2006-01-26

روافد مع الكاتب محمد جابر الأنصاري

إعداد وتقديم

أحمد الزين: ثانية إلى البحرين والغرض هو لقاء مع هذا الرجل للتعرف على بعض قراءته أو تشخيصاته للأعطاب التي أدت إلى ما يعيشه العالم العربي هذا اليوم، الدكتور محمد جابر الأنصاري كان في همكة الإنتقال إلى بيته الجديد في البحرين، يبدو مزهواً على قدر من العقلانية بعمارته الجديدة بمقدار زهوه أحياناً أمام عمارات من نوع آخر عمارات فكرية راكم بنيانها سنة بعد سنة، وكلها تصب في هاجس البحث عن مخارج ومسالك لتحديث المجتمع ولتحديث أو تجديد القراءات للنص التراثي للوصول إلى بناء الدولة المدنية المعاصرة وتركيزها كبناء راسخ مطمئن.

الأمم تمر بمراحل مختلفة، وصحيح أن هذه المراحل تكون قاسية وأبرياء كثيرون يدفعون الثمن، ولكن الأمم تكتشف في النهاية بعد النضج أن هذه الصراعات وهذه الفتن وهذه الحروب الأهلية غير مجدية وتعود إلى الحل الأمثل إلى التعايش بين الجميع إلى الحل المتقدم، لكن بدون شك يعني هذا لا يمكن الوصول إليه جماعياً كأمة ألا بعد مرحلة طويلة من التجربة محمد جابر الأنصاري

كثيرة هي الأسئلة التي يمكن أن يطرحها المرء على مشتغلٍ بالفكر، وأيضاً هو لديه الكثير من الأسئلة بخاصة في هذه الفترة من التاريخ حيث ليس في عالمنا من حجر في زاويته الصحيحة والبناء كله معرض للسقوط والإنهيار. كثيرة هي الأسئلة التي تشغل بال الناس جميعاً وتؤرق أكثر بل المنتبهين إلى حركة التاريخ.

تُرى هل بدأنا الدخول في نفق لأن أحداً لم يستدرك الوصول إلى الهاوية؟ فأين الخطأ؟ وهذا سؤال للدكتور الأنصاري، وأين العطب؟ وما الذي يمكن أن يفعله المثقف والمفكر الحر في مواجهة جحافل الظلام؟

أحمد الزين: دكتور نحن اليوم على نهاية الشهر الأول من عام 2007.

محمد جابر الأنصاري: نعم.

أحمد الزين: تقريباً نعم، وكأننا نعيش على مشارف القرون الوسطى نسبة لأوروبا إذا جاز التعبير يعني، يعني هناك اصطفافات للأسف مذهبية وطائفية وهناك تقطيع رؤوس ومآسي هنا وهناك، هل هذا انتحار؟

محمد جابر الأنصاري: لا أنا رأي أن هذا ليس انتحاراً أنا رأيي أن هذه مرحلة انتقالية تاريخية لا بد منها، مثل الإنسان الفردي يمر بمراحل العمر المختلفة فالأمم تمر بمراحل مختلفة، وصحيح أن هذه المراحل تكون قاسية وأبرياء كثيرون يدفعون الثمن، والصراعات تحتدم في فترة من التاريخ، ولكن الأمم تكتشف في النهاية بعد النضج أن هذه الصراعات وهذه الفتن وهذه الحروب الأهلية غير مجدية وتعود إلى الحل الأمثل إلى التعايش بين الجميع إلى الحل المتقدم، لكن بدون شك يعني هذا لا يمكن الوصول إليه جماعياً كأمة ألا بعد مرحلة طويلة من التجربة.

أحمد الزين: هذه التجربة التي تتحدث عنها بتقديرك نحن عم نقول 2007 يعني ما تأخرنا شوي يعني عن الركب عن الركب الإنساني العام بالعالم؟

محمد جابر الأنصاري: يعني بدون شك فيه تقدم عند الأمم الأخرى بس إحنا بدأنا بداية متواضعة وبداية متأخرة يمكن، يعني النهضة العربية يعني اللي نسميها النهضة العربية كم عمرها؟ عمرها أقل من مائتين سنة، بينما النهضة الأوروبية عمرها قرون طويلة مثلاً، يعني اللي حصل إن أوروبا حققت نقلة تاريخية وأمم الشرق الصين، اليابان، الهند أيضاً حققت نقلة تاريخية..

أحمد الزين: تشير لها كثيراً بكتاباتك هيدي..

محمد جابر الأنصاري: ممكن أن نعود إليها وهي تقدم دروساً مهمة جداً..

أحمد الزين: ولكن لن نستفيد منها..

محمد جابر الأنصاري: ما أظن استوعبنا كافة الدروس، لكن أن هناك أمم شرقية استطاعت أن تغير واقعها وأن تتطور نحو الأحسن، يعني الوضع ليس ميؤساً منه، لكن لا بد من فهم طبيعة هذه المراحل، وهنا نعود إلى مسألة الفهم وإلى التشخيص العلمي، يعني مثلاً نحن مهممون كثيراً بظاهرة الإرهاب.

أحمد الزين: تشخيص التشخيص العلمي لماذا؟ يعني يبدو فيه جسد معطوب يعني هناك حالة مرضية مستعصية إلى حد مافيه عطب ، ما هو العطب تحدثت عن النهضة أن عمرها 200 سنة ولكن العرب والإسلام كانوا سابقاً حققوا نوع من النهضة خاصة في العصر العباسي وانقطعوا، يعني لا بد من عطب ما في ربما في الفكر التراثي ربما في النصوص.

محمد جابر الأنصاري: هو أولاً التشخيص العلمي المطلوب للواقع المجتمعي لأن الوقائع.. إهمال الوقائع الاجتماعية وهذا تكرر في التجارب الأيدلوجية السابقة يعني رفعت شعارات ولم تراع في ذلك الواقع المجتمعي خصوصيات التضاريس اللي تقف عليها، يجب أن نفهم التضاريس التي نقف عليها مجتمعياً لأن هذه التضاريس تعود فتفرز نفسها مرة أخرى، يعني الآن التغيير الذي حدث في العراق مثلاً بعد الغزو الأميركي وتغيير النظام يعني المشكلة الأساسية أن هذه التضاريس رجعت وتفرض نفسها في حومة الصراع، فيعني يجب على الأقل فهم الأمور هذه وتوقعها، وأنا في تكوين العرب السياسي أشرت إلى أن يعني إسقاط الدولة أياً كانت مسألة خطيرة جداً، المؤسسات الضابطة للمجتمع إذا تم تجاوزها يحدث هذا الإنفلات وتحدث هذه الحرب الأهلية، لا بد من لملمة هذه المكونات والجزئيات، وأنا لي رأي أن الدولة العربية القائمة التي تنال الكثير من النقد في الوقت الحاضر، وأنا أعترف أنه لا يمكن الدفاع عنها ولا بد من إصلاحها لكن وجودها ضروري، ضروري لدرء الفتنة لدرء الحرب الأهلية وعلى أساس أن تُطور تدريجياً، بشرط أول شرط أن تطور نفسها نحو الإصلاح والعدالة والحرية، ولكنها تضبط الإنفلات وتضبط التيارات المتصارعة فيما بينها.

أحمد الزين: طيب، دكتور تحدثت عن العراق برأيك وأنت أشرت إلى ذلك في كتابك ربما أحداً لم يقرأ كتابك، ولكن درس العراق أتصور واضح للجميع، هل تظن أنه أحد استفاد من هذا الدرس ؟

محمد جابر الأنصاري: هذا الذي أرجوه إلى الآن لم تحدث هذه الاستفادة، يعني مررنا في العقود الأخيرة عربياً بظواهر لإنهيار الدولة أو لتفكيكها أو لإضعافها أو لتقليصها، مؤخراً حصل في العراق كما نشير وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة 15 سنة أيضاً تم تفكيك الدولة، وأرجو ألا ينساق اللبنانيون الآن إلى تفكيك الدولة مرة أخرى وإضعافها فوجودها شي ضروري، وفي الصومال على الأطراف العربية أيضاً انهارت الدولة ويعني شهدنا حرباً أهلية وشهدنا تدخلاً خارجياً لضبط الأمور، ويعني تفكيك الدولة أو انهيار الدولة يتيح المجال دائماً لقوى خارجية أن تتدخل وتفرض إدارتها فأرجو أن ننتبه لذلك.

أحمد الزين: بالسياق ذاته اعتاد الكثيرين من العرب اعتدنا دائماً أن نرمي مسؤولية فشلنا وهزائمنا وتخلفنا على الآخر، هناك نظرية المؤامرة التي أنت تتحدث عنها أيضاً أظن في نفس الكتاب، بتقديرك يعني هذه النظرية هي ربما يكون صحيح أنه فيه أحد ما يستفيد من هذا الوضع، ولكن نحن ألم نتحمل مسؤولية كنظام عربي عام وكالأفراد كمثقفين؟

محمد جابر الأنصاري: يعني مثل ما تفضلت أنه هناك قوى دائماً موجودة قوى طامعة وحتماً تحاول الإستفادة، وأرجو أن يكون واضحاً في وعينا أنه لا توجد قوى متقشفة في العالم لا توجد قوى زاهدة، كل القوى عبر التاريخ وإلى يومنا هذا هي قوى طامعة، وكون إلقاء اللوم كله على القوى الطامعة هذا تحصيل حاصل، يعني مثل ما نحن أنا نعقد مؤتمر فكري خطير ونتوصل أن الدولة الفلانية دولة أمبريالية، مهي دولة أمبريالية بطبيعتها وفسر الماء بعد الجهد بالماء، السؤال اللي أنت بعد أن تدرك وحيث يجب أن تدرك أن هذه دولة طامعة ودولة إمبريالية، فماذا لديك من وسائل المقاومة والمواجهة والتعامل لكي تواجهها؟ فبدون شك هناك يعني إحنا عندنا أيضاً من نواقص العقل العربي ربما ونواقص الشخصية العربية التهرب من العيوب الذاتية.

أحمد الزين: إذن قد يكون الخلل كما يصفه الدكتور الأنصاري وكما يشخصّه في مكونات الشخصية العربية التي تتهرب غالباً من عيوبها بمعنى أنها تؤجل نقد الذات وتؤجل إعادة قراءة التكوين الثقافي بمنظور علمي، لذلك هي عاطفية غالباً وانفعالية حتى في اتخاذ قرارات مصيرية أحياناً، فما هو سبب غلبة العاطفة وغياب العقل؟ هناك من يعيد المشكلة إلى القبلية المتأصلة في مجتمعاتنا، وهناك من يعيدها إلى الفكر الديني الذي لم يتعامل معه المفكرون كنص تاريخي لا بد من إعادة التعمن فيه والتعامل معه، فثانية ما هو الخلل وما هو الخطأ؟

محمد جابر الأنصاري: المشروع التاريخي للإسلام هو مشروع حضري أي بناء المدينة اللي في العربية القديمة كانت تسمى قرى والمعني بها المقصود بها مركز الاستقرار الحضري مركز القرار الحضري، فمكة المكرمة أم القرى بمعنى أنها مركز القرار الحضري لأن الحياة في الجزيرة العربية مثلاً بداية كانت إما قرار أو تنقل تحول، فالتحول هي الحياة الرعوية والقرار هي التحضر، فالإسلام مشروعه الأصلي هو التحضر، وهناك يعني فيه شي واضح الذي يمكن أن نطلقه عليه فقه البداوة والحضارة هذا للأسف اختفى بعد وقت قصير جداً من صدر الإسلام وتنوسي ولم يُعمل به، لكنه فقه مهم وواضح في القرآن الكريم في السنة النبوية في ممارسات الصحابة، يعني كان واضح وكان كبار الصحابة يتعوذون إلى الله من التعرب بعد الهجرة بعد التمدن بعد التحضر العودة إلى الحالة الأعرابية.

أحمد الزين: هلأ يبدو أنا عدنا إلى التعرب.

محمد جابر الأنصاري: يعني يبدو من المدينة العربية المعاصرة فيها الكثير من روح القبيلة بدون شك وفيها الكثير من روح العائلة، ويعني المطلوب هو بناء مجتمع مدني متحضر بالتنمية طويلة الأمد التنمية طويلة الأمد هذه نقطة مهمة لا توجد حلول سحرية عاجلة بدها وقت.

أحمد الزين: طيب دكتور تقول في مكان ما من أعمالك أو من كتاباتك، ارتكبت مختلف تيارات الحداثة العربية من ناصرية وبعثية وقومية ويسارية وربما ليبرالية أحياناً أخطاء أدت إلى النتيجة التي نعيشها اليوم، شو هي الأخطاء اللي ارتكبتها؟

محمد جابر الأنصاري: فيه خطأين كبيرين أنها لم.. يعني أهملت الإمكانات العظيمة الموجودة في التجديد في الإسلام كان يجب أن تهتم بالتجديد في الإسلام لأنه أي تجديد أي تحديث لا يُبنى على ضمائر الناس وعلى قناعاتهم ينتهي كشيء قشوري عابر، فلا بد كان يجب أن تلتفت إلى التجديد في الإسلام وأنا أعتقد أن هذه الإمكانية التاريخية المهمة أو يمكن الخيار المطروح أمامنا اليوم لأننا حاولنا التحديث بدون الإسلام وحاولنا التقدم بإسلام تاريخي ماضوي فلم ننجح في هذا ولم ننجح في ذلك، فإذاً نحن محكومون بأن نشق طريقنا نحو التجديد في الإسلام، الخطأ الثاني أنه لم يعني دعوات الحداثة لن تدرك ماهية الحداثة، يعني كانت متسرعة ومتعجلة في الدعوة إلى الحداثة، الحداثة أيضاً مشروع تاريخي ولا بد منها، يعني لا بد من التحديث بتجديد إسلامي كما في اليابان حصل تحديث بصيغة يابانية خاصة باليابان، وفي الصين حدث تحديث بصيغة صينية خاصة بالصين، وفي الهند جرى التحديث بصيغة هندية وقس على كذلك.

أحمد الزين: هذه الحداثات التي تتحدث عنها هنا وهناك في الصين وفي اليابان وفي الهند هي أخذت بعين الاعتبار يعني الدين كعامل أساسي في التطوير.

محمد جابر الأنصاري: يعني مش بالضرورة الدين تحديداً ولكن الشخصية القومية، الثقافة القومية، البيئة التي ورثتها الأمة، فتجديد البيئة هذه مع استيعاب الحداثة.

أحمد الزين: تشخيصي لوضع العالم العربي اليوم إنها مرحلة تحول تاريخي طويل وصعب لا يجري في الماضي كما في ماضي أمم أخرى، لكنه يجري في الحاضر وتحت عدسات المصورين ومراسلي وكالات الأنباء الذين يصورونه من زاويتهم يصورون أنباء جديدة يبثونها للعالم وتحت بصره وبما يوافق أو يخالف أهواء مجتمعه الدولي وأطماع قواه، إن انعطافنا التاريخي لا يحدث في زاوية منعزلة من العالم وفي زمن منسي من أزمانه بل يجري في قلبه وفي اللحظة الراهنة بكل أضوائها، ونحن جيلنا هذا يقاسي ويعاني ما يحدث فوق صفيح ساخن ولا بد من الاحتراق ولا مهرب من ذلك، قدر الأغلبية العربية أن تحترق فوق هذا الصفيح الساخن دون ترف المراقبة الهادئة من الأبراج الجامعية، لكنها مهمة في حالتنا ولا بد منها كي لا نغرق نهائياً في موجات الانفعال ويجرفنا التيار إلى لجة البحر الهائج.طيب أيضاً في السياق تقول في مكان أخر المخيف أننا عرباً ومسلمين ينتابنا شعور قاتل لأننا مختلفون عن بقية خلق الله، لماذا؟ - الكلام لك - لا أدري تقول، ويقوي هذا الشعور الهدام لدينا عدد كبير من الوعاظ والكتبة وأمثالهم ممن تأسست ثقافتهم في الظلام وراء الأبواب المغلقة فتوهموا أنهم وحدهم في هذا العالم الفسيح، تقديرك هذا نتائج عن انعدام ثقافة المقاربة أو المقارنة أو عدم فهم الآخر؟

محمد جابر الأنصاري: هو أساس الشيء الوهم بأننا متفوقون على الآخرين، متفوقون تفوق حاسم على الآخرين فيما نعتقد وفيما أنجزناه يعني الشعور بالتفوق أو وهم التفوق.

أحمد الزين: طيب دكتور ماذا يعني أن يكون المرء مفكراً يشتغل بقضايا الفكر ويتناول قضايا الإسلام والتراث الديني أحياناً وهو محاصر برقابتين دينية ودنيوية؟ كيف عليه أن يشير إلى خلل ما أو ينفذ إلى قراءة أو رؤية ما بعيداً عن هاجس التكفير أو التحريم وربما تحليل الدم والقتل؟

محمد جابر الأنصاري: يعني أنا أعتقد أن هذه المهمة صعبة وكل كاتب يواجه التحدي بطريقته، يعني أنا أكتب من ثلاثين أربعين سنة تقريباً واكتشفت أنه حتى أوصل الفكرة إلى القارئ لا بد أن استخدم لغة هادئة جداً وألمح عندما لا أستطيع التصريح، وأشبّه الكاتب أنه سائق شاحنة ضخمة ولازم يدخلها في الأزقة الضيقة حتى يوصلها إلى الناس حتى البضائع توصل للناس، ويدخل الشاحنة في الأزقة هذه بدون ما يدوس أو بدون ما يطئ دجاجة من دجاجات الحي، أو يدوس على رجل الناطور اللي في الحي أو أو.. يعني الدكتور غازي القصيبي لما كتب عن كتاباته قال: إن الكتابة تذكره بالهواء النقي في عمليات الجراحة الهواء المنقى في غرف العمليات الجراحية، يعني أنه أكثر من اللازم، بس لأ لازم إذا أردت أن توصل فكرتك يعني تصرح بقدر ما تستطيع التصريح ثم تلمح بقدر ما يسمح التلميح ثم تسكت عندما يدرك شهرزاد الصباح.

أحمد الزين: بتقدريك يعني ألا يستدعي الوضع أحياناً نوع من الجرأة والبوح مهما كان الثمن طبعاً لا أدعو أحد أن ينتحر أو يقتل نفسه ولكن..

محمد جابر الأنصاري: لأ هو الجرأة مطلوبة والمصارحة مطلوبة بس المصارحة كيف تكون؟ يعني ما هو أسلوب المصارحة؟ يعني ممكن أنا أصارحك بلغة جارحة وممكن أصارحك بلغة هادئة وأوصل ألك الرسالة اللي أريدها، بعدين فيه شغلة هنا من أفكار المفكرين والمثقفين أنه أنا لما أعود إلى تاريخ النهضة العربية إلى اليوم وأقرأ في النصوص أرى أفكاراً متقدمة جداً عُبر عنها وهي الآن حبيسة الكتب، وهذا يعني.. أيضاً كانوا أجرأ والظروف سمحت لهم بتلك الجرأة، ولو نحن نقول عن هيمنة خارجية بس الهيمنة كان عندها مقاييس حضارية مختلفة عن المقاييس التي نعيشها الآن المحلية، يعني فهي عندها أطماعها وعندها ضغوطها وعندها كذا ولكن عندها هامش أيضاً، فضمن هالهامش نمت هذه البذور اللي نتكلم عنها واللي نسميها النهضة العربية الحديثة، ولهذا أقول التجديد في الإسلام لأن القوى الفاعلة الحية يعني لديها وازع ديني لكن باسم تجديد الإسلام، التجديد وليس يعني التفسير الماضوي التقريبي.

أحمد الزين: لا يمكن تجاوز الإسلام والبناء عليه..

محمد جابر الأنصاري: لا أعتقد إلغائها نهائياً لا أعتقد.

أحمد الزين: تجاوزه مش كدين كإيمكن لأ، تجاوزه لبناء المجتمع وفق أفكار أخرى يعني.

محمد جابر الأنصاري: كما نعلم أوروبا تطورت عبر تطوير النظام الديني عندها..

أحمد الزين: والصورة فصلت الدين عن الدولة.

محمد جابر الأنصاري: من النقاط المهمة..

أحمد الزين: بتقدريك ممكن نوصل لهالمرحلة نحنا؟

محمد جابر الأنصاري: والله أعتقد الإسلام فيه بذور للتمييز يعني للتمييز بين الدين وبين الدنيوي سواء من سلوك الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الممارسات الأخرى في تاريخ الحضارة الإسلامية وعند المفكرين، يعني أنا لاحظت اهتميت بابن خلدون فيه عنده تمييز واضح مثلاً وذاك الوقت كتب هو بدون أي تأثير علماني، لما يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ليعلمنا..

أحمد الزين: تدعو إلى الخلدونية بكتابك الجديد..

محمد جابر الأنصاري: وادعوا إلى الخلدونية يقول أنه جاء لتعلمينا من الشرائع ولم يأت لتعليمنا الطب وغيره، يعني الذين يتحدثون عن طب نبوي أو طب تقليدي أو ما إلى ذلك، يعني أن الإسلام والدين جاءنا بشرائع ولم يأتنا ولم يأت لتعليمنا العاديات نستخدم كلمة العاديات الأمور العادية في الحياة، فهذا التمييز الذي طرحه ابن خلدون في نصف صفحة عندما عرف الطب في مقدمته، يعني أي تأثير علماني جاءه ولا يجب أن ننسى أن ابن خلدون كان عالم من علماء الحديث النبوي وكان قاضي القضاة في مصر وليس فقط مفكر، أنا أعتقد أن الخلدونية مهمة ليس فقط للتعرف إلى تراث مفكر عربي، ولكن مقدمة ابن خلدون فيها الكثير من العقلانية، يعني أنه عالج ظواهر التاريخ والمجتمع بشي من العقلانية ومنهجه في فهم التاريخ منهج مهم ونحن نحتاج إليه، يعني إذا فهمنا تاريخنا بمنهج ابن خلدون نستطيع أن نفهم حركة العالم المعاصر اليوم اللي لم نفهما بعد بالشكل المطلوب، ليش؟ لأن القوانين وحده والسنن وحدها والتي هي السنن الإلهية سواء كانت تحرك الماضي أو تؤثر في المستقبل وفي الحاضر وأنا لا أركز على مقدمة ابن خلدون فقط، يعني لدينا في العربية رصيد هائل من النثر العقلي من قراءات النثر العقلي الذي لا ندرسه في مدارسنا، ابتداء من كتابات الجاحظ وابن رشد يعني هذا النثر العقلي لا يُعلم في المدارس وإنما نركز على الشعر فقط وأردء الشعر أيضاً النماذج الغزلية والنماذج الوصفية.. فأنا أرى أن نهضتنا تأسست على ثقافة شعر، يعني يقال أن الشعر ديوان العرب لكن النثر هو ديوان العالم اليوم النثر العقلي هو ديوان العالم وأنا لست ضد الشعر ولا أطالب بإلغاء الشعر، الشعر حاجة إنسانية مهمة وفي الثقافة العربية بالذات، لكن علينا أن لا نتعامل مع واقع العالم شعراً، لأنه اللي حاصل اليوم أننا نتعامل مع واقع العالم شعراً أي نتعامل انفعالياً وعاطفياً فقط ودون تحليل فهذا يؤدي إلى الكوارث.لماذا نتحدث عن أمتلاكنا لأفضل المبادئ ونحن مستمرون في أسوء الأوضاع؟ إن فكرنا وخطابنا العام مازال معتمداً على الشعارات المجردة واليوتبيات سواء كانت عصرية أم ماضوية مع غفلة تامة عن الواقع المجتمعي أو ما يمكن أن نسميه القاع السسيولوجي الذي يفاجئنا بانفجار عصبياته وتعصباته لدى أي انعطاف، ما لم يتطور المجتمع إلى مجتمع مدني حديث للتعليم والتنمية ضمن مشروع إصلاحي شامل وطويل الأمد فستبقى هذه المواريث الاجتماعية المتخلفة متحكمة في مستقبلنا لدى أي انعطاف ولن تسمح بالتحديث والديمقراطية المنشودة، وسيعيد التخلف إنتاج ذاته إلى ما لا نهاية، مطلوب فكر اجتماعي يرى الأزمة في جذورها ولا داعي للتخوف من العلوم الاجتماعية والإنسانية في مناهجنا التربوية وخطابنا العام وثقافتنا، ذلك أن غيابها بمعناها النقدي من أخطر أسباب هذا الخلل المصيري.

أحمد الزين: تشخيصي للواقع الراهن يتعدى التفاؤل والتشاؤم، أعتقد أننا نمر بمرحلة تطور تاريخي لا بد منها، وقد أجلنا بعض متطلباته فنحن ندفع فواتير التاريخ المؤجلة كتصحيح عملية إقامة الدولة، وبالمناسبة فمؤسسة الدولة لا بد منها كما يتضح من وضع العراق والصومال بين أمثلة أخرى، ولا يمكن إقامة الديمقراطية إلا في إطار الدولة المتطورة وليس في الفراغ، فالديمقراطية لا يمكن أن تنمو في رحم دولة مضعضعة، وبطبيعة الحال فالتطور التاريخي كالعملية الجراحية المؤلمة يجرح ويدمي الكثير من الخلايا والأنسجة وهذا لا مفر منه للأسف في أي عملية للتطور التاريخي الذي علينا أن ندرك مغزاه ولا نعاكسه لأنه سيجرفنا إن عاكسناه. هكذا يرى الدكتور محمد جابر الأنصاري إلى الراهن وإلى ملامح الآتي من الأيام، كان هذا جوهر ما ورد في الحلقة السابقة، ونتابع معه في حلقتنا هذه بعض الأسئلة لنتعرف على جوانب أخرى من آرائه ومن حياته. طيب دكتور تشير هيك إلى هزيمة 1967 في أكثر من كتاب إنها هي بداية الهزيمة يمكن لمشروع عقلي أو لمشروع تنموي نهضوي تنويري، هل تعتقد أن بذور التأسيس للأصوليات التي نشهدها اليوم يعني كانت أحد أسباب ظهورها هي هزيمة 1967؟

محمد جابر الأنصاري: يعني هزيمة 1967 كانت ضربة قاصمة في الواقع وبدون شك القوى الخارجية لها دور هنا، لكن يجب أن تتحسب لمثل هذه القوة، أن القوى الفلانية الأجنبية أجهضت مشروعنا، طيب هي ستجهض مشروعنا وكان علينا أن نتحسب لذلك وأن نتخذ جميع الاحتياطات لحماية مشروعنا لأنه هو مشروعنا ولن يرحمنا أحد إذا مشينا فيه، ومن تجارب الأمم الشرقية الأخرى يعني تعرضوا لهجوم وتعرضوا لضرب، يعني لا ننسى أن اليابان تعرضت لضربة نووية قاصمة سنة 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية، وطلعت منها وقياساً منها بكل الضرب اللي حصل في المنطقة العربية الضربة النووية أقسى، ولكن استطاعت اليابان أن تخرج منها ولم تبالغ وسكتت عنها.

أحمد الزين: ألمانيا دمرت نهائياً؟

محمد جابر الأنصاري: كما تعلم مثلاً وأيضاً نهضت منه، فيعني التحجج بأننا نحن نضرب ويُتآمر علينا هذا شيء مفهوم ومفروغ منه يعني، فأنت كيف تتحسب لهذه الأشياء؟ أما أنك يعني تقول أن هذا الذي أدى إلى هذه النتائج وخلص وتسكت أو تلقي اللوم على الأمور هذه..

أحمد الزين: طيب يعني النظام العربي هو بتقديرك ما بيتحمل المسؤولية بشكل مباشر أو غير مباشر عن تفشي الظواهر الأصولية؟

محمد جابر الأنصاري: أنا أعتقد أن النظام العربي أولاً يعني القرارات اللي اتخذت يعني قرارات فردية فوقية أدت إلى هذه الكوارث، بعدين يعني حتى الذين يتحدثون عن التغيير وعن الثورة لم يواجهوا يعني الأمور اللي كان يجب أن تُعالج بشكل جريء وبشكل جذري بالطريقة التي كان يجب أن يعالجوا بها، يعني تهربوا منها وسكتوا عنها فتراكمت وعادت يعني.

أحمد الزين: صحيح نعم، طيب بتعتقد إنو هلأ النظام العربي بشكل عام أمام فرصة أخيرة يعني للنجاة مش إنو يعني النجاة بوضعه الحالي فقط إنه عليه الإمعان ببعض الإصلاحات على مستوى العدالة الحرية العدالة الاجتماعية تحديداً وإلا يمكن السفينة سوف تغرق بالجميع يعني؟

محمد جابر الأنصاري: صحيح، أنا أعتقد أن الفرصة التاريخية الوحيدة الممكنة هو إصلاح الدولة وإصلاح النظم بمشروع إصلاحي حقيقي، يعني هذا شيء أساسي لأن استمرار الفساد سيؤدي إلى الانهيارات، وهناك نقطة مهمة أن يعني الثورات اللي حدثت في التاريخ العربي المعاصر يعني جاءت بعد.. جاءت بديلاً عن نظم يعني كان أدائها جيد في البداية ولكنها لم تستطع إصلاح نفسها في اللحظة المناسبة، فعجزها عن إصلاح نفسها وعدم محافظتها على أمانة الحكم أدى إلى ظهور مغامرين آخرين سواءً عسكر أو أصوليين أو أصوليات أو اللي يكون، يعني أن تسمح لنظامك بالفساد واستمرار الفساد هذا ينخره من الداخل ويتيح للآخرين يعني المغامرين بالذات والطامحين القفز عليه وإسقاطه فكانت خسارة الحقيقة.

أحمد الزين: يعني طالما عم نحكي عن إصلاح البحرين منذ فترة مش بعيدة كثير يعني شهدت عملية إصلاح ما يعني نوع من التجربة الديمقراطية عبر الانتخابات، أنت كيف بتشوف هذه التجربة؟

محمد جابر الأنصاري: نعم يعني أنا أعتقد أن المشروع الإصلاحي لجلالة الملك يعني مشروع مهم وغيّر وجه الحياة في البحرين، وأعتقد أن هذا هو المنطلق للعمل الوطني للمشروع الوطني، يعني المشروع الإصلاحي وأعتقد أنه هو مشروع إصلاحي شامل ولكن يتطلب وقت في بعض جوانبه يتطلب وقت حتى يعني يأتي بثمره المنشود المطلوب، يعني لكنه جذري وشامل وعلينا أن نساهم فيه، يعني المواطن البحريني مدعو إلى المساهمة فيه لأنه هو ليس مشروع فرد وليس مشروعاً فوقياً ولكنه مشروع لإصلاح الحياة العامة، وفيه ملامح كثيرة أدت إلى الإصلاح وتبقى ملامح أخرى بحاجة إلى وقت آخر لأن تتحقق يعني.

أحمد الزين: طيب دكتور هناك من يقول أنه يعني هذا النوع من الديمقراطيات في العالم العربي حديثة العهد، يعني تجارب قد يعني تفسح في مجال الوصول والانضمام إلى السلطة إلى الحكم كما حدث في فلسطين مع حماس، يعني هيدي ذريعة بتقديرك لعدم الخوض في هذه التجربة لدى بعض الأنظمة؟

محمد جابر الأنصاري: يعني أولاً من الناحية الفكرية إن الديمقراطية لا يمكن أن تأتي مكتملة بشكل مفاجئ، يعني إذا غُيّر النظام وخصوصاً إذا كان نظام دكتاتوري أو استبدادي أو سلطوي فيعني المطلوب أن تتاح الفرصة للديمقراطية أن تنمو بشكل متدرج، ولا بد في هذه الحالة من سلطة مخلصة يعني تشرف على تطوير العمل الديمقراطي، يعني كما حدث مثلاً في تجربة الملكية الدستورية البريطانية، يعني صار تدرج رغم المشاكل ورغم الثورات ورغم الصراعات لكن صار تدرج في الديمقراطية، فلا يمكن تصور أن ديمقراطية تقوم فجأة وخصوصاً كما أشرت بعد حكم استبدادي، يعني الديمقراطية يجب أن تأخذ وقتها وتتدرج من الأهم إلى المهم إلى أن تكتمل، واكتمالها يحتاج إلى قرون أحياناً يعني كما نرى نحن التجارب الديمقراطية العريقة يعني إلى اليوم هناك مشاكل وخلل ومتطلبات للإصلاح، فالديمقراطية عملية مستمرة..

أحمد الزين: يعني هي سلوك ثقافي وتجربة تاريخ يعني..

محمد جابر الأنصاري: نعم ثم أنها كما قال تشرشل ليست أفضل أنظمة الحكم ولكنها الأقل سوءاً، يعني هي أقل سوءاً يعني لأن أنواع الحكم الأخرى تؤدي إلى مصائب أكبر، فالديمقراطية فيها من مخاطرها مثل ما تفضلت أنه يعني لاعبين يدخلون في اللعبة الديمقراطية وهم غير مؤمنين بها، بس يحققوا من أجل تحقيق أغراضهم، يعني والمثال التاريخي الشهير أن الحزب النازي بقيادة هتلر وصل إلى الأغلبية في البرلمان ذاك الوقت الألماني في عبر انتخابات ديمقراطية، لكنه مجرد ما أن استلم حول الدولة إلى نظام آخر يعني نظام استبدادي وقضى على الديمقراطية تجاوز الديمقراطية، فهناك ملحظ تاريخي مهم في تطور الديمقراطية في الغرب أنه أنت لازم إذا تبي تبدأ لعبة ديمقراطية أو أي لعبة من الألعاب يجب أن تخرج اللاعبين غير المؤمنين بأصول اللعبة، يعني ما يمكن لأنه إذا بتدخل لاعبين يعني يضمرون أشياء أخرى وغير مؤمنين بأصول اللعبة طيب رح يفسد اللعب.

أحمد الزين: طيب بتقديرك يعني يمكن يحدث في العالم العربي أن نتيجة هذا النوع من الانفتاح إذا صح التعبير، يعني إشراك الآخرين في القرار أو في الرؤية في الحكم في المشاركة قد يتيح بمجال لوصول الأصوليات إلى الحكم يعني بعدين بيتحول مثل ما صار فينا بأنظمة استبدادية مختلفة مرت؟

محمد جابر الأنصاري: يعني الاحتمال وارد احتمال وارد، وهناك رأي أنه خلي هذه الأصوليات أحياناً تدخل في التجربة وتضع إصبعها في النهار.. في النار وتتحمل المسؤولية ثم تتطور، يعني أحياناً يحصل التطور بهذا الشكل يعني..

أحمد الزين: يعني عليك أن تكتوي لحتى..

محمد جابر الأنصاري: يعني لما إنت تكون جهة غير مسؤولة تطالب بأي شيء، لكن إذا توليت السلطة لأ تشعر بمسؤولية كبيرة، وهناك من يقول أن حماس تسرعت تاريخياً واستلمت السلطة الآن وهي قاعدة الآن تدفع ثمن هذا التسلم، وينطبق على كثير من الأنظمة الأخرى.

أحمد الزين: طيب دكتور لديك كتاب أنت بعنوان: "انتحار المثقفين العرب" يعني طبعاً تناولت فيه بعض جوانب الانتحار الجسدي والفكري أحياناً..

محمد جابر الأنصاري: والمعنوي..

أحمد الزين: والمعنوي إلى ما هنالك، واليوم نشاهد نوع من الارتداد لدى الكثير من المثقفين يعني الذهاب إلى الطوائف والمذاهب والأصوليات، بتقديرك هذا نوع آخر من الانتحار؟

محمد جابر الأنصاري: هذا أيضاً الانتحار الأخطر هنا لأني أنا مثل ما تفضلت تحدثت عن انتحار جسدي مادي وانتحار معنوي..

أحمد الزين: خليل حاوي مثلاً أخذت همنغوي نعم..

محمد جابر الأنصاري: يعني من الأمثلة، فالآن يعني الانتحار هذا اللي تفضلت به أن اللجوء إلى الطوائف وإلى العشائر وإلى الأشياء الماضوية عند المثقفين هو انتحار يعني يقضي على نفسه.

أحمد الزين: طيب على سيرة المثقف دكتور عندك تجربة طويلة أنت مع السلطة يعني بمعنى من المعاني، يعني من حوالي 17 سنة ربما مستشار مع جلالة الملك ربما من أيام الإمارة حتى الآن يعني..

محمد جابر الأنصاري: ومنذ أن كان جلالته ولي العهد..

أحمد الزين: ولي العهد يعني نعم، يعني بدايةً هل من دور فعال للمثقف إذا كان في الموقع الذي أنت فيه، يعني هل رأيه مؤثر؟

محمد جابر الأنصاري: يعني رأيي في هذا الموضوع طبعاً هناك تنظير طويل جداً في الخطاب العربي بشأن العلاقة بين المثقف والأمير يعني حسب الاصطلاح المستخدم، أو تجسير الفجوة كما ذكر، يعني أنا أعتقد أنه يعني هذا التنظير مجرد تجريبي بعيد عن الواقع، ورأيي من خلال تجربتي أنه يجب الحكم على كل تجربة بخصوصياتها، يعني صحيح أنت إذا تحلل تجريدياً بين صاحب القرار وصاحب الرأي، يعني صاحب القرار هو صاحب السلطة هو يتخذ قراراته، لكن من هو صاحب القرار؟ يعني هل صاحب القرار ميّال إلى الاستماع إلى الآراء وإلى الأخذ بها وإلى نوع من التحاور الديمقراطي..

أحمد الزين: نتيجة تجربتك أنت لمست هذا الشيء؟

محمد جابر الأنصاري: أنا لمست هذا الشيء وهذا ما يشجعني على الاستمرار مع جلالته في العمل كمستشار لأني أجد هذا التحاور الديمقراطي، وهذا الاهتمام لديه في القضايا المحلية والإقليمية والعربية والعالمية، ووجدت أنه هو على كثرة امتلاء البحرين بالمثقفين لكن كان خلال الفترة هذه اللي ذكرتها الـ 17 سنة وما زال يمثل تحدياً فكرياً يعني هو لي وللثقافة البحرينية ككل وللمثقفين ككل أنه هو لديه الكثير من الأسئلة والكثير من الإجابات أيضاً..

أحمد الزين: بتقديرك هل بتلاقي الآن تحديداً في هذا الظرف التاريخي اللي عم نمر فيه إن السلطات الوطنية يعني النظام العربي بأشكاله المختلفة هو في مأزق تماماً مثل مأزق المثقف الحر يعني النقدي اللي.. وهو بحاجة لإله مثل ما هو بحاجة لإله مثل ما المثقف بحاجة لحماية أيضاً؟

محمد جابر الأنصاري: يعني أعتقد أن السلطة العربية بحاجة إلى جميع القوى في المجتمع ومن ضمنهم المثقف، يعني ليس المثقف وحده ولكن جميع القوى الحية في الأمة يعني المفروض أن السلطة تنفتح عليها وهذا معنى الإصلاح.

أحمد الزين: بالطبع قد يطول الكلام عن المثقف والسلطة وعملية تجسير الفجوة بينهما كما سماها الدكتور محمد جابر الأنصاري، هو أمر إشكالي يتعلق بتعريف المثقف ودوره، وبتعريف السلطة وطبيعتها وظرفها التاريخي وتقاطع الرغبات بينهما والرؤى والأسئلة أيضاً. ولكن السؤال الأساس هو هل يبقى المثقف حراً بالمقدار الذي ينبغي كي يعبر عن رأيه دائماً دون حرج وأن يبقى في الموقع النقدي الصريح والجريء والمصوب والشاهد؟ أم أنه يتحول من حيث لا ينتبه ربما أو من حيث لا يريد إلى محسّنٍ لصورة السلطة أو لصورة الحاكم؟ يرى الدكتور محمد جابر الأنصاري أنه إذا كانت السلطة أو إذا كان الحاكم يمتلك الأسئلة وهاجس السجال عندها قد يبقى ذلك الهامش لدى المثقف للتعبير وللبوح وللمساجلة.

أحمد الزين: يمثل الدكتور محمد جابر الأنصاري في ثقافته وسيرته العملية جسراً واصلاً بين جيلين في البحرين هما: جيل النهضة النهضة التعليمية وجيل الاستقلال، ومع عمله التربوي والإداري فإن إسهامه الأساسي تمثل في كتاباته وأبحاثه التي بدأها منذ أكثر من 30 عاماً، وقد طرح من خلالها مشروعين فكريين، الأول هو مشروع دراسة البيئة الفوقية للمجتمع العربي، أي المحاولات تلك التي قام بها في نقد الفكر والتي تمثلت في كتابه "الفكر العربي وصراع الأضداد" إضافة إلى كتابين آخرين مكملين هما تحولات الفكر والسياسة، ومسائلة الهزيمة، أما المشروع الثاني فتمثل في دراسة البيئة المجتمعية التحتية على مستوى الواقع أي نقد الواقع، وتجلى ذلك في أعماله "تكوين العرب السياسي" "التأزم السياسي عند العرب" والسياسة أو "العرب والسياسة وأين الخلل" وبالطبع له العديد الآخر من الكتابات والأبحاث والمساهمات في الصحافة العربية وفي المنابر الفكرية.

طيب خلينا نرجع نحكي هيك أشياء أخرى غير الفكر والسياسة، طبعاً البدايات كانت في البحرين هذه أخف عبء من الفكر مهيك؟

محمد جابر الأنصاري: البدايات كانت في البحرين وفي مدرسة الهداية بس كانت بدايات ثقافية لأن المجتمع البحريني كان مجتمع حي فكرياً، ويعني كان الرجال يجتمعون في الحي في دكاكين الحي كانوا يتكلمون عن تجارب الحرب العالمية الثانية وأسبابها، فهذه أول شيء أول ما تعرفت عليه، بعدين التحقنا بمدرسة الهداية الخليفية في المحرق اللي هي المدرسة النظامية الجديدة اللي أسست عام 1919 وما زالت قائمة كمتحف والمدرسة الحديثة أيضاً قائمة جنبها اللي تسمى مدرسة الهداية، ففي مدرسة الهداية يعني كان الأساتذة العرب وكان مختلف التيارات تصلنا ونسمع عنها، وكان فيه مكتبة غنية في ذاك الوقت في تلك المدرسة كانت ابتدائية بس كان في مكتبة كأنها مكتبة جامعة، وذهبت إلى المكتبة في يوم وطلبت كتاب كان عنوانه: "ملوك العرب" لأمين الريحاني فسمعت القيمّين على المكتب يتشاورون أن هذا كتاب يعني فوق مستواي يعني أستعيره ما أستعيره فقرروا في الأخير أن يعيروني ياه..

أحمد الزين: يعني بلشت بالشغب من آنذاك؟

محمد جابر الأنصاري: فشاغبتني الثقافة من ذاك الوقت يعني.

أحمد الزين: الوالد كان إله علاقة في هذا العالم؟

محمد جابر الأنصاري: يعني الوالد كان طبعاً اشتغل في البحر في فترة طويلة بين الغوص وبين الكتابة يعني للنواخلة للطواشين للذين يقومون بصناعة اللؤلؤ، وعندما انهار اللؤلؤ اشتغل في شركة النفط هنا في البحرين يعني ابتداءً من سنة 1938 وكان من أوائل العمال البحرينيين الذين شاركوا في حفر البئر رقم واحد، لأنه فيه عندك هنا البئر رقم 1 وهو البئر رقم 1 قياساً بالاكتشاف في الجانب العربي يعني نعم، والدي شارك في حفر البئر رقم 1..

أحمد الزين: وما طلع له من هذه المشاركة بالمقابل شيء آخر يصير شريك بالنفط؟

محمد جابر الأنصاري: يعني أحيل على التقاعد في الـ 1959 بشيء بسيط يعني بدعم بسيط جداً يعني.

أحمد الزين: طيب دكتور أنت يعني دراستك الأساسية أمضيتها في بيروت يعني في الجامعة الأميركية حيث حصلت الدكتوراه، تجربة بيروت شو تعني لك يعني شو شكلت عندك؟

محمد جابر الأنصاري: تجربة بيروت كانت تجربة غنية جداً وأنا أمضيت يعني بما مجموعه 12 سنة من حياتي في بيروت، المرحلة الأولى مرحلة البكالوريوس والمرحلة الثانية مرحلة الماجستير والمرحلة الثالثة الدكتوراه، وللأسف الدكتوراه قطعت بالحرب الأهلية وكذا بس رحت سنة 1979 وعملت المناقشة، وكان ذاك الوقت هيئة المناقشة قسطنطين زريق الله يرحمه، خليل حاوي لسه يعني كانت عن دراسة أيضاً الفكر العربي يعني النزعات التوفيقية في الفكر العربي، أن الفكر العربي مهما بدا راديكالي وثوري لكنه في النهاية توفيقي في تحليلي النهائي توفيقي..

أحمد الزين: أنت ضد الوسطية في الفكر العربي؟

محمد جابر الأنصاري: يعني أنا لا الوسطية إذا كانت حقيقية في بعض الأمور أقبلها، لكن إذا كانت تلفيقاً يعني التوفيق عندما يتحول إلى تلفيق طبعاً لا يؤدي إلى نتيجة ويؤدي إلى مغالطة، يعني من الأمثلة اللي أستطيع أقدمها القول أن الإيمان والعقل يتفقان وينطبقان تمام الانطباق هذا غير صحيح، الإيمان والعقل يسيران معاً إلى مرحلة إلى نقطة معينة ثم يفترقان يصبح للإيمان منطقة وللعقل منطقة، ويجب أن نعترف بهذا الفارق، لأنه إذا ألغينا هذا الفارق وقلنا بالانطباق التام بين الجانبين نغالط أنفسنا ونغالط طبيعة الدين وطبيعة العقل.

أحمد الزين: بتقديرك يعني إذا هذا المشروع اللي عم تشتغل عليه هو يتقاطع مع مشروع محمد أركون لأنه هو أيضاً بيشوف أنه لا بد من إخضاع الفكر التراثي الإسلامي والعربي لشروط معرفية أخرى، يعني شروط علم اللسان علوم الاجتماع وعلوم التاريخ، يعني أنت من الناس الذين يدعون إلى إخضاع هذا النص التاريخي إلى هذه الشروط؟

محمد جابر الأنصاري: يعني لا بد من إيضاح التالي: يعني هذا شيء أساسي بالنسبة للموقف العربي ككل والمستقبل العربي ككل، يجب أن نؤسس لتعايش الاختلاف، أنه سيظل ناس يؤمنون بمنطلقات إيمانية ونترك لهم الحرية، وفيه ناس يريدون يعني لديهم تساؤلات عقلية أيضاً يجب أن يتعايشوا مع الطرف الآخر، والطرف الآخر يتعايش معهم ويعطيهم حرية التساؤلات العقلية سواءً في البحث الفكري سواء في العمل السياسي في الحياة الاجتماعية، يعني لا بد من تعايش، يعني لاحظ مثلاً على سبيل المثال التجربة الهندية يعني هناك أناس يؤمنون بالبقر بقداسة البقر مثلاً، ويؤمنون باعتقادات متباينة كثيرة وكل فريق متروك لاعتقاده، لكن هم في الحياة العامة في الحياة السياسية مؤسسين لديمقراطية من أهم الديمقراطيات في العالم، يعني فرغم هم ما ألغوا الفروق اللي بينهم بس أبقوا هذه الفروق وقاموا على تعايش الاختلاف..

أحمد الزين: يعني استفادوا من الاختلاف من أجل صالح البلاد يعني؟

محمد جابر الأنصاري: يعني الاختلاف يعني أن نعترف بالتعايش..

أحمد الزين: بس الآخر بيعترف فيك الآخر الذي فينا وليس الآخر الغرب ما يقبلنا الآخر..

محمد جابر الأنصاري: هذا تحدي التقدم تحدي التطور..

أحمد الزين: تحدي أمام من؟ أمام المثقف أم أمام المتزمت فكرياً دينياً؟

محمد جابر الأنصاري: أمام الخطاب الفكري العام أمام الأمة ككل، بس لأ التحدي بالذات يعني أحياناً حتى المثقف اللي نحسبه حر ونحسبه متقدم بس هو في النهاية لما نحكه يطلع متعصب جداً..

أحمد الزين: بيرجع للطائفة..

محمد جابر الأنصاري: بيرجع للطائفة يرجع متعصب يرجع يعني.. كما أنا بعض الإخوة الماركسيين يعني في حواراتهم الشديدة يذكروني بالخوارج في صدر الإسلام، يعني يناقشون بنفس الطريقة فهذه المشكلة يعني.

أحمد الزين: طيب أنت متفائل دكتور؟

محمد جابر الأنصاري: أنا متفائل بمعنى على المدى البعيد نعم متفاءل بس مش على المدى القصير.

أحمد الزين: تظن نحن الآن في نفق؟

محمد جابر الأنصاري: إي يعني في مرحلة تاريخية انتقالية لا بد منها ولا نستطيع أن نخرج منها، لكن المأمول أن نستوعب الدرس وأن ننتقل إلى المرحلة اللي بعدها ولا نستمر طويلاً في هذه المرحلة العقيمة من الصراع، فالشيء لا بد منه وسيدفع ثمنه أبرياء كثيرون، يعني مثلاً التخوف من تجزئة العراق أو تجزئة أي بلد آخر في المنطقة..

أحمد الزين: الحروب الطائفية والمذهبية..

محمد جابر الأنصاري: الحروب الطائفية والمذهبية والمحلية يعني هذه التجزئة ممكن أن تستمر لبعض لبضع سنوات ثم سيكتشف أهلها أنهم..

أحمد الزين: أنهم لعبوا في النار..

محمد جابر الأنصاري: أنهم لعبوا في النار ووصلوا إلى طريق مسدود، وأنهم يجب أن يعودوا للمشروع الأصلي كما عادت الطوائف اللبنانية إلى مشروع لبنان إلى المشروع الوطني اللبناني في النهاية.

أحمد الزين: نرجو إنهم يكونوا عادوا جميعاً..

محمد جابر الأنصاري: هذا المأمول يعني..

أحمد الزين: متفائل الدكتور محمد جابر الأنصاري، هو نوع من تفاؤل العقل الذي يراهن على تطور مسارات التاريخ والإفادة من التجارب، ولكن كما ذكر مرةً المؤرخ الراحل نقولا زياده: أن الناس تعلموا من التاريخ أن لا يتعلموا، يبدو أن هذا هو المرجح دائماً، على كل حال هذا بعض من تجربة الدكتور محمد جابر الأنصاري عميداً وأستاذاً في جامعة الخليج ومستشاراً لجلالة الملك، ومثقفاً يهادن حيناً في أجوبته، وهو القائل أن المثقف كمثل سائق شاحنة كبيرة عليه أن يدخلها في الأزقة الضيقة بدون إحداث ضرر للآخرين. محمد جابر الأنصاري المولود سنة 1940 هو من مؤسسي أسرة الأدباء والكتّاب بالبحرين وأول رئيس لها عام 1969 ومن أوائل المساهمين في الحركة الأدبية والنقدية المعاصرة في البحرين والخليج، ولقد حاز على جوائز عديدة نذكر منها: جائزة السلطان عويس في الدراسات الإنسانية والمستقبلية، وجائزة الدولة التقديرية في البحرين، وجائزة منيف الرزاز للدراسات والفكر من رابطة الكتاب الأردنيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق