2006-08-25

روافد مع العالم الاجتماع محمد أركون

إعداد وتقديم

أحمد الزين: ربيع باريس يحمل على التفكر بربيع لم يبدأ بأوطاننا في مستواه الفكري، فشتاء العقل العربي يبدو أنه دخل سنوات النسيان وطال أمده، وإن زهر شجر ما تراه سقي بغير ماء في غير مكان، وتغذى وتلقح بهواء أوطان أخرى، وعاش في غير تربة أو نوع في غذائه من أكثر من مصدر. وربيع باريس يذكر بربيع فكر محمد أركون، هذا الرجل الذي قصدناه في منزله للتقصي عن أحواله إنساناً ومفكراً، فهو يقيم هنا منذ أكثر من نصف قرن تقريباً، أستاذاً في البداية في جامعة السوربون، وباحثاً ومفكراً تشغله على الدوام مسألة كيفية إخضاع التراث الديني للعقل المفكر النقدي والتحليلي، وتشغله أيضاً مسألة إخراج المجتمعات العربية والإسلامية من دائرة السكون والتقهقر والتردي الفكري والمعرفي والاجتماعي. والحوار مع دكتور محمد أركون يستدعي جهداً في الإصغاء يوازي جهده في استنباط المفاهيم والمصطلحات، فهو مفكر موصوف بالصعب فهمه، ولكن حين تجالسه تدرك لغزه في إضاءاته لما ينبغي أن نتبينه في تاريخنا وفي حياتنا الفكرية.طيب دكتور أركون خلينا نبلش الحوار بقول للأصفهاني، يقول الأصفهاني:إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا وقال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدم هذا لكان أفضل، ولو ترك ذلك لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر، يعني كم من مرة أو كتاب حدث معك هذا؟

محمد أركون: كل يوم كل ما أكتب صفحة يحدث لي هذا، وتحدث هذه الأسئلة في بالي لأني أريد دائماً أن أضع نفسي في مكان القارئ المتلقي، كيف القارئ يتلقى هذه الجملة التي أكتبها.

أحمد الزين: طيب دكتور محمد أركون أنت من المفكرين الذي صرفوا سنوات عمرهم في البحث وفي الدراسات الإسلامية، مدفوعاً بهاجس أو بهمّ التنوير بهمّ التحديث بهم القراءة العقلانية للنص التراثي وفق المعايير معايير التاريخ ومعايير اللغة ومعايير علم الاجتماع، يعني السؤال هو لماذا هذا الإصرار دائماً على إعادة قراءة التراث؟

محمد أركون: المشكل الأساسي فيما يتعلق بكتابة تاريخ الفكر الإسلامي هو أننا لا نزال عندما ندّرس تاريخ الفكر الإسلامي نذكر ما أُطلق عليه لقب العصر الذهبي، ويسمى أيضاً العصر الكلاسيكي للفكر الإسلامي أو للمدنية الإسلامية، وهذا العصر الذهبي ينطلق من القرن السابع إلى القرن 13 ميلادي، وبعد القرن الثالث عشر ننتقل إلى فترة التقلص فترة التفتت وفترة النسيان، النسيان وهي ظاهرة تاريخية مهمة جداً، بمعنى أن أكثر ما كُتب في الفترة الكلاسيكية لم يعد يُدرس لم يعد يُقرأ لم يعد يطلّع ويعتني به المسلمون أنفسهم.

أحمد الزين: لماذا بتقديرك أنت تعني؟

محمد أركون: هذا سؤال تاريخي، يجب على الباحث أن يعتني بهذه الفترة الممتدة من القرن 13 إلى القرن العشرين والقرن ال21 الذي الآن نحن نعيش فيه، لماذا وقع هذا التقهقر وهذا النسيان المتزايد وهذا الانفصال أو القطيعة عن تلك الفترة التي نسميها العصر الذهبي، وهذه الفترة لم يدرسها بعد المؤرخون، المؤرخون الغربيون الذين يعتنون بالإسلاميات، والمؤرخون المسلمون أيضاً لم يعتنوا بها إلى وقتنا هذا، ولذلك لا يمكننا أن نقدم شرحاً كاملاً وافياً لندرك الأسباب التي جعلت المجتمعات الإسلامية، والمجتمعات الناطقة باللغة العربية لم تهتم بالتراث الكلاسيكي، وأمر آخر أهم مما ذكرنا هو أن الغرب الذي هو قريب منا نحن نعيش في نفس المنطقة البحر المتوسط، الغرب انطلق في ذاك القرن الثالث عشر انطلق في إحداث وإبداع أنواع جديدة من التفكير..

أحمد الزين: مرتكزاً على..

محمد أركون: وابتدأ الصراع بين الفكر اللاهوتي الذي كان يطغى على.. ويراقب يفرض رقابته على سائر العلوم بالغرب ليتحرر العقل العلمي والفلسفي.

أحمد الزين: إذاً يجد محمد أركون أن تلك الحقبة من التاريخ العربي والإسلامي التي يسميها العصر الذهبي أو الكلاسيكي غابت عن التداول نهائياً، أو غُيبت منذ القرن 13، وهناك مدارس هُمشّت وأخرى قُمعت وهذا ما أدى إلى غياب المفهوم الأساسي للفكر هو مفهوم المناظرة التي تحرض العقل على الإبداع، في الوقت الذي اجتهد الغرب في تخليص العقل الفلسفي من الفكر اللاهوتي، وذهب إلى إبداعات فكرية أسست لمجتمعات حرة.طيب دكتور محمد هذا الاشتغال على التراث الديني بشكل عام هو من أولويات المفكر النقدي اليوم، يعني ولماذا نجد معظم المفكرين محاصرين تقريباً بالمسائل التراثية؟ هل هذا ناتج إذا صح القول عن همهم في تحرير العقل الفلسفي من طغيان العقل اللاهوتي كما فعل ديكارت سابقاً أو سبينوزا أو فولتير وسواهم في أوروبا؟

محمد أركون: لا أظن أن الكثير منا يعتني حقيقة بتحرير العقل لا من ضغط الفكر الديني، ولكن من ضغط القوى التاريخية كالقوة الاقتصادية، القوة السياسية قوة الأنظمة السياسية الغالبة في مجتمعاتنا، هذه القوة العاملة في إنتاج تاريخ مجتمعاتنا لم ندرسها بعد، لأنها هي التي تكيف عمل العقل العربي اليوم، وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين وهو نصف الحروب من أجل الاستقلال، وأيضاً من أجل بناء الدولة الأمة التي كانت الشعوب تطوق إليها، إذن اشتغلنا بالخطاب الإيدلوجي، اشتغلنا بالخطاب للنضال لبناء الأمة وللرد على الغرب الذي ما زال حتى بعد الاستقلال يفرض سلطته الاقتصادية، سلطته الفكرية، إذاً لم نعتني بتشجيع وبتكوين القاعدة العلمية الصحيحة ليتحرر العقل، ليس فقط من طغيان الدين عليه، ولكن من طغيان هذه الدواعي والعوامل التي ذكرتها.

أحمد الزين: طيب دكتور محمد ألا تظن أنه مر الكثير من الزمن ما يقارب 1000 عام من المراوحة في دائرة مغلقة؟

محمد أركون: كنا على وشك الخروج من هذه الدائرة المغلقة في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، لأننا في تلك السنين طرحنا قضية الاستعمار، وقضية أسباب الاستعمار الأسباب التي جعلت الغرب يغزوا بلداننا ويستعمرونها ويفرضون سلطتهم سيادتهم السياسية علينا، هذا بحث علمي بحث تاريخي ولكن لم نواصل هذا البحث، قد انقطعنا عن هذا البحث بعد الاستقلال، وبعد الاستقلال اعتنينا ببحوث أخرى، كيف نبني أمة تعاصر الأمم المتقدمة؟ كيف نملأ الفراغ الثقافي والعلمي والتكنولوجي الذي يفصل بيننا وبين الدول المتقدمة واعتنينا بهذا، ولكن لم نعتنِ بجانب آخر من الأهمية بمكان وهو الاعتناء بتدريس علوم الإنسان والمجتمع، ولذلك لا نزال إلى اليوم ضعفاء جداً في تدريس مثلاً علم اللسانيات الذي هو علم أساسي بالنسبة لنا، لأننا اليوم نعيش على نصوص دينية مقدسة، من ذا الذي يقرأ هذه النصوص المقدسة الدينية على طريقة علمية، كما كان فخر الدين الرازي مثلاً يستعين بجميع علوم اللسان وعلوم التاريخ وعلوم الطب وعلوم الفلسفة وعلوم اللاهوت وعلوم الفقه ليفسر القرآن، وليكتب ذاك الكتاب الضخم مفاتيح الغيب، كيف نقرأ القرآن اليوم؟ بأي أسلحة علمية نحوية لسانية معجمية نقرأ القرآن اليوم؟ علماء الفقه أصول الفقه كانوا يفتحون جميع كتبهم في أصول الفقه كانوا يفتحونها بمقدمة على اللسان العربي، لا يتكلمون عن الفقه ولا على أي شيء آخر، لأنهم كانوا واعين بأنهم مهمتهم أن يقرؤوا نصاً ناطقاً باللغة العربية، اليوم جميع المعلومات التي نكتسبها من الكتب القديمة فيما يتعلق بالنحو العربي مثلاً لا يمكن أن نعتمد عليها، لأن هناك علم آخر جديد عصري يسمى علم اللسانيات.

أحمد الزين: بدون شك أنها لمهمة مضنية التي يأخذها على عاتقه المشتغل بقضايا الفكر بخاصة إذا أراد طرق أبواب الفكر الديني، فهو كالذي يسير في حقل من الألغام واضعاً نفسه وواضعاً عقله النقدي في مواجهة ما هو ساكن أو مطلق أو غير قابل للمس، وبدون شك سوف يواجه متاعب جمة عندما يضع التراث في ميزان التحليل العلمي والفلسفي، وفي إخضاعه للمفاهيم الحداثية المعاصرة، ومحمد أركون في طليعة هذه النخبة من المفكرين الذين اجتهدوا في هذا المجال، وراكموا مسائلاتهم وقراءاتهم في عشرات الكتب وعلى مدار عشرات السنين.

أحمد الزين: مثلما ذكرت في البداية إن فكر محمد أركون صعب في بعض مستوياته، ولكنه يسهل حين تطرحه على محك المسائلة، وربما لأنه كتب أعماله باللغتين الفرنسية والإنجليزية كان بالضرورة أن يحمّلها مصطلحات حداثية في خدمة المقصد والهدف، أو هي طريقة قراءة تستدعي بالضرورة لغتها الفلسفية الخاصة، ولكن في كل ما كتب محمد أركون كان يحاول دائماً تجديد قراءة التراث وغربلته وفق قراءة مستفيدة من العلوم الحديثة، دون أن يخفي صعوبة التواصل مع الجمهور الإسلامي العريض، حيث هناك عقبات كما يقول هناك عقبات راسخة في العقول لا تسمح بالتواصل، وكما يقول كستون بشلاخ "المعرفة الصحيحة لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة".يجد البعض أنك تكتب بطريقة يصعب فهمها إلا لدى القليل، لدى النخبة أو بعض المختصين في هذا المجال، فينا نقول هل هذا يعني ناتج عن الضرورة البحثية؟ أم هو مثلاً ضرب من الضروب الذكاء الأكاديمي إذا صح التعاطي مع ما نسميه الخط الأحمر؟

محمد أركون: نعم هناك خط أحمر موجود ويؤثر هذا على جميع المواطنين العرب بصفة عامة مش فقط المثقفين، هذا موجود وموجود في كل مجتمع حتى المجتمعات الديمقراطية بأوروبا موجود، ولكن النقطة الأساسية هي الأولى التي ذكرتها، وهي ما يقتضيه الفكر العلمي اليوم، اليوم معناه مواقف العقل المفكر في إطار مش الحداثة كما تعودناها، لأن الحداثة أصبح لها تاريخ، وأصبح لها فترات متتابعة، والفترات الأولى الآن موضوع تاريخ مش موضوع ممارسة، ما هو إطار الممارسة للعقل في بداية القرن 21 بعد 11 سبتمبر حادثة 11 سبتمبر، لأن 11 سبتمبر أثرت تأثيراً بليغاً على معاملة العقل مع قضايا المعرفة، غيّرت موقف العقل مثلاً فيما يتعلق بتفسير المجتمعات الغربية، بالبنيات الخاصة للمجتمعات الغربية، والفكر الغربي داخل الغرب الذي يتساءل عن هذه المجتمعات وعن القوة المتعاملة في هذه المجتمعات الأسئلة تغيّرت، ولا بد إذاً من التكيف علمياً من هذه التغيرات التي تؤثر على المجتمعات، والتي تجعل الفكر مجبر أن يأخذ بعين الاعتبار هذه التغيرات الفكرية، التغيرات الفكرية معناه المعجم معجم الاستراحات مثلاً في علم الاجتماع، في علم النفس في علم اللسانيات الذي كنا نستعمله في السبعينات والثمانينات، غير المعجم الذي يجب أن نفرضه اليوم، وهذا ما يجعل العالم الباحث الذي يعتمد على جميع العلوم الاجتماعية كما أحاول أن.. أنا أحاول أن أتعامل..

أحمد الزين: أن يكون عندك هذان العلمان يعني لذلك..

محمد أركون: إذاً هذا أريد أن أفتح هذه الفضاءات الجديدة أمام القارئ العربي، وأمام المدرس العربي في المدارس الثانوية، وأدعو أساتذة المدارس الثانوية أن يقرؤوا مثل هذه الكتب حتى يبلغوها إلى الشبان الذين يقرؤون في الثانويات، وإلا كيف ينطلق العقل العربي من الممارسة التقليدية التي نعيش فيها، والتي تزيد تقهقراً، تزيد تأخر لما نسميه العقل العربي.

أحمد الزين: طيب لمن يكتب محمد أركون؟ لمن تكتب بخاصة أنك تكتب بالفرنسية وعن قضايا لا تخص الفرنسيين أو الغرب بشكل عام أو مباشر عن قضايا تخص العرب والإسلام؟

محمد أركون: أتوجه إلى جميع من يعتني بالعصر الحديث بتفهم وتفهيم ما يجري في هذا العصر لجميع الثقافات ولجميع الأنظمة الفكرية، المسيحي مثلاً يمكنه أن يستغل أن يستفيد مما أكتبه، البوذي في آسيا والهندوسي في آسيا إذا قرأ ما كتبته في العلوم القرآنية يستفيد منها، لأنني أطرح قضية الظاهرة الدينية كظاهرة بشرية ولا أكتفي بدراسة ما يخص المسلمين، وهذا أيضاً أعمل هذا لأفتح آفاق للمسلمين اليوم آفاق فكرية ومعرفية، لأننا لا يمكننا أن نتفهم عن الإسلام إلا إذا قمنا بتاريخ وأنثروبولوجيا مقارنة للأديان المتواجدة والمتحاورة اليوم على مستوى العالم هذا هو الهدف والمقصد الأسمى كما كان يقول الغزالي.

أحمد الزين: محمد أركون أكثر من 50 سنة في باريس، في هذه المدينة طالباً في البداية ثم أستاذاً في السوربون وباحثاً ومفكراً وناشطاً في بلورة صيغ معاصرة للتفاعل الثقافي والحضاري، فباريس بالنسبة له هي وطن آخر أو هي ذلك الفضاء الذي أتاح أمامه أن يحقق حضوره الفكري أوروبياً بداية وعربياً، فإلى أي مدى حررته فرنسيته من مسألة الرقابة الذاتية؟ أم أن تأثير الموروث ما زال يؤثر على عملية التفكير والإبداع عنده؟

محمد أركون: بما أني لا أريد أن أقطع الصلة أبداً بين القارئ العربي والمسلم، لا يمكنني أن أتحدى هذا القارئ بطرح أسئلة تجرح هذا القارئ، وتجعله يرفض التواصل الفكري والعلمي هذا من باب البيلاروجيا، نعم هذا من باب.. كل مدرس..

أحمد الزين: هذا للمسايرة الفكر فيه مسايرة؟

محمد أركون: مسايرة ولكن لا تعرض أبداً عن ضرورة النقد والتساؤل أبداً، هذا لا أتخلى عنه مهما كان..

أحمد الزين: الثمن..

محمد أركون: الجمهور الذي أخاطبه، ومهما كانت القضية التي أطرحها وأحللها، دائماً يجب أن يكون الموقف النقدي هو الذي يسيّر ويدفع العقل في جميع ما ينطق به ويقترحه، ولكن عندما نخاطب جمهور مثلاً لا يعرف ما معنى الاستدلال التاريخي بالمقارنة إلى الاستدلال بالخطاب بالميثولوجي هذا هو المشكل.

أحمد الزين: طيب دكتور أنت كل ما تفكر به تستطيع أن تكتبه؟

محمد أركون: أحاول ويجب أن نستمر في الاجتهاد هذا ولكن اجتهاد على مستوى آخر، غير الاجتهاد الذي تعودناه ولا نزال نكرر أن هناك اجتهاد ويجب أن نرجع للاجتهاد هذا كلام بعيد كل البعد عن إجهاد العقل.

أحمد الزين: الحوار مع محمد أركون يزداد حرارة كلما تطرق السؤال إلى جوهر فكره، أو كلما تشابه مع أسئلته التي يطرحها على نفسه وهو في رحلته البحثية وفي المقارنات والمقاربات التي يقوم بها، فكما يقول فلكي تعلم ما يحدث داخل مجتمعاتنا ينبغي أن تعلم ماذا يحدث خارج المجتمعات. في الحلقة القادمة نتابع مع محمد أركون بعض الأسئلة التي تشغل عالمنا اليوم ونتعرف أكثر على حياته وعلى سيرته.

أحمد الزين: عرفنا محمد أركون واحداً من أعلام الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية، وكما يقول عنه محمد علي الأتاسي في مقدمة حوار معه في ملحق النهار، يكاد محمد أركون أن يكون من المفكرين القلائل في العالمين العربي والإسلامي الذين يملكون مشروعاً فكرياً حقيقياً، يتجاوز إطار الجامعة والدراسات الأكاديمية ليصب في همّ التحديث والتنوير، الذي طالما شغل رواد النهضة العرب منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبالواقع هو صاحب مشروع نهضوي وتنويري وإلا لما كان راكم هذا العدد الكبير من الدراسات والبحوث المختصة في الفكر الإسلامي بهاجس فهم الظاهرة الدينية وفق منهج التاريخ المقارن للأديان ووفق العلوم الحديثة. في الحلقة السابقة حدثنا الدكتور أركون عن بعض ملامح مشروعه هذا، عن محاولاته لإخضاع التراث لقراءة نقدية وفق المعايير التاريخية واللغوية والاجتماعية.

وفي الحلقة هذه نتابع معه هذا الحوار لإلقاء الضوء على ما أمكن من فكره ومن ملامح مشروعه هذا.تقول في مكان ما من كتاباتك تقول: إن الحداثة حررت الإنسان من القوى المتعالية لكي تضعه داخل واقعيته أو داخل واقعية التاريخ، يعني السؤال هو أين نحن من هذا المفهوم تحديداً؟ إذا ما نظرنا إلى التفاوت بيننا وبين الغرب أي بين الشرق وبين الغرب، وإلى تلك المسافة الزمنية التي تقدرها بحوالي 500 عام؟

محمد أركون: نعم، ذكرت عبارة القوة المتعالية، ماذا نفهم عن هذه العبارة؟ ماذا يفهم القارئ العربي أو المستمع العربي الإسلامي عن القوة المتعالية، هذا مفهوم له تاريخ، له تاريخ لا يمكننا أن نعتمد عليه لأعطيك مثلاً جواب على سؤالك، إذا لم نهم نمهد حتى نفهم كيف كان معاصرو المسلمين في القرن الأول الهجري يتصورون هذا المفهوم، قد يكون مفهوم ميتافيزيقي، قد يكون مفهوم لاهوتي، قد يكون مفهوم اديولوجي يستعمله الخطاب السياسي ليخضع الناس إلى أشياء غير دينية، كل كلام يصبح فخاً إذا لم ننتبه نقع في الفخ، ونبني خطاب وأجوبة غير صالحة وتكّون الجهل المؤسس، ونزيد طبقة على طبقات أخرى من الجهل المؤسس، هذا هو يعني مثل من المنهاج فيما يتعلق بالمصطلحات التي أستعملها، وبإلحاحي على المصطلحات ودائماً أقارن عمل المؤرخ والعالم الاجتماعي بالعملية الجراحية في المستشفى، الجراح إذا لم يأت بآلات مرهفة مدققة مهيأة للعملية فرحمنا الله.

أحمد الزين: يستخلص المرء من بعض طروحاتك أن سبب نشوء التيارات الأصولية في عالمنا هو ناتج عن عدم تحرير العقل من قضايا سكونية في التراث إذا صح التعبير، هذا التراث الذي يشكّل بالنسبة للملايين على حد قولك بالنسبة للملايين الجائعة نوعاً من أنواع الخلاص، يعني أليس من أسباب أخرى خارجية استعمارية بمفاهيم جديدة كما يحصل اليوم مثلاً في الشرق في العراق وأسباب أخرى داخلية تتعلق أحياناً بفقدان العدالة، أحياناً بفقدان الحريات وأحياناً طبعاً بأسباب الطغيان؟

محمد أركون: طرحت سؤال وأجيبك بسؤال آخر، أين هو المانع في جميع المجتمعات العربية والإسلامية من إنشاء مدارس وجامعات نعلم فيها لأبنائنا جميع تلك الآلات والإشكاليات والبحوث العلمية التي أشرنا إليها منذ استقللنا من الاستعمار، ونحن نعيش تحت سيادة وطنية من أبناء الوطن، ما منعهم من تبني هذه الطرق التعليمية في بلداننا ولا نزال نشكو ولا نزال ضعفاء.

أحمد الزين: ما الذي منعهم؟

محمد أركون: ما الذي منعهم؟ أسباب عديدة ومنها الجهل المؤسس.

أحمد الزين: نعم الجهل المؤسس.

محمد أركون: موجود في المجتمع.. الجهل المؤسس الموجود في المجتمع مثلاً سمعنا ونظمنا ببيروت مؤتمر لتدشين.. مؤسسة أسسناها مع جملة من الأصدقاء كان نصر أبو زيد وعبد المجيد شرفي وآخرون ناصف نصار بعناية نصير الآداب والفكر الحديث محمد الهوني هو الذي بادر بهذا وموّل هذا، آملاً أن يشارك عرب آخرون في تمويل وتأييد هذه المبادرة، هذه المبادرة فشلت بعد عامين ودشناها ببيروت أمام المثقفين العرب كلهم اجتمعوا ببيروت.

أحمد الزين: بداية عُرف الدكتور محمد أركون في الغرب قبل أن يُعرف في عالمنا العربي، وبعض الفضل في هذا يعود للأستاذ هاشم صالح الذي ترجم أعماله إلى العربية وعرّف بهذه القامة الفكرية القديرة والجادة، فعلى مدار عشرات السنين واصل محمد أركون حفره في هذا التراث لغاية الخروج من سكونيته إلى حركية تتصالح مع الحاضر وتؤسس للمستقبل، وهو مدرك دائماً وواع أنه يحفر في جدار صلب يسميه الجهل المؤسس، لكنه لم ييأس مراهناً على فتح كوة على العقل المتحرر من طبقات هذا الجهل.

أحمد الزين: أظن أنك على المستوى الشخصي لم تكن مرة بصدد التعرض للمشاكل التي يتعرض إليها عادة المفكرين العرب المقيمين داخل أوطانهم، أوطانهم الأم طبعاً، لكونك تعيش في مناخ ديمقراطي، مناخ يعني ذات آفاق رحبة وإذا كان هناك من مشكلة تبقى في حدود السجال ولا تذهب إلى الأمكنة الخطرة إذا صح التعبير، هو السؤال فيما لو بقيت في الجزائر، هل كنت قطعت هذا المشوار في التجربة؟ وهل كنت تجرأت في طرح تلك الأسئلة الشائكة بشكل عام؟

محمد أركون: لا هذا قطعاً لا، بصدد هذا يعني بفرنسا عشنا في الستينات والسبعينات والثمانينات ثورات فكرية لا مثل لها في سائر البلدان الأوروبية وحتى في أميركا، أميركا الولايات المتحدة كانوا يطالبون يعني يدعون كل يوم المتخصصين الفرنسيين في جميع علوم الإنسان والمجتمع في ذاك الوقت، كانت يعني حياة متحركة في كل الميادين العلمية، وأنا كنت في وسط تلك المعارك الفكرية، وهذا مما يجعل الإنسان يستفيد..

أحمد الزين: طالباً وأستاذاً.

محمد أركون: في السوربون يطالبون الأستاذ بالتدخل وبالمساهمة في النقاش القائم في جميع الجامعات والبيئات والمراكز الثقافية وكذا وكذا كانت ثورة مستمرة، وإذا بتلك الثورة تطفأ وتهدأ في أوائل التسعينات، ونحن نشاهد اليوم ساحة مختلفة تماماً مما كانت عليه في تلك الثلاثين سنة التي ذكرتها، وهذا عشته وأعيشه وأنا عضو من المكافحين ومن المساهمين في هذه المعمعة المستمرة والمفيدة للعقل مثل الشخصي ولكن البشري.

أحمد الزين: طيب دكتور محمد اختيارك المبكر للتراث الإسلامي كيف جاء هذا الاختيار؟ نستطيع القول أنه كنت ترغب أو تريد إلقاء الضوء أو تسليط الضوء على ما هو مشرق وإنساني في هذا التاريخ أو في هذا التراث؟ أم هو كان نوع من المواجهة المبكرة مع بعض أشكال الاستشراق؟

محمد أركون: يعني الانطلاق الأول أنا طبعاً من أبناء الجزائر، ونشأت في منطقة من الجزائر منعزلة في الجبل كأنها منقطعة من سائر البلاد وهي المنطقة المعروفة بالقبائلية، وكنا نتكلم لا نزال نتكلم اللغة البربرية التي تختلف عن اللغة العربية، ومفروض على كل جزائري يأتي من تلك المنطقة إذا انتقل إلى الجزائر العاصمة أولاً يجب أن يتعلم العربية وهي مسيرها تُفرض عليه في بلده، تفرض عليه في بلده ووطنه، ولكن هذه التجربة أحمد الله عليها، أنا أحمد الله عليها تجربة مفيدة جداً هي الذي كونت هذا العقل المتكلم اليوم، الذي يدعو إلى التعدد إلى التفتح إلى إثراء الثقافة والعلوم باللغة العربية وفي الفكر الإسلامي وكذا كذا، هذا هو السبب الذي أنشأ فيّ هذا النار الملتهب.

أحمد الزين: إذاً اختياره المبكر للاشتغال على التراث الإسلامي جاء على ما يبدو نتيجة صدفة تتعلق بانتقاله من مكان إلى آخر ومن لغة إلى لغة، بعد رحلته الأولى إلى مدينة وهران حيث كان ينبغي أن يتعلم العربية وهو القادم من البربرية مكاناً ولغة، وتعلمه لهذه اللغة فتح أمامه آفاق الأسئلة التي رافقته حتى عمره هذا حول النص التراثي بكل متونه وفروعه، ولعل تمكّنه وامتلاكه للغتين أساسيتين أيضاً الفرنسية والإنجليزية أمر آخر جعله أكثر دقة في قراءته للنص التراثي حيث أخضعه لعلوم الألسنية ومنهج التاريخ.

أحمد الزين: أصبحت الأصولية الشغل الشاغل للعالم العربي طيلة هذه السنوات، فكيف نفهم هذه الظاهرة؟ وكيف نحلل أسبابها؟ يقول الدكتور أركون لا يمكن أن نفهم الأصولية داخل الإسلام إلا إذا قارنها بالأصوليات داخل الأديان الأخرى، ولا يمكن تحليلها بشكل صحيح إلا إذا طبقنا عليها المناهج التاريخية التي طُبقت في الغرب على الأصولية المسيحية مثلاً، لكن لقد آن الأوان لأن يبدأ الفكر العربي أو الإسلامي بدراسة ما يحصل خارجه، وبخاصة في مجال الدراسات الحديثة المتركزة على الأديان بشكل عام.بالطبع يعني ازدادت صورة الإسلام سوءاً وتشويهاً في الغرب بخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، يعني كيف انعكس ذلك على اشتغالك في الفكر الإسلامي وعلى علاقاتك بشكل عام في هذا المجتمع؟

محمد أركون: ألفت كتاباً مع صديقي جوزيف مايلا اللبناني المعروف المتخصص في اللغات السياسية وأنا كمؤرخ، كتبنا كتاباً معاً عنوانه "من مانهاتن إلى بغداد" وعنوان ثاني يدل على شيء مهم جداً "ما وراء الخير والشر" لأن الرئيس الأميركي لإجابة على ما حدث بمانهاتن قسم بين عمود الخير وعمود الشر، أميركا تشخّص عمود الخير، وتناضل لمحو عمود الشر، هذا التفريق تفريق مانوي دين ماني قديم جداً، مؤثر في الفكر الإسلامي مؤثر في الدين الإسلامي مؤثر..

أحمد الزين: نسبة للنبي ماني؟

محمد أركون: إيه النبي ماني.. يرجع إذن فكر الرئيس الأميركي الهائلة الحديثة وكذا وكذا يرجع بنا إلى فكر قديم جداً، بينما الفيلسوف الألماني نيتشه طرح قضية الخير والشر طرح فلسفي في إطار الحداثة الثانية، أشرت إلى أن هناك فترات في تاريخ الحداثة، نيتشه وفرويد وماركس يمثلون الفترة الثانية من الأنوار..

أحمد الزين: عصر الأنوار..

محمد أركون: نعم عصر الأنوار ونيتشة طرح قضية القيم.

أحمد الزين: لا يمكن أن نقرأ صورة العالم على هذا النحو، ولا يمكن أن تُحل الأمور بهذا الفرز السياسي الحاد للعالم على طريقة الرئيس جورج بوش، بل على معالجة متعمقة وعلى قراءة عادلة ورؤية نافذة لحركة التاريخ والمجتمع، هكذا يرى الدكتور أركون الذي لم ينجو من بعض المضايقات كمفكر مرجعيته الأساس هي العقل.

أحمد الزين: هناك مضايقة من طرف الأوروبيين أو الغرب بصفة عامة، ومضايقة أكبر من طرف المسلمين، مش لي شخصياً لفتح أبواب وفتح فضاءات أوسع لنتقدم في حل المشاكل المطروحة، وهذا جعلني فيما يخصني أنا أكافح في جميع الجبهات، الجبهة الغربية، الجبهة التي تردد ما تفرضه الحداثة علينا دون أن نحقق إلى أية حداثة نشير إليها ونعتمد عليها، ومن الجهة الأخرى رفض وإغلاق الأبواب والفرص من طرف المسلمين الذي يتشبثون بإسلام مجرد عن التاريخ، منفصل عن التاريخ، التاريخ الماضي والتاريخي المعاصر، كأنه مجموعة من القيم السماوية لا تزال سماوية وفي متناول كل مسلم مهما كان مستواه في المعرفة، دائماً كل مسلم يعيش في تلك القيم السماوية والقوة المتعالية كما ذكرنا، ولا يخرجون من هذا المخيال لاجتماع قاهر لأن المخيال يقهر العقل.

أحمد الزين: طيب دكتور محمد ذات مرة ليس ببعيدة كثيراً، كنت أحد أعضاء لجنة تشكلت في باريس تحت عنوان على ما أذكر "من أجل حماية العلمانية" وكان آنذاك الموضوع هو مسألة الحجاب في فرنسا تحديداً، ماذا عن هذا الموضوع تحديداً؟ وماذا عن رأيك في موضوع الحجاب؟

محمد أركون: قضية مطروحة في جميع البلدان الإسلامية، هدى شعراوي في أوائل القرن 19 كانت تطرح هذه القضية وقاسم أمين يعني قضية قديمة، وقضية لم تُطرح على المستوى اللازم، والمستوى اللازم هو المستوى الأنثروبولجي لدراسة العادات والمعاملات في المجتمعات القديمة والتقليدية والدينية والآن الحديثة، يجب أن نبدأ من أصل هذه القضايا، والحجاب يوجد في بعض المجتمعات ولا يوجد في مجتمعات أخرى، عندنا في الجزائر مثلاً في المنطقة التي ذكرتها القبائل النساء دائماً ما عرفن الحجاب إلى أن جاء حرب التحرير، فأصبح الحجاب رمزاً للعبارة عن مطالبة سياسية.

أحمد الزين: أو للتعبير عن الهوية..

محمد أركون: عن الهوية نعم، فهذه قضية سياسية تستغل الدين، ولكن الدين كظاهرة شاملة يعني قضية الحجاب لا شيء بالنسبة إلى ما يشمل عليه الدين، فالدين يرفع المجتمع كله، ويعتني بالمجتمع ككل فكرياً ونظاماً وشرعاً وكذا وكذا، إذاً هذه الظاهرة أصبحت في المجتمعات الأوروبية كما كانت في عهد حروب التحرير أصبحت رمزاً سياسياً ويعني منفصلة عن الدين.

أحمد الزين: طيب دكتور محمد خلينا نرجع شوي بالذاكرة إلى الوراء إلى البدايات، بدايات محمد أركون في الجزائر تلك المناطق القبائلية المتحدر منها طبعاً إلى ثلاث لغات العربية والفرنسية والإنجليزية، يعني ماذا عن تلك البدايات يعني من هو محمد أركون؟

محمد أركون: محمد أركون كسائر الجزائريين الذين ولدوا في قرية متواضعة بالجبل يعني الحياة هناك..

أحمد الزين: قاسية..

محمد أركون: قاسية جداً، والنساء والرجال يعملون معاً في الحقول، وكانوا يستغلون الحقول وهي حقول قصيرة صغيرة.

أحمد الزين: الأهل كانوا فلاحين يهتمون بالحقول؟

محمد أركون: لا لا أبي ما كان فلاحاً ما كنا نكسب حتى قطعة صغيرة من الأرض، ولكن أبي هاجر إلى مدينة وهران، إذاً كان يشغل في حانوت مثل ما نسميها حانوت متواضع، وما أراد أن أذهب إلى المدرسة لأني كنت ولده الأول وفي العائلات عندنا الولد الأول يلزم أن يساعد أباه في اكتساب المعاش، فلذلك أرادني أن أعمل معه في حانوته الصغير المتواضع.

أحمد الزين: ولكن ماذا فعلت؟

محمد أركون: ما عجبني الحال، قلت لأبي هذا يجب.. أنا ناجح في المدرسة خليني أدرس في المدرسة، وكان خالي من أمي ساعدني حتى يقنع أبي أن يتركني في المدرسة.

أحمد الزين: طيب دكتور محمد أركون أنت كما ذكرنا في البداية، منذ 50 سنة تشتغل في قضايا الفكر في البحث من أجل العثور على الحقيقة ربما، ألا تشعر بنوع من الغربة بنوع من الإحباط؟

محمد أركون: إحباط لا، لأن الإيمان بالعقل والاعتماد على اجتهادات العقل، والمساهمة مع آخرين في العالم يؤمنون ويعتمدون على نفس الاجتهاد، يعطي قوة باطنية للإنسان قوة، قوة للكفاح قوة للصبر لأن هذه المعارك تقتدي الصبر.

أحمد الزين: وزمن..

محمد أركون: وزمن والصبر أيضاً أمام الناس الذي لا يتلقون بسهولة، بل لا يزالون يعادون أو يرفضون أو يشتمون وكذا وكذا أيضاً هذا كله يقتضي صبر للاستمرار وللصمود أمام الإعصارات المتتابعة في التاريخ.

أحمد الزين: قد يكون من الصعب الإحاطة بتجربة دكتور محمد أركون بكل جوانبها في لقاء واحد أو قراءة سريعة، إذا أن غناه المعرفي وأبحاثه وكتاباته تستدعي مساحات من الوقت للتمكن من مقاربة فصول هذه التجربة وفهمها، فهذا الرجل الذي صرف سنوات عمره مكافحاً على جبهة التنوير والتحديث لم تثنه عواصف التاريخ، ولم يتعب من طرق أبوابه الموصدة بالجهل، ولم يُحبط من استفحال هذا الجهل ومن الإرهاب الذي يُمارس ضد تجليات العقل وأسئلته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق