2005-07-03

روافد مع الشاعر بول شاوول

إعداد وتقديم

أحمد الزين: الشارع طريقٌ يطويها بخطواته أو تنفرد أمامه وتلتمّ وراءه في سعيه المثقل بفكرة غامضة عن الزمان، وأحياناً حين يقبض على التماعات التفسير لفكرته أو لسعيه يفرد برحمة فائقة على طاولته أوراقه ويديه وقلمه وآلامه، يأتيه النادل بقهوته ثم يبدأ طقس الصمت الطويل، يكتب على هامش الصفحة كلاماً يشبه وجه صديق غائب، ويؤلف آخر لمتن العزلة، ثم امرأة لشهر طويل من العشق، ومدينة اسمها بيروت، يخبّئ المدينة في الكتاب ويمشي، فتسقط من صفحات الكتاب حروف المدينة وترنُّ على الرصيف لتعيد تأليفه وهو يروح ويجيء إلى المقهى، تعثر عليه دائماً هنا، يتبع ظله أو يتبعه ظلٌّ، وإن تعذر تقبض عليه متخفياً في صفحات كتاب جديد فيقتادك إلى المقهى ويضيفك قصيدةً أو حكاية.

بول شاوول: القهوة أهميتها فيها العزلة المفتوحة، العزلة الشفافة، القهوة شفافة مش وكر يعني مش بيت مش أوكار ما حدن بشوفها، كل شي مكشوف والوقت نفسه كل شي.. يعني كل شي مخبأ، أنا حبيت بالقهاوي جزء كبير من اللي تعرفت عليهنّ، من اللي انغرمت فيهنّ بالقهاوي، كتبت بالقهاوي..

أحمد الزين: أنت معظم ما كتبته أظن بهالمنطقة.. غالباً..

بول شاوول: يعني مش الشعر، المقالات كلها بالقهاوي، وفي بعض أشياء كتبتها عن القهوة بالقهوة، قرأت بقرأ كتير بالقهاوي، كتير بقرأ بالقهوة، بشوف الناس بالقهاوي، انغرمت يعني.. والقهوة كانت تخبرك إنّو ناس.. شخص بطّل موجود بطّل يجي، كانت علامة حياة، يعني مثلاً في أصحابي ما كنت شوفن إلا بالقهوة، ما بعرف بيوتهن، بس يبطلوا يجو على القهوة أو صار لهن شي أو ماتوا، القهوة ما بتسألك: إنت مين؟ ولا من وين جاية؟ ولا شو عم تعمل؟ بالحروب بيسألوك، القهوة ضد العنف، مكان عام ما فيها تتحمل القهوة العنف، ضد البربرية ضد الوحشية هي هذا اللقاء الرائع الحلو والمتفرّق والمتصل بذات الوقت، إذ كانت مأوى للمثقفين مأوى للهامشيين، القهوة مأوى بكل معنى الكلمة، لأنو ما كان عندن هالمكان الرحب في المجتمع، كان عندهم مجتمعهم يلّي هوّ المقهى، يلّي هو بيشبهم، دائماً المقهى متقدمة على المجتمع، بس تصير المقهى متخلفة عن المجتمع بطّلت مقهى.

أحمد الزين: طوى الكتاب مرةً أخرى وخرج ليتفقد الشارع الممتد بينه وبينه، بين المقهى والمقهى، بين بدنه وظله، بين نصه والمكان، ليست الألفة فقط أو التعوّد، بل كان هذا المطرح الفضاء المتاح خلال سنوات طوال، كان يضيق ويتسع على إيقاع الحروب، يطول ويقصر كما الأعمار العابرة على الأرصفة، هذا الرصيف مؤرخٌ صامت للناس للسنين وللحوادث، كتب حكاية العابرين والمتسوّلين والمتسكعين والقتلة والضحايا والغزاة، وكتب حكاية العشاق والشعراء والمواعيد الدالفة إلى خلف زجاج المقاهي، كتب الكُتَّاب والكِتاب والمشاهد، هو الوحيد الذي يعرف كم من مرة مرَّ به مقيم أو عابر سبيل فارداً عمره سجلاً لكلامهم وأجسادهم، هو يعرف كم تبدّلت الواجهات؟ وكم تبدّلت الوجوه؟ في هذا المقهى التمّ شمل وتفرق شمل، هنا أو هناك انعقدت حوارات الستينات والسبعينات، وتداعى الكتاب وتساجلت الأفكار وعلا صخب المشهد العربي والعالمي، لم يحتملوا بوح المدينة وصخبها الجميل فأطلقوا عليها الحقد، مشينا ليتفقد أطياف وجوه الأمس في مراياه، لملم عمره المتساقط خلفه من بين صفحات كتابه وروى.خصوصية بيروت بين العواصم العربية

بول شاوول: أؤمن ببيروت، أؤمن ببيروت لأنها بعدها لا زالت حتى الآن الهامش الأول في العالم العربي، الهامش الاجتماعي يعني اللي..

أحمد الزين: منيح..

بول شاوول: منعمله اجتماعياً ببيروت ما بينعمل برّا، حتى ما نكتبه اليوم لا يُكتب في أي مدينة عربية، لازم نحنا هون ما ننتفخ، بيروت ضعفت ولكن بعد عندها هامش لازم نشتغل على الهامش، نشتغل على الديمقراطية، نشتغل على الحرية، نشتغل على المجتمع المدني اللي هوّ طلّع الشعراء، المجتمعات غير المدنية ما بتطلع لا شعراء ولا كتاب.

أحمد الزين: كما لا يمكن تخيّل المدينة دون بحرها ومداها الأزرق لا يمكن تخيّل بول شاوول دون مقهى من مقاهي هذه المدينة، ولا تمكن قراءته خارج مطارحه هنا أو هناك متسكعاً على الرصيف ينأى عميقاً على شاطئها في صمته ووحدته، والعثور عليه بشكل أكثر دقة ممكن في كتاباته المتنوعة ما بين المسرح والنص الأدبي والمقالة والقصيدة والنقد واللمحات التي يلتقطها من صخب الأمكنة هذه أو من صمتها، فتأتي مكثفةً كآخر رشفة من فنجان قهوة، وفي الطريق إلى بيته يروي عن طفولته في سن الفيل، وعن الوالد الشرطي الأب لثمانية أولاد، وعن المكتبة الوطنية التي نُهبت خلال الحرب، وعن الجامعة اللبنانية في عزّ زمانها، ندخل البيت وكيف العثور على ملامح هذا الرجل بين تلك القامات والوجوه النائمة بين صفحات الكتب؟ يعني كيف يعثر بول شاوول على بول شاوول في هذا الفضاء المشحون يعني بالكتب والكلام وربما الألم أيضاً؟

بول شاوول: بول شاوول هو في كل ما قرأه..

أحمد الزين: في كل ما قرأه في كل هذا هو بول شاوول تراه في زاوية من الزوايا، تراه في كتاب، تراه في عدة كتب، تراه في هذه الجدران، يعني تاريخ الشخص هو تاريخ الكتب أحياناً جزء من تاريخه..

أحمد الزين: وتاريخ الأمكنة أيضاً.

بول شاوول: وتاريخ الأمكنة، لأن الكتاب هو مكان، الكتاب هو مكان..

أحمد الزين: صحيح..

بول شاوول: من هيك إنو..

أحمد الزين: هل عثرت على أصدقاء من.. يعني أصدقاء لا تعرفهم.. أصدقاء لا تعرفهم من خلال هذه الكتب؟

بول شاوول: كل الشعراء الكبار، كل الكتاب الكبار عندما تقرؤهم..

أحمد الزين: تشعر..

بول شاوول: تتوطّد بينك وبينهم أكثر من صداقة..

أحمد الزين: أبوّة..

بول شاوول: هؤلاء الكبار كلهم آبائي، وأنا عندما كنت أترجم - ترجمت 6000 قصيدة ومسرح - كان الهدف الوحيد ليس المال طبعاً يعني أنا وليس حتى النشر، كنت أقول لهؤلاء كلهم الذين ساهموا في تكويني وفيما أنا عليه الآن: شكراً.

أحمد الزين: طيب بول إنت من الجيل اللي تكوّن بين نهايات القرن الماضي يعني ستينات القرن الماضي..

بول شاوول: بس واحد يحكي عن القرن الماضي بيتخيل حاله إنو..

أحمد الزين: بعيد كثير..

بول شاوول: بيتخيل حاله مات ورجع. [يضحكان]

أحمد الزين: ما هو على طول أنت يعني تموت وتعود في ولادات الكتابة يعني؟

بول شاوول: طبعاً.

أحمد الزين: يعني تكوّنت بمناخات نهاية الستينات بداية السبعينات.. مناخات السجال والديمقراطية اللي كانت صروح الجامعة اللبنانية حيناً ثم المنابر الثقافية وأنت كنت أحد وجوه تلك المرحلة اللي أسهمت بالثقافة ربما بالسياسة أحياناً، لو أردت الآن أن تستعيد بعض ملامح تلك التجربة وتقارنها في اليوم، ماذا تقول فيها؟

بول شاوول: أول شي ببلّش بالجامعة اللبنانية، الجامعة اللبنانية التي كانت متقدمة على كل الجامعات العربية، الجامعة اللبنانية أهمها أنها كانت مهداً لأفكار التغيير، مهداً لأفكار المستقبل، كانت متقدمةً على المجتمع، كانت أمام المجتمع، كانت مشروعاً ثقافياً وليس مشروع تخريج كادرات، كان في وحدة نقابية وثقافية في الجامعة اللبنانية، أول شي كنا..

أحمد الزين: ربما كان فيه إحساس بول بالانتماء لشيء اسمه وطن أكثر من الآن يعني حتى كل هالأطراف تشارك تحت شعارات وما يختلفوا كذلك؟

بول شاوول: صحيح هيدا انتماء لمستقبل الوطن، كنا نحنا صغار وأحلامنا كبيرة، هلأ صرنا كبار وأحلامنا صغيرة، يعني شو أحلامنا هلأ نحنا إذا منشوف الوضع السياسي؟ أحلامنا شوية ديمقراطية عم يعطونا، شوية حرية- الله يرضى عليكن- ما تروّحوا تجربة بيروت، نحن عملنا ونحن وجه الحضارة.. يعطونا.. ما يصير جهاز نظام أمني، ما يجيز قمع، ما يجيز.. هذه ما كانت كنت أوقف أنا بالمظاهرة أنا والشباب نهاجم رئيس الجمهورية، نهاجم رئيس الحكومة، نهاجم وزير التربية، المظاهرة من 50 ألف مش إنو بالسر أوقف على.. يعني يحملوني على الكتف أو أوقف على المنبر ونهاجم مش أنا وحدي الكل، كانت بيروت.. من هيك إجت الحرب في لبنان انقلاب على المسار الديمقراطي الذي كان بدأ يأخذ مساراً شعبياً في كل لبنان.

أحمد الزين: خرج من الزحام وقف في صمته كان صمته شاحباً وطويلاً، بعدما عصبوا عينيه صارت نظراته أعمق، لم يرف له جفن قبل أن يتأكد من وحدته، وحدته الشاحبة والطويلة، شاحبةٌ فرأى كل شيء حوله فجأة، وحدةٌ شاحبة طويلة مشى فيها من دون تذكارات، لكن قبل أن تتحرك يداه، قبل أن يلمس الجدار اكتشف في اللحظة الأخيرة أنه نسي أن يصرخ، ما هذا؟ بقي واقفاً في صمته، صمته الشاحب الطويل قبل أن تُسدل الفأس.. الفأس الطويلة والشاحبة الستار الأخير عليه.

أحمد الزين: كنا صغاراً وكانت الأحلام كبيرة، اليوم كبرنا وأصبحت الأحلام أصغر، هي الحروب والهزائم طحنت الأحلام والأعمار، على هذا النحو يروي بول شاوول عن تجربةٍ شكلت منعطفاً في الحياة الثقافية والسياسية في لبنان في بداية السبعينات، يروي عن مصادر تشكيله وتكوينه في الجامعة اللبنانية وفي سجالات الحداثة في الشارع الحداثي ويروي عن ولادات النص عبر تعدّد الآباء الذين كلما كثروا كثرت الولادات، على عكس ما نادى البعض في التخلّي أو قتل أب بالمعنى الثقافي والأوديبي، هو هنا في مطارحه دائماً يراهن أو على حدّ تعبيره يؤمن بالمدينة التي كانت مختبراً لولادة الأفكار ويؤمن بالثقافة، والكتابة شكل من أشكال هذا الإيمان لأنها تجلٍّ من تجليات الحرية.أنت كيف أتيت إلى هذه الخيارات إلى الثقافة إلى الشعر؟ من أيّ بيئة؟ من أي مناخ يعني قبل الجامعة طبعاً؟

بول شاوول: بلّش خياري بدون ما أعرف، ما حدن بيقرّر بيئة من شاعر أو من كاتب، بيجي هيك مثل معجزة، حدن أنت حاول فرد تكتب، كيف كنت أتعوّد أنا؟ أول ما تعلمت المدرسة.. مدرسة المعارف يعني أخذت سرتفيكا أنا، مدرسة المعارف الحكومية ما كان وين بدّو يحطني؟ لا في يحطني بالفرير يومها ولا فيه يحطني باليسوعية، ما في.. 8 إخوة وين بدّو يحطّنا؟ بقى بس كان يومها بس يعطينا ليرة ونصف بالجمعة بيي - الله يرحمه - كنا ننزل.. كنت أنزل على البرج يبسطّوا نهار الأحد كتب كان الكتب بخمس قروش تشتريها، بعشر قروش وبعد منّن.. عندي كتب هون منّن، بيجيب لك أربع خمس كتب ومجلات تقرأ فيهن، أو بعدين مرحلة متقدمة ابن 14 - 15 - 16 في شي اسمه المكتبة الوطنية، يا عيني ما أحلاها كانت..

أحمد الزين: هيدي سُرقت خلال الحرب؟

بول شاوول: سرقوها اثنين، تبعون شعار لبنان العنفوان وتبعون شعار العروبة تقاسموها..

أحمد الزين: منشان يتثقفوا أولادن؟

بول شاوول: لا.. باعوها، باعوا مخطوطاتها بلندن، في مخطوطات بملايين الدولارات، سرقوها اتنيناتن ناس باسم لبنان وناس باسم العروبة وإلخ..

أحمد الزين: كان الكتاب آنذاك له معنى أكثر من الآن يعني..

بول شاوول: كان الكتاب له معنى أكثر..

أحمد الزين: كان عندها فضول تقرأ أكثر؟

بول شاوول: كان عندها فضول وما حدن يتحجج إنو ما فيش معه يشتري حق كتاب، يعني بيدفع بحق فنجان القهوة 4000 و 5000 ليرة ما يقول لنا: فيش تدفع بطاقة مسرح ولا حق كتاب، ما يقول لنا شي، الناس بطلوا يقرؤوا، لهلأ لأسباب..

أحمد الزين: لأسباب مختلفة طبعاً..

بول شاوول: إذن بالمرحلة هيدي.. مرحلة قبل الجامعة وكنت مراهقتي حلوة، عشت مراهقتي كما يجب..

أحمد الزين: حبيت؟

بول شاوول: حبيت.. إي حبيت

أحمد الزين: وبكيت؟

بول شاوول: بكيت مثل فريد وعبد الحليم، مش بس هيك كنت روح على الكنيسة تشوف بنت هناك، عرفت كيف؟

أحمد الزين: تشوف مريماتك..

بول شاوول: مريماتي، ويعني كنا نروح بالآلام.. بجمعة الآلام، منروح معنا مشوار..

أحمد الزين: بتروح لجمعة الآلام لحتى تفتش عن فرحك؟

بول شاوول: شو لكان؟!

أحمد الزين: طيب بول بمرحلة كمان من تجربتك ولم تزل هاي المرحلة متواصلة إنت اشتغلت في الإعلام ناقد يعني، عملت في أكثر من منبر، بتعتبر نفسك مدلل بهالأمكنة.. بهالمروحة من العمل؟

بول شاوول: مدلل لأنو أنا شخص مستقيم بشغلي، أنا ما بعمل القسم ملكي، هذا القسم بالسفير ما كان ملكي ملك بيي، مش بيي ورثني إياه..

أحمد الزين: هذه رسالة عم توجهها لحدا؟

بول شاوول: للكل.. لكل رؤساء الـ.. اللي بيمنعوا عنك مقال، بيمنعوا.. إنت مختلف.. إنت واحد.. بيمحوا لك اسمك، بيخفوا مقالات عنك بالجوارير، عيب.. ما بيصير هيك.. يعني نحنا كلنا عم نطالب الديمقراطية، منعمل فاشيين بس نحنا نتسلم سلطة ولو على كرستين على ثلاث أربع محررين.

أحمد الزين: طيب بول اليوم المعارضات اللبنانية يعني الثقافية والسياسية والفكرية تداخلت بشكل يعني فيها شوية التباس - إذا صح التعبير - أين أنت من هذه المعارضات الآن؟

بول شاوول: أنا الحقيقة بقول لك أنا شو؟ أنا ضد العسكر، ضد الأجهزة الأمنية تحل محل السياسيين، أنا مع سيادة لبنان، أنا عروبي ولكن عروبتي هي مشروع مستقبلي دائم، مش عروبة بأفكار الأحزاب الموجودة والأنظمة الموجودة، من هالمعنى هاي.. وأنا لبناني.. قد ما أنا لبناني عروبي وأنا قد ما عروبي يساري وقد ما يساري منفتح على العالم، إذن البلد بدون معارضة بلد ميت، بلد.. من هيك بقول لك: أنا مع هذه المعارضات، ولكن ككل أنا في ناس بهاي المعارضة بتمنى يكونوا بالسجن هلأ بس مش وحدن، اللي هجّروني من بيتي وإجو بدهن يقتلوني بالزمانات، ما رح افتح هلأ الموضوع، يلّي مشوا مع إسرائيل وبدهن يقسموا البلد واللي عملوا طائفية بدّن ينفصلوا عن محيطهم وإلخ كلن هيدي، ولكن أنا اليوم في صف المعارضة وخصوصاً في صف اليسار الديمقراطي، أنا بدون ما أنا ما بفوت..

أحمد الزين: هذا على المستوى اللبناني، على المستوى العربي كيف تقرأ صورة العالم العربي الآن يعني هذا الخراب وهذا الجحيم اللي فايتة فيه الأمة؟حاجة الأمة والأنظمة إلى الإصلاح

بول شاوول: عالم الأنظمة العربية بحاجة لإصلاح، صدئت، بحاجة إنو تتعامل مع المجتمع المدني تبعها..

أحمد الزين: تتصالح معه.

بول شاوول: وتتصالح وتتعامل معه كمصدر هو لقوتها، بس يكون مجتمع النظام ما بيخاف، ولكن هي بحاجة إلى إصلاح ولكن أنا ضد تيجي أي دولة في العالم تيجي بدها تفرض إصلاحاً فوقياً تصدّر إصلاحها أو ثورتها على النظام، النهضة العربية قامت على حوار الذات والآخر، يعني التراث والغرب خصوصاً أوروبا إذا نحنا منستفيد من كل الأفكار ونحن نختارها، نحن نختار الأفكار من خارج السلطة، السلطة الأميركية ما فيها تسمع..

أحمد الزين: عم تحكي عن النخبة هي اللي بتختار الأفكار، النخبة الثقافية السياسية؟

بول شاوول: النخبة اللي مربوطة بمجتمعها، الأفكار بتيجي من المجتمع، وعندي أفكار نخبة إذا ما فات بنوع تفاعل مع المجتمع ما عم بحكي عن السياسة أنا، إذن أنا مع الإصلاح، مع المصالحة مع المجتمع على كسر هالتابوهات على إنو هالأنظمة العربية تقول: عندي شعب أحترمه وعندي شعب حي.

أحمد الزين: طيب حكينا بتصوّر سياسة بما يكفي، بدنا ننتقل على شغلتك، ولاّ هذيك شغلتك كمان؟ [يضحكان]

بول شاوول: أيوة هي اللي عايشين عليها.

أحمد الزين: طيب، بول شاوول الشاعر والناقد والكاتب المسرحي والقاص يعني أين أنت من هذه الأشكال من التعبير التي بخاصة إنو كل كتاب بيصدر لبول ما بيشبه الثاني، يعني وكل كتاب له لغته الخاصة، كل كتاب له مناخه الخاص، يعني أين أنت من هذه المروحة من أشكال التعبير؟

بول شاوول: أنا برأيي إنو واحد عنده طاقات وهالطاقات ما بتخلق لحالها يعني بتخلق وبده الواحد يطوّرها، يعني يا ريتني أنا بعرف أرسم مثلاً، يا ريتني..

أحمد الزين: كنت كمان رسمت؟

بول شاوول: يا ريت، يا ريتني بندم ليش ما عملت مخرج مثلاً سينما، أوكي، ليش ما قريتش فلسفة أكثر من هيك مثلاً؟ أنا برأيي الشاعر إذا عنده طاقات يكتب رواية عظيم، إذا عنده موهبة الرسم أعظم، أنا برأيي كل واحد يعطي اللي عنده، ما يقمع إنو أنا شاعر بدي أكتب قصائد بس، لأنو أحياناً القصيدة تضيق بالتجربة، تضيق لأنو تقنية.. القصيدة عملية تقنية، القصيدة قوام يعني تقنيات، بينما الشعر يعني الفضاء، وهذا الشعر بيمتدّ على القصة، بيمتد على المسرح مش بالضرورة باللغة بالحلم، بيمتدّ على الفن التشكيلي، على كل شي، الشعر هو المكان.. هو الينبوع بالمعنى الواسع للكلمة..

أحمد الزين: طيب بول إنت كناقد يعني بتتعاطى خاصةً مع النصوص الشعرية والمسرحية لأنو إنت شاعر ومسرحي أيضاً وقاصّ، بتتعاطى معهم بموضوعية؟ أم يعني بمقاييسك إنت اللي بتشتغل تحت سقفها مقاييسك الإبداعية؟

بول شاوول: كتير حلو هالسؤال..

أحمد الزين: يعني بتكون عادل مع النصوص الأخرى؟

بول شاوول: لقول لك شو. أنا باخذ كل نص بمنطقه، يعني ما بيعجبني فقط اللي بيكتب مثلي أو بخطي، أنا بشوف إنت كتبت رواية طبعاً أنا عندي مفهوم للرواية آخر، ولو كتبت رواية بمفهومها وبمفهومك نفّذتها منيح عظيم، هيدا الاختلاف، كتب واحد قصيدة على عكس ما أنا بفكّر وعلى عكس ما أنا بدعي بس أعملها منيح أتقنها منيح أنا معه، إذن إنت بدك تتعامل مع النص من منطقه هوّ مش من منطقك إنت وإلا..

أحمد الزين: وإنت قادر تاخذ هالمسافة وتفصله يعني..

بول شاوول: وإلا بتكون إنت عم تلغي الآخر، لازم يكتب مثلك حتى تيعجبك، وذات الشي بالمسرح، تنقول أنا مع تولستوي مثلاً، أنا بحب المسرح الفقير المتقشف لكن إذا إجا محمد إدريس أو فاضل الجعيبي أو يعقوب الشبراوي..

أحمد الزين: اشتغل على الفضاء..

بول شاوول: عطا على الفضاء السنغرافي وهالإضاءة وهالتقنيات وظّفها وهو ممثل وظفن بطريقة رائعة جداً منروح منبوّسه، وبتلاقوه بالشبراوي بمسرحياته أحياناً عنده اتنين يعقوب، عنده هالشعرية البصرية وعنده الشغل على الممثل يعقوب، يعقوب من المخرجين القلال بالعالم العربي يلّي بيشتغل على الممثل.

أحمد الزين: ممتع أن يلتقي المرء بصديق من هذا النوع غني بمداركه، صريح بمواقفه، وجريء، ساخرٌ، حالم، يراكم نصه الإبداعي والنقدي في إطار تجربةٍ لها موقعها الخاص والمميّز وسوف نكمل التعرف على بعض نواحي هذه التجربة في حلقة قادمة

أحمد الزين: تعرف الناس حين تجالسهم، وتعرفهم أكثر حين تدخل منازلهم، وتعرف نفسك بصورة ما حين تعرف أفكارهم ومواقفهم، وحين تقرؤهم تنجلي بعض ملامح الصورة، في الحلقة السابقة تسكّع الكلام على رصيف هذا الشاعر وجرّنا طيف قديم إلى زوايا الألفة، ربما جرّنا الرصيف إلى مطارح لا يمكن أن تزدهر إلا إذا كان الهواء مشبعاً بنسائم الحرية، المقهى لا يحتمل البربرية، ليس له من مكان في أنظمة الرعب، والدالف إلى كرسي فيه يبحث دائماً عن وحدته وسط الجماعة ليقيم طقسه الخاص، هذا ملمح من ملامح سيرة بول شاوول الذي فاض في حكايته عن بيروت مدينة للاختلاف والتعدد وروى عن تكويناته الأولى وعن مواقفه وآرائه في السياسة والثقافة من موقعه النقدي، ونتابع معه نحو محطات من السيرة شاعراً وناقداً وكاتباً دراميّاً كتب للتلفزة وللمسرح.

من المخرجين اللي هيك يعني حسيت قراءته لشغلك لنصوصك أضافت شيئاً أعطته بُعداً آخر، قراءة جديدة أو..؟

بول شاوول: والله ليك هو فؤاد نعيم.

أحمد الزين: فؤاد نعيم بالحلبي..

بول شاوول: بالحلبي وبالمتمرد ونضال الأشقر كان بطلة المسرحيتين ورفيق علي أحمد، وفؤاد على راسه حديد جداً ودعاه فؤاد ما يكمّل مسرحه، من أنضر وأحدث الرموز.. المقاربات المسرحية عنده، عنده ثقافة لأن عنده ثقافة سينمائية، عنده ثقافة روائية وشعرية وهو شاعر وأدبية وإلى آخره.

أحمد الزين: وأنت كتبت أيضاً للتلفزيون طالما عم نذكر هالأشيا كتبت المسلسلات المهمة اللي بقيت بالذاكرة اللبنانية.. "السنوات الضائعة"؟

بول شاوول: إي ونساء عاشقات.

أحمد الزين: ونساء عاشقات.

بول شاوول: حلوين، وكان فيه حلم قلت لك ما كان فيه أديش بدكن تعطوني كانوا يعطونا مائتين ليرة يعني شو نحطّن بالقهوة..

أحمد الزين: بس كانت المتعة بالشغل.

بول شاوول: بس شو عم تشتغل من قلبك 10 ساعات و5 ساعات وبعدني فايق كيف كان يشتغل الله يرحمه سمير نصر، كان في..

أحمد الزين: فيه احترام.. فيه هاجس.

بول شاوول: وفيه إتقان.

أحمد الزين: وما حدا مستعجل على شي كان.

بول شاوول: إتقان حس الإتقان، هيدا بيروت كانت مشهورة فيه حتى بالبنايات حتى بالديكورات..

أحمد الزين: بالمقاهي بواجهات المحلات.

بول شاوول: هلأ بعدو اللبنانية في طبيعة العالم العربي الإتقان، ولكن بتعرف بيروت رُيّفت ولبنان كله رُيّف، متل ما الأنظمة الثورية العربية ريّفت المدن العربية، الميليشيات ريّفوا بيروت. بس يصير فيه ترييف بهالطريقة هاي..

أحمد الزين: بتفسد الأشياء.

بول شاوول: يضعف الإتقان.

أحمد الزين: كان يحس بأنه لن ينجو في النهاية، مع هذا نجا مرّات، مرّة من رصاصة طائشة اخترقت زجاج سيارته الأمامي بينما كان يقودها، وأخرى عندما سقط صاروخ في غرفة نومه بينما كان يحضّر القهوة في المطبخ، وأخرى عندما خُطف وأنقذه أحد طلابه القدامى قبل تصفيته بلحظات، مع هذا كان يحس بأنه لن ينجو في النهاية، ذات يوم وبينما كان يتمشّى في الشارع حصل شجار بين لحّام الحي وبين أحد المسلّحين بسبب كيلو كفتة، تطور الاشتباك بالأيدي، فبالأسنان، فبالنطح، فبالركل، فبتمزيق الثياب، فبالمسدسات، هو عندما أراد أن يبتعد عن مكان الشجار ويعبر إلى الرصيف الآخر اجتاحته سيارة مسرعة محمّلة بالبيض والدجاج لكن من دون أن تقضي عليه نجا أيضاً هذه المرّة، مع هذا كان يحسّ بأنه لن ينجو في النهاية.طيب بول ننتقل شوي كمان على النصوص اللي بتشتغلها اللي بتكتبها منلاحظ في بعض نصوصك هناك نوع من التهكم والسخرية، وبتقديرك هيّ يعني أحد أشكال التعبير عن عمق الألم اللي يعيشه بول شاؤول حيناً؟ هالنوع من الكتابة اللي فيها كتير تهكم.

بول شاوول: هو إذا بدك رأيي أنا بالآخر كل شي بعمقه تهكم، العمق بالعمق حتى الشعر الرصين بتلاقيه بعمقه..

أحمد الزين: فيه تهكم.

بول شاوول: فيه سخرية عظيمة للعالم، بتختلف اللغة بس هالسخرية مثلاً عندما كان.. سخرية هيك يومية.

أحمد الزين: بس كان فيه عين.

بول شاوول: فيه عين.

أحمد الزين: عين بتشاهد ساخرة وعم تشاهد الألم.

بول شاوول: أيوا بس كل ما عندي بكتاباتي قليل في سخرية مجّانية، يعني في سخرية هي رفض الواقع، بالعمق كل سخرية هي تمرد عالواقع، هي نقد الواقع.

أحمد الزين: وهي ربما تكون الأبلغ على التعليق.

بول شاوول: الأبلغ والأعمق الشاعر هو هالفضا المختلف..

أحمد الزين: في كل شيء.

بول شاوول: فيه القسوة، وفيه الحزن، وفيه اليأس، وفيه الإيمان، وفيه الموت، وفي السآلة، وفي الهضمنة، الشاعر هو هيدا ماشي نتاج كل هالجنون تبع المجتمع، والخوف، مثلاً أنا أعظم أبطال الحرب في لبنان اللي خافوا، بس خبّرني عن واحد خاف بحسّه شاعر.

أحمد الزين: رتابة الجدران في قيلولة ما بعد دفء الأسرّة المنبوشة، وأنت مصفّاة منك معادنك تستلقي معصوراً كحقول بعد الحصاد، وعندها تستلقي على أصابعك وعلى لين الجلد وفي النفس المستقر والشعر، ذُبالات لحظات من عبق جسد تمدّد كليلة سابقة في جوارك، وآه بعد الذبول كأن الأرق الصافي كأن من تلك اليقظات الخدرة ولا همسة حيّة أو تمتمة مرتبكة ولا عليك من هواء قريب ما ينسّم خفيفاً، حتى تستمرئ مجّ سيجارة طويلاً أن يتنازعك صمت الحجرة الضاربة في بلدتها، وذلك الفراغ الشاسع ولا ظل جناح يطرف فيه أو لكسور وجه أن تقطعه قطع اليد الماء أو التفاتة العينين على تلك المساحة الخافتة.بول كمان في مستوى آخر من شغلك خاصة بكتاب "كشهر طويل من العشق"، نلاحظ فيه اشتغال عالي على اللغة وفي.. كأنه فيه حفر لهذه اللغة، شو الهاجس اللي دفعك لتنحى هذا النحو يعني؟

بول شاوول: يعني "كشهر طويل" بحب أحكي اشتغلت على اللغة، بمعنى احتفالية باللغة على عكس "هواء الشاغر" وعلى عكس "أوراق الغيط"، وعلى عكس وحتى على عكس "بوصلة الدم"، تجربة من تجاربي هلأ وراي هيك صارت، إذاً أنا اشتغلت على النفحة التراثية وظّفتها توظيفاً بالتجربة اللي عشتها مع المرأة ومع الحروب..

أحمد الزين: ومع الأمكنة

بول شاوول: ومع الأمكنة، وهيدي تجربة تجريبية ما انتهت هلأ إلي ثلاث سنين عم حاول أكتب ما عم يطلع معي شي.

أحمد الزين: تبحث عن أخرى.

بول شاوول: أبحث عن تجربة جديدة، وإلا إذا بدي أعمل متل بعض الشعراء إلهن عشرين سنة بيكتبوا ذات القصيدة كان مفروض يكون عندي شي تلاتين أربعين ديوان.

أحمد الزين: أيضاً بول يستشف القارئ من كتاباتك الكثير من العزلة والوحشة والوحدة، هل هذا يعني نتيجة إحساسك أنت بهذه الوحشة بهذه الغربة؟

بول شاوول: اليوم كل واحد منا قدّام بمرحلة الحرب كان غريباً، وكان معزولاً، لأنه أنت إذا ما كنت طرفاً بالحرب كنت معزولاً عن عائلتك، وعن طائفتك، وعن بيئتك، وعن أمكنتك، إذا ما كنت شجاع تحمل المسدس وتقتل تنام، إذا ما كنت عميل!! في مرحلة إذا أنت مش عميل يعني غريب عن البلد إلى آخره، بس بدي حب قول أنا بالنسبة لي العزلة عزلة شروشها بالمجتمع..

أحمد الزين: هي دفاع عن النفس كانت.

بول شاوول: شروشها بالمجتمع أنا العزلة بالنسبة إلي للمظاهر السلبية في المجتمع الفساد والطائفية والمذهبية والعمالة والسرقة والنهب والقتل والعنف بهالمعنى إي، متل ما قلنا قبل شوي كانت الجامعة اللبنانية أمام المجتمع هلأ صارت وراه صارت بتشبهه، ما عاد في إلها دور يعني.. المثقفون اللبنانيون ياللي كانوا علمانيين وماركسيين وقوميين راحوا على طوائفن هودي ما عاد عندن غربة، راحوا على محل صاروا بيشبهوا المجتمع يعني ما عادش إلن دور صارت القبيلة.. الدور للقبيلة وللعائلة وللطائفة، بهالمعنى هيدا قطع الجذور أحياناً بيوصّلك على الحرية، ولكن قطع الجذور أحياناً بيؤلم بس يكون في كوليرا بالبلد بمدينة ما..

أحمد الزين: بدك تتخبّا.

بول شاوول: بتسكّر الأبواب لحتى ما تصير متل المجتمع.

أحمد الزين: قد لا تعثر عليه حين تدخل بيته لازدحامه بالأصدقاء والآباء والأحبة كلهم ناموا في الكتب بعد ليل طويل من المنادمة، تراه متماهياً مع رفوف الكتب أو في صور عُلّقت على الجدار أو خلف النافذة يتفقد المدى، أو على الشرفة يقلم غابته الصغيرة وشجره الشتوي العالي، أو على الطاولة يقيم بينه وبينها حوار الود، تصغي إلى هذيانات حبره ويعبق نسيم أنثوي في فضاءاته صاغه كتاباً وسمّاه: "كشهر طويل من العشق"، ثم طواه خلف كتاب آخر وانصرف ليعدّ فنجان قهوة لمرارات التبغ والأيام، ولصباحات جاءت بعد أرق طويل وسؤال مُضن عن الكتابة ربما، أو ربما الأرق نديم يد مهجورة أو شوق، في النهاية وإن خاصمته أو اختلفت معه حول شأن ما تجده دائماً كأنه بانتظارك وإن لم تأت.بول شاوول أنت في هالبيت واضح إنك بتعيش وحيد.

بول شاوول: الحمد لله.

أحمد الزين: هذا خيار؟

بول شاوول: طبعاً هو خيار بالآخر، يعني أنا بآخر 10 سنوات 12 سنة معلش قمت قصة الزواج من راسي، وحتى المساكنة أمتها من راسي، لأنه ما عاد فيني كتير أتحمل حضور آخر في البيت حتى العصفور كان على طول عندي عصفور بفيقني ما عاد جبت، ما عاد جبت العصفور لأنه كل ما سافر بيموت وكل ما أرجع مات أزعل، قلت بكفّيني ماتوا أهلي، كتير من أهلي ماتوا بيكفّيني موت الأهل ما عاد حطّيت عصافير، حتى بالجنينة اللي عندي كل هالسجر ما بيموتش تقريباً الصنوبر والكينا كلهن.. والزيتون كلهن تقريباً يمكن يشهدوا موتك وما بتشهد موتهن.

أحمد الزين: أنت بتخاف من الموت هيئتك بول؟

بول شاوول: والله مش مطروح عندي.

أحمد الزين: هذا السؤال؟

بول شاوول: مش مطروح عندي بس بخاف من الموت طبعاً بخاف من الموت، طبعاً لأنه ما تنسى إنه إحنا اختبرنا الموت ما إنّو أيها الموت أين أنت تعال؟ متل أيام الرومانتيكية. وبس بيجي الموت تحت الطاولة، نحن بنكون ماشيين، الموت بعد ما نفيق بالحرب بس غادر البيت هيدا أشيّعه أو أنا مش رح أرجع أو بدي أرجع ما ألاقيش، إذا الموت كان أنت بهاجسك اليومي وبس كان يصير قصف كنا متل الفئران، والشاعر فأر مَنّه نبي متل ما عم يدّعوا هودي النبوة، الناس شو النبوة هيدا بيضحّك صار متل أبو ملحم يعني، أنا تنبأت هذا واحد تنبأ بالـ 1948، هذا تنبأ بثورة الحجارة لأنه في بروايته بحصة أو حصاة، هذا تنبأ بالحرب اللبنانية لأنه في أم لهالمسرح مدري وين، هيدا مرض مجتمع بيتحكم فيه الغيوم.

[

أحمد الزين: كتب بول شاوول كثيراً وترجم الكثير من الفرنسية شعراً ومسرحاً وأدباً، وله في هذا المجال العديد من الأعمال والمؤلفات، عُرف لسنوات ولم يزل بنجم المهرجانات المسرحية ناقداً، فهو متابع لهذه الحركة حركة المسرح العربي واللبناني ومؤرّخ لها، وقد نال الجوائز العديدة ولم يغب عن دوره كناقد، صرف عمره ويزاول ذلك في الكتابة الأدبية والنقدية وعرفته الصحافة الثقافية اللبنانية والعربية مدير تحرير في أكثر من منبر، من الموقف العربي إلى مجلة المجلة وجريدة السفير والنهار وجريدة المستقبل، لكأنه في كل تجربته الأدبية يبحث عن شيء ما، عن نص يراوده ولا يعثر عليه فيحاوله، وربما هذه ميزته ككاتب لذلك في كل كتاب له تقرأ وجهاً آخر لبول شاوول لكن يبقى دائماً ما يدل على شخصية الكاتب وأسلوبه.

بول أنت ليش بتكتب؟ ولمين بتكتب؟ يعني هل الكتابة بالنسبة لإلك كشف؟ هي خلاص؟ هي بحث عن شيء؟

بول شاوول: ليش بكتب؟ ما بعرف ما حدا بيعرف، إيمان، الكتابة فوق اليأس، وفوق التفاؤل، وفوق الأمل، إيمان..

أحمد الزين: إيمان بالآتي من الأيام؟

بول شاوول: إيمان بالكتابة، إيمان بالكتابة يعني..

أحمد الزين: أن تفعل شيئاً؟

بول شاوول: أنا بعرف أكيد أن ما أكتبه لن يغيّر شيئاً في العالم، أنا أكيد. وأكيد إنّو مسرحية مين ما عملها ما حتغيّر حدا، بتعمل حالة عابرة، ولكن رغم هيك هي عظمة الكتابة، رغم هيك عندك إيمان فيها لأنها بلا جدوى، لأنها مجانية ومش مجانية يعني الفن للفن، لأ.. مجانية بمعنى إنّو أنت عم تكتب أشيا إلها علاقة بكل العالم وبحلمك بالتغيير وهيدا.. وأنت ما حتوصل لشي، هاي التراجيديا، كل كتابة تراجيدية شو البطل التراجيدي هو؟ كل كاتب هو بطل تراجيدي بمعنى إيم هول تبعون الالتزام والأحزاب والأنظمة شو بدي فيهن هول؟ ينقعوا حمص كلهن هدول، اللي عم قول أنا الكاتب اللي بيعرف إنه الكتابة لن تصل لن تغيّر شيئاً تماماً متل البطل الإغريقي ياللي بيواجه القدر وعارف بدو ينهزم بالآخر، إذاً كل كاتب..

أحمد الزين: بس الكتابة لا تؤسس للتغيير؟ يعني ما بتشكل حجر أساس أو حجر ثاني في الأساس أو يعني التراكم يللي فيها ما بيكوّن وعي للمجتمع؟

بول شاوول: يمكن..

أحمد الزين: بس أنت ما بتراهن على هالشي؟

بول شاوول: يمكن ولكن مش كتابة الشعر، ولا كتابة المسرح..

أحمد الزين: أنا عم بحكي عن الكتابة المطلقة.

بول شاوول: المطلقة لأنه هيّ منظومة.. جزء من كل شي يعني أما لأنه.. قرأت هديك النهار واحد شاعر كان ماركسي كان مناضل، قال: "كنا نريد أن نغير العالم فإذا بالعالم يغيرنا"، بدي أسألك سؤالاً أنا.. أنت ككاتب وروائي وموسيقي وإلى آخره كل هالكتابات اللي انكتبت آخر خمسين سنة، هل منعت الحروب؟ هل منعت المجازر؟ هل منعت الاستبداد والاستغلال وتجارة الرقيق واعتداء الدول على الدول والانتهاك والحروب والقتل والوحشية؟

أحمد الزين: أبداً.

بول شاوول: ولكن مع هيك البطل التراجيدي كناطح صخرة أحلى شي هيدي عظمة الكتابة، من هيك ما بتتوقف..

أحمد الزين: او كحامل صخرة.

بول شاوول: إيمان، أنا أؤمن بالكتابة..

أحمد الزين: كحامل صخرة.

بول شاوول: كحامل صخرة متل صديقنا شو اسمه؟

أحمد الزين: طيب شو علاقتك بالزمن؟

بول شاوول: أجمل شي إنه عم يمرّ بسرعة.

أحمد الزين: هلأ بلش يمر بسرعة ولاّ من زمان؟

بول شاوول: أجمل شي أنه مرّ بسرعة. وبتمنى أن يضاعف وتيرة سرعته.

أحمد الزين: يعني هالأبيض اللي غزا شعرك بيخلّيك تحسّ بوطأته أكتر؟

بول شاوول: ما عنده وطأة عليّ الزمن، عم يمر خفيف..

أحمد الزين: كما؟

بول شاوول: متل امرأة، متل نسمة، متل موكب جنائزي، متل عرس موكب عرس، الزمن أنت بيعبرك متل ما بيعبرك ضوء ما بتحس فيه، العكس الناس بيقولوا عندهن وطأة الزمن هو بيكون وطأة المكان بيقصد وطأة الزمن، الزمن شو الزمن؟ الزمن هو الأفكار، هو الحياة، هو المشاعر هذا هو الزمن، أنا بالنسبة إلي أجمل ما في الزمن إنه أحياناً أسبقه بس بفضّل إنه هو يسبقني، لأنه أنا بفضّل إني صدقني يا ريت يمر بسرعة.

أحمد الزين: هالساعات اللي عندك بالبيت معظمها معطلة واقفة من زمان واقفة هالساعات؟

بول شاوول: والله عندي منبهات وهذا منبه اثنين، ثلاثة، وعندي ست ساعات هونيك هودي الساعات أولاً كلن واقفين بلا بطاريات..

أحمد الزين: هودي ساعات بتطلع عليهن وساعات لأ.

بول شاوول: لأ ساعات بيتطلعوا هنن فيني وساعات لأ، هودي الساعات هن الحقيقة هدايا كلن من النساء.

أحمد الزين: وليش النساء بيهدوك ساعات؟

بول شاوول: والله ما بعرف أد ما أنا عندن ثقة فيي كانوا عندن ثقة بزمني.

أحمد الزين: يعني إذا في علاقة حميمة بحياتك خارج إطار المرأة، شو هي شو.. وين بتحس أكتر بالحميمية بهالأمكنة اللي عشت فيها وتنقلت فيها؟

بول شاوول: بيتي، اللي عايش فيه.

أحمد الزين: هذا ملجأك الأخير؟

بول شاوول: أنا بيتي القديم ما عدت حبّه، أنا بتعرف ضلّيت 15 سنة ممنوع روح على بيتي.

أحمد الزين: هذا من الحرب؟

بول شاوول: بالحرب، كنت ممنوع فوت عالمنطقة، لكن بس رحت وشفته كرهته، ما حبيته، كنت منتظر شوفه وشوف صورة بيي الله يرحمه وصورة أمي بعدو البيت موجود، وبعد فيني أنتقل عليه ما حبّيته، يبدو صار عندي سلبية ومش منيحة يعني على كل اللي حطّ على طفولتي بـ "أوراق الغائب" كاتب كلام.

أحمد الزين: يعني موجات الحنين اللي منشوفها أحياناً بالنصوص عندك بتتجلى وراء الأسطر هيدي.

بول شاوول: وراء الأسطر لبيتي القديم بسن الفيل مش بالمنصورية، بيتي القديم محل ما خلقت اللي صار فرمشية هلأ صيدلية، بتروح بتشتري فيه أدوية وإلى آخره، الحقيقة إنه أنا بهيدا البيت اللي عايش فيه هو الحنين اللي صار الأول والأخير متل ما بيقول:نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبّ

أحمد الزين: إن الحبيب..

بول شاوول: هيدا الحبيب الأخير يمكن.

أحمد الزين: يعني خبيت عمرك و..

بول شاوول: هون كل الآلام الكبيرة كل الأحزان، بيئة بحب البيئة اللي عشت فيها المكان اللي عشت فيه، الناس، أنا بصاحب الخضرجية، الدكنجية، بياع اليانصيب، الجرسونية إلى آخره، إذاً في شبكة علاقات إلى جانب هالبيت هيدا تقريباً أحياناً بيضلّ سنة ما بيفوت عليه حدا، أنا قاطع الجرس برّة قاطعه..

أحمد الزين: ما بيرن.

بول شاوول: ما بيرن.

أحمد الزين: وتلفونك ما بيرن؟

بول شاوول: من زمان.. من تلات سنين، وهداك..

أحمد الزين: هداك ما بتعرف تستعمله.

بول شاوول: ما بعرف أستعمله..

أحمد الزين: يس.[يضحك]

بول شاوول: بضرب هيدا بيقللي أنا من جمعة عم تلفننك يا خيي إلى آخره، هداك البيت يمكن لأنه مريت بهالتجارب بالمحيط سلبية بالمحيط اللي عشت فيه كان سلبي بالنسبة إلي، ما شعرت بأي حنين، وبيت كبير تلات طوابق فيني أقعد فيه كله أنا.

أحمد الزين: يعني الإيمان اللي بتتحدث عنه هو فينا نسميه نوع من الحنين للمستقبل؟

بول شاوول: نوع.. الحنين للمستقبل يعني هو نوع من السير نحو المستقبل، نحن عم نسير بدون حنين عم نكتب هلأ.. إيماننا بالكتابة هو إيمان بالمستقبل كمان لا تنسى، إيمان بالناس بجيل جديد، الجيل الجديد هو اللي بيصنع المستقبل، بس حس أنا إنه هذا الجيل الجديد مش مأسس منيح بحس حالي إني عم موت قبل بوقتي.

أحمد الزين: كُثر اتفقوا معه، وكُثر اختلفوا، ولكن حضوره في المنبر الثقافي والسجالي هو نقطة اللقاء، وهذا الحضور راكَم على مدار السنوات تجربة متنوّعة في الكتابة الإبداعية والنقدية والترجمة، بول شاوول صديق الأمكنة يجاور العزلة ويحاور الأمل وكما يقول يكتب لأنه يؤمن بالكتابة ويؤمن ببيروت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق