطبيعي أن يكون هناك اهتمام بالشؤون الاجتماعية والإنسانية والسياسية والثقافية، بتعرف يعني لما أنت بتكون عندك تَطلع بتشوف في المجتمع فيه فروقات كبيرة بتتساءل ليش؟ وهذا السؤال بيدفعك أنك تبحث..

أحمد الزين: نعم.

مارسيل خليفة: وهذا البحث وداك إنك أنت تسخّر مشروعك لخدمة القضايا الإنسانية..

أحمد الزين: جميل.

مارسيل خليفة: القضايا مش بس قضايا أول شي بدأت بقضايا محلية صغيرة، بتبلّش من وأنت وصغير ممكن تبلّش وأنت بالنادي، وبعدين بتبلش وأنت بالمدرسة، وبعدبن بتروح معك للجامعة، إذاً بتكبر القضية معك، بهذا المعنى حسيت بأن.. أنه بدي أكتب موسيقى، وبدي أكتب موسيقى حلوة لأنه إذا كتبت موسيقى ممكن أقدر إذا في قضايا بقدر ساعدها بساعدها، يعني بهذا المعنى فهمت الالتزام والعمل الفني بتطوير لعبتك الفنية، مش أنه التزام فقط يعني إنك تأخذ موضوع وتشتغل عليه.

أحمد الزين: إذا أردنا التحدث عن التأثرات في البدايات عرفنا هي تلك الذاكرة اللي أتت من الجدّ ومن التنوّع في المنطقة، يعني هل من تأثّرات أخرى مثلاً هل كان عندك مثال هيك مبدع أو فنان تعتبره مثال، وبينك وبين نفسك تتمنى لو تكون أو تكون شي مثله؟

مارسيل خليفة: بالحقيقة في البدايات ما كان فيه مثال، يعني أنا بذكر أنه كان في قريتي كان في كنيستين، كنيسة شرقية وكنيسة غربية، كيف بأي معنى؟ كان الكنيسة الشرقية هي أصوات الفلاحين والصيادين والعمال وكل أهل الضيعة ..

أحمد الزين: حتى المقامات الموسيقية مختلفة.

مارسيل خليفة: إيه يغنّوا مقامات ورصد ونهاوند وحجاز.

أحمد الزين: رصد ونهاوند وحجاز.

مارسيل خليفة: وتراتيل كلها بهذا المعنى، وفي نفس الوقت كان فيه كنيسة أخرى اللي هي تابعة لمدرسة، مدرسة لإرسالية فرنسية مدرسة الفرير، كان هناك الجوقة اللي بتغني أربع أصوات، وكانوا يقدّموا أعمال لباخ، أعمال لعدة مؤلفين كبار، وكان في.. امتزج بذاكرتي أنا..

أحمد الزين: هذه الأصوات..

مارسيل خليفة: هذه الأعمال، وكنت أنا أحياناً من عِداد هذه الجوقة، وبدأ الصراع بين هالموسيقى المقامية والموسيقى البلفونية، وبالنسبة لإلي كان فيه سحر حقيقي أن أتعرف على هالتراث..

أحمد الزين: المتنوع ..

مارسيل خليفة: الكبير، وكنت شوف ورا ذلك رجل الدين.. الكاهن كان يلعب على الأرمنيوم وحاطط حدّ منّو.. وحاطط حدّ منّو أوراق النوتة، وبالنسبة لإلي كانت أنا متل لغة غير مفهومة اطّلع فيها، شوف هل النقط وهل..

أحمد الزين: الخطوط.مارسيل خليفة [متابعا]: الخطوط، ما كنت عارف أنه يوم من الأيام رح أكتب كتير من هالخطوط ومن هالنقط ومن هل.. هادي كانت بالبدايات، بعدين أكيد التربية الموسيقية أتت من خلال المذياع، لما جاب بيّي اشترى راديو، وكان احتفال، وكلنا بلّشنا بالبيت كل واحد عندو برامجه الخاصة بأي وقت أنه واحد بدو يسمع، وبدأت أتعرف أكثر وأكثر على الموسيقى.

مارسيل خليفة: كنت آتي كل مساءٍ قبل موعد الصلاة بنصف ساعة أو ساعة أحياناً، لأستفيد من هذه الدقائق الثمينة حتى أرى الحبيبة ولأسلمها أولى رسائلي الغرامية مع همسٍ خفيفٍ ناعمٍ يسري في عروقي عند التسليم، لم تكن تلك الكنيسة مكاناً للعبادة والصلاة فحسب، بل كانت مكاناً لحالة الحب الأول ولتفتّحه، والصخرة الصغيرة الموجودة أمام الكنيسة تشهد على هذا الكلام، دائماً كنا نقترب من هذه الصخرة نقبّلها، نتبارك منها، كنت أنتظر بدوري حلوتي وأهمّ بتقبيل الصخرة بعدها مباشرة وقبل أن يجف ريقها الطيب المذاق، لقد زودتني هذه الصخرة بالخبز والماء والحياة وجعلتني أحلم، وبعدها على تلك الدروب البعيدة فتحت ذراعي للحب الذي يعانق العالم كله، إنه موجود في التراب والماء، في الليل، وفي جراح المناضلين، وفي عيون الأطفال، وفي جسد امرأة

أحمد الزين: عندما أطلَّ قبل حوالي ثلاثين سنة على مسرح قصر الأونسكو في بيروت، عبر موسيقى كتبها لكراكلاّ في عمله الأول، لم يكن أحد يتوقع أن ذلك الفتى النحيل سيصبح نجم مرحلةٍ دار في فلكها وفي فلك أمة وأحلام وقضايا، وأصبحت أغنيته معياراً للانتماء لتلك القضايا، كان ذلك في الثالث عشر من نيسان عام 1975، في مساء ذلك اليوم أُسدلت الستارة على رقصة الحياة لتبدأ رقصة الموت، وإحدى الطلقات الأولى في تلك الحرب، أصابت أميرة ماجد الراقصة الأولى، أصابتها في عمودها الفقري.

مؤسف وحزين وأسود ذلك اليوم الذي سيمتد لأيام ولسنوات، أقلّ ما يمكن أن تُوصف بالمأساوية، فالطلقة التي أصابت أميرة ماجد في عمودها الفقري أصابت وطناً بكامله، آنذاك تشتت شمل والتأم شمل، وكلٌ اختار موقعه حسب قناعاته، ارتفعت المتاريس وعلت أصوات الرعب، وبدت المسألة أقرب إلى انتحار جماعي، وسط ذلك الخراب وتلك اللعنة كانت أصوات تتردد هنا وهناك، أصوات منحازة للحرية ضد القمع، وللعدالة ضد الظلم، وللحياة ضد الموت، ومن بعيد أطلَّ ثانية عبر قصائد لمحمود درويش تقول: "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي"، وبين ريتا وعيون بندقية كان ذلك أول عمل غنائي اسمه "وعود من العاصفة"، لم يكن هذا الغناء بحاجة لجواز سفر كي يعبر كلّ الحدود، ويجتاز كل المتاريس، وليدخل الحارات والبيوت على امتداد الوطن العربي، ويقيم عقداً استثنائياً مع الناس، أحد أهم بنوده الوفاء لهمومهم وقضاياهم، واحترام أذواقهم وشيء من الحب المتبادل وشيء من الأمل.

أحمد الزين: طيب مارسيل هيك لو أردنا السؤال عن تجربة الحرب، ودورك في الأغنية من خلال تلك الحرب التي سُمِّيت بأسماء مختلفة، الأغنية الوطنية حيناً، أو الأغنية الملتزمة الأغنية المحرضة، يعني كيف تقرأ تلك التجربة؟ وهل نستطيع القول أنها طبعتك بطابع معين؟ أو وسمتك بسمة لم تستطع الخروج منها؟ هل أفادتك؟ أفادت مشروعك الموسيقي؟ أم لم تفده كما ينبغي؟

مارسيل خليفة: في الحقيقة أنا تكوّنت قبل الحرب، بمعنى أن تجربتي بالدراسة أو بالـ.. كانت قبل الحرب، أنا بذكر مرة كنت في المعهد الموسيقي وبيجي عبد الحليم كراكلاّ عم يبحث عن موسيقيين شباب جداد لمشروعه الجديد هوّ كمان، كان ببداية مشواره، فكنت أنا وطلب مني أن أكتب له بعض المقطوعات، وكانت التجربة الأولى بعجائب الغرائب، كتبت جزءاً كبيراً من العمل بهذا الـ.. وقُدِّم هذا العمل في الأونيسكو.. في قاعة الأونيسكو في بيروت، وبالنسبة لي كان فرحاً كبيراً أنّي أنا أسمع موسيقى كتبتها مسجلة عم يرقصوا عليها فرقة، ولكن هذا الفرح لم يكتمل لأنه بعد يومين من العروض بدأت الحرب اللبنانية، لرجّعك إلى البداية لم تكن الأغنية في البداية هي أغنية محصورة بموضوع معين، عندما غنّيت للأم كان موضوعاً واسعاً، عندما غنيت لريتا كان أغنية حب.

أحمد الزين: طيب مارسيل أنت أول أسطوانة وقعتها باسمك هي "وعود من العاصفة"، والأسطوانة نصوصها هي تتضمن أغنيات النصوص لمحمود درويش، السؤال هو أنت كيف يعني التقيت.. أنت القادم من بلاد جبيل بمحمود درويش عبر النص بداية؟ وربما قبل أن تتعرف إليه أو يصير فيه هاللقاء والود لاحقاً؟

مارسيل خليفة: كنت أعتبر أن الشعر الموجود بالديوان هذه ملكية عامة، ولم يخطر في بالي أن يعني أستشير..

أحمد الزين: أنه في حقوق ولا تسأله للزلمة.

مارسيل خليفة: إي أن أستشير الشاعر، فلحّنت هذه القصائد، وبدون أن يكون هناك أي معرفة بمحمود درويش، وللحقيقة تعرفت على محمود درويش بعد سبع سنوات من..

أحمد الزين: تلحين هذه القصائد.

مارسيل خليفة: من صدور الأسطوانة الأولى، وبالطبع محمود يعني كان يتابع هذه التجربة من بعيد، وكان محمود درويش شاعراً كبيراً، كبيراً في كل شيء يعني، كبير بإنسانيته، كبير بوعيه، كبير.. والتقينا بعد سبع سنوات في المدينة.

مارسيل خليفة: لسنين طويلة ارتبطت موسيقاي بشعر محمود درويش، فتآلفت أعمالنا في ذاكرة الناس، حتى صار اسم أحدنا يستذكر آلية اسم الآخر، ولا عجب في ذلك فكل محطات مساري الموسيقي ولسبعة وعشرين عاماً مليئة بالإشارات إلى أعمال درويش، بدءاً بـ "وعود من العاصفة" وصولاً إلى "الموشَّح"، فمنذ أولى محاولاتي وقبل أن يتعرّف أحدنا إلى الآخر، كنت أحس بأن شعر درويش قد أُنزل عليّ ولي، فطعم خبز أمه كطعم خبز أمي، كذلك عينا ريتا ووجع يوسفه من طعنة إخوته، وجواز سفره الذي يحمل صورتي أنا، وزيتون كرمله الرمل والعصافير، السلاسل والجلادون محطاته وقطاراته، رعاة بقره وهنوده كلها.. كلها سكناها في أعماقي، فلا عجب إن آلفت موسيقاي أبياته بشكل طبيعي دونما عناء أو تكلّف، يقيني أن شعره كُتب لأغنّيه، لأعزفه.. أصرخه.. أصليه.. أدوزنه، أحكيه ببساطة على أوتار عودي، وإذا ما أشركت كل آلات الأوركسترا مع كلماته وصوتي، طلع ذلك الإنشاد الذي يهز ويؤاسي.. يحث ويقاوم.

أحمد الزين: طيب مارسيل أنت يعني بعد تجربة بيروت والحرب، ربما الحرب هيّ اللي دفعتك أنت تختار باريس يعني مكان الإقامة أو وطن بديل إن صح التعبير، يعني هالإقامة اللي صار لها فترة من الزمن بباريس أتاحت لك فرصة لتعمل قراءة مختلفة نتيجة هالمسافة للماضي وللمكان اللي أتيت منه، يعني أفادتك هالتجربة بباريس بمعنى آخر على المستوى الإبداعي؟ يعني أتاحت لك الفرصة تحقق مشاريع بعيدة عن الضغط الاجتماعي، حتى نقول أو الضغط السياسي ضغط الأحزاب والطلبات والإلحاحات؟

مارسيل خليفة: أول شيء رحت من لبنان بعد اتفاق الطائف، لأنه لم يعنيني هذا الاتفاق، وما حسيته يعني كل هؤلاء الشهداء اللي سقطوا على تربة نظيفة أنه بينعمل اتفاق في الطائف بهذا الحجم وبهذا المستوى، وأن تتكرس كل ما كان مكرَّساً بشكل أو بآخر، أن يبقى هذا الوطن وطن..

أحمد الزين: طوائف..

مارسيل خليفة: طوائف وطن قبائل عشائر إلى آخره بهذا المعنى، فما كان يعنيني هذا الاتفاق ولا من قريب ولا من بعيد، في كتير ناس تمسكوا به لأنه وقّف الحرب، ما عرفنا كيف بلَّشت الحرب وما عرفنا كيف وقفت الحرب، كمان مثل ما قلت بسؤالك أن.. إنك تأخذ مسافة من المكان اللي عايش فيه نعم بتصير تشوف أكتر، بتطلع على الجبل وبتشوف الساحل على سبيل المثال بتشوفه أوضح.. بتشوفه..

أحمد الزين: بتشوفه بعيد.

مارسيل خليفة: أوسع.. لأ بتشوفه بعيد بس بتشوف حتى التفاصيل أكتر.

أحمد الزين: طيب مارسيل أنت بسياق الحوار وإحنا عم نتحدث قلت إنه أنت تسكن الطائرة وهذا يعني أنك في تجوال دائم، وتحتك بالعديد من الناس وتشاهد العديد من الوجوه، يعني كيف تقرأ صورة مارسيل خليفة في وجوه الآخرين؟

مارسيل خليفة: أول شيء نحن صورتنا ما كتير..

أحمد الزين: مهزوزة.

مارسيل خليفة: لأ كتير مهزوزة.

أحمد الزين: بعدها منيحة.

مارسيل خليفة: في الإعلام وفي الـ.. يعني أنا بذكر مرة كنا في إحدى.. بإحدى المطارات الأميركية، وجايين من أميركا الجنوبية على أميركا الشمالية، في إحدى المطارات بيسألونا سؤالاً محدداً: أنتو من وَين؟ قلنا لهم: من لبنان، وشو جايين تعملوا؟ قلنا له: إحنا فرقة موسيقية..

أحمد الزين: أنتو من وين؟ نحن من بلد الشبابيك.

مارسيل خليفة: إي فرقة موسيقية، فيقول لي.. فبيقول لنا: ليش أنتو عندكم موسيقى ببلدكم، بالحرف الواحد هذا على الحدود، فالسؤال كان استفزازي طبعاً نحن الفرقة الموسيقية كلنا كنا، قلنا له: كيف لكان نحن لبنان بلد موسيقية، واضطرينا كل واحد من العازفين أن يمسك آلته ويلعب عليها مقطعاً لأنه.. حتى يتأكد إنه نحن عازفين أو شيء تاني.

مارسيل خليفة: كأن على الجسد أن يقول أكثر مما يقوله الشعر، ولهذا سوف أدخل الجسد الطالع من لهفة الحب بحنان لأكتشف أننا في مخادعنا الصغيرة يجب أن نشبه الشعراء وأن نبقى شعراء، ونتحرر من المكبوتات والضوابط، ونتنفس الهواء الذي نحتاج إليه، وسأسعى في الجسد إلى التحرر من كل ما يعوقني عن الإبداع الحقيقي، فأنا مع الحِلم وضد البوليسية في الحب، ولهذا دخلت إلى غرفة الحب ورسمت الشعر بموسيقى العشق.

أحمد الزين: شو علاقتك بالحب أنت بشكل عام يعني؟

مارسيل خليفة: ما بقدر شوف الحياة بدون حب، يعني..

أحمد الزين: الحب الطوباوي؟ أم الحب الملموس؟

مارسيل خليفة: لا.. لا الحب الملموس بدك تداعبه مثل ما بتداعب الآلة الموسيقية، مثل ما بتحمل العود، بتداعبه بدك تداعب الحب، بدك تداعب الآخر، ما فيك بدك تحط إيدك عليه.

أحمد الزين: طبعاً مارسيل من شروط الإبداع.. العمل الإبداعي، الشروط الأساسية الحرية، يعني أديش بتحس حالك حر أنت وعم تكتب موسيقى؟ ربما الموسيقى مجردة لا أحد يستطيع أن يعلّم عليك إلا تعني فيها هذا الشيء، ولكن في خياراتك للنصوص الشعرية أديش أنت حر حتى تقدر توازي بين الرقابة اللي بتمارسها على نفسك، وبين الرقابة العامة اللي بيفرضها المجتمع والسلطات بمختلف أنواعها.

مارسيل خليفة: أول شي أنا حر، وما فرقانة معي أي رقابة بتعملها أي سلطة، أنا بحس دائماً أن الفن هو أقوى من أي سلطة، هو فوق كل الحواجز يعني بضحك أحياناً على الرقيب، يعني من هو هذا الرقيب؟ من هو هذا الشخص المجهول المعلوم؟ أنه هوّ يعني بيقعد بمكان بيقول أن هذا بيجوز بيمر وهذا ما بيمر، هذا عيب، اليوم العالم راح لقدام كتير، أقول لك الحقيقة اليوم إذا أنا عامل أسطوانة موسيقى وعليها اسم مارسيل خليفة، في كذا بلد ما حنسمّي هلأ لأنه مش ضروري نسمّي ما بتفوت الأسطوانة لأنه عليها اسم مارسيل خليفة.

أحمد الزين: كان هو ذلك الفتى النحيل عازف تشيلّو وعازف العود الذي عُرف في الأوساط الموسيقية من أهمّ عازفي هذه الآلة، وهذا رصيدٌ سيجعله لاحقاً ومدارك أخرى اكتسبها في التجربة مؤلِّفاً موسيقياً بامتياز، كان هو الذي اختار موقعه الخاص، ولغته الخاصة للتعبير عن هواجسه الإنسانية والإبداعية، فبداية الحنين إلى خبز البلاد كانت فاتحة الحنين للمستقبل، ولعالم يريده وآخرين كُثُر أن يتحقق على نحو أجمل وأعدل، كان حنيناً ليس لما هو مفتقد وحسب بل للآتي من الأيام، وتلك البندقية بين ريتا وعيون العاشق، وإن اغتالت قامات من الناس والأوطان، لم تستطع اغتيال الصوت اغتيال الحب، وهذا رهان أو خيار من خيارات هذا الرجل وقد ربح الرهان، وربحنا مبدعاً اسمه "مارسيل خليفة".ترى إذا الحرية سمحت لك هالقد تشتغل وتتجلى في النص والقصيدة والتلحين، أديش المرأة سمحت لك؟ أو لجمت ذلك الجموح عندك؟

مارسيل خليفة: تعلمت الحرية من المرأة العربية حقيقة، رغم كل هذا الظلم اللاحق في المرأة، وكل هذا الـ.. يعني بعرف أديش في صعوبات يعني بعرف كتير وبحس مش بس بعرف، بس رغم كل ذلك أنا شخصياً تعلّمت الحرية من المرأة العربية، ولو المرأة العربية بيصير في هيك مجال أنها تكون موجودة وحاضرة أكثر كتير إشيا حتتغير في العالم العربي، كثير من الأشياء.

أحمد الزين: طيب مارسيل بالإضافة لإنجازاتك في الإبداع المتنوعة، أنجزت أشياء أخرى أهمّ بكتير يعني عندك وريثين جميلين هما رامي وبشار، كيف علاقتك فيهم؟ هم صديقان؟ أم يعني أنت الأب اللي وجهتهم وقمعتهم يعني نحو الموسيقى؟

مارسيل خليفة: بالحقيقة أول شي ربما بشكل طبيعي بالبيت يعني الموسيقى موجودة، يعني بتفوت على غرفة النوم في موسيقى، بتفوت عالمطبخ في موسيقى، بتفوت على.. محل ما بتقعد في موسيقى، الموسيقى موجودة يعني عاشوا بجو جداً طبيعي، هلأ ما بعرف إذا كان في بالجين..

أحمد الزين: شيء.

مارسيل خليفة: أنه هيدا ربما يكون مظبوط أو مش مظبوط ما بعرف، فدرسوا الموسيقى.. فدرسوا موسيقى وراحوا لمشروعهم يعني هن ما هوّ لما ذهبت تلك الطيور العاصية إلى مكان بعيد، ما عاد فيك تلحق فيها خلص يعني ما فيك تقول إنه أنت توجهها ما في توجيه، في احترام متبادل في سعي كمان دائم لصداقة.. صداقة موجودة ومحتملة كمان.

أحمد الزين: طيب مارسيل تعتبر نفسك أنت وُفقت في حياتك؟ في مشروعك؟ أنجزت؟

مارسيل خليفة: دايماً ولا مرة الإنسان بيوصل لمحل بيقول إنه حقق الفكرة اللي عنده إياها، بعد كل عمل بس يخلص بتكون أنت بدوّامة مشروع، بمخاض عسير للولادة ليطلع.. بتقول إنه ولك خليني بس عطيني وقت بعد شوي لخلّصه.

أحمد الزين: طيب بتحس أن فسحة الزمان والحياة ليست يعني كافية لتحقيق ذلك؟

مارسيل خليفة: كتير مرّات بحس بهالشي إنه الوقت كتير قصير لمجموعة من الأفكار، لمجموعة من الأحاسيس، لمجموعة من المشاريع، لمجموعة من.. من.. من الفرح بدك إياه، إي بحس الزمن ضاغط بيضغط عليك دايماً.

أحمد الزين: يعني افتقدت بالتجربة كتير أشياء وكتير أصدقاء وكتير ناس يعني في حدا افتقدته أثّر أكتر من سواه في نفسك يعني ترك فراغ كبير بحياتك؟

مارسيل خليفة: هو أمّي، لأنه ما عشت مع أمّي.. كتير وقت قليل. لأنه ماتت أمي صبية صغيرة، هو هذا الشي اللي.. وكنت بعدني هيك يعني مبلّش بالحياة شوي في شخص ملاّ الدنيا ما عاد موجود، شكّل فراغاً كبيراً، يعني بقيت سنوات لأرجع كوّن حالي.

مارسيل خليفة: أذكر أيام زمان عندما كنت ولداً وأخاف من العتمة، العتمة والأولاد ما بيحبوا بعضهم، والنعاس يحمل زوادته ويأتي ليسكن ليلاً، وقبل أن يصل النعاس كانت أخبار أمي الحلوة مشواراً من كونٍ إلى كونٍ، تأخذني من بيتنا العتيق إلى مطارح جديدة، كانت أصابعها الجميلة وهي تمتد إلى جبيني المغطَّى بخصل الشعر الهاربة، تخربط العالم وتفركش العتمة، وبعد أن تنهي الحكاية كانت ترجّع وبلا انقطاع ترنيمة مليئة بالحب تأخذني إلى النوم، كنت في العشرين حين رحلت أمي، ما زلت أرى جسدها المسجّى في البيت، عروس صغيرة نائمة، قبّلتها على جبينها البارد، وحملوها عند الغياب، مشيت مع الحشد المودِّع بخطى وئيدة، على طرقات البلدة الترابية، صور لا تفارقني أبداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق