2006-10-27

روافد مع الشاعر عبد العزيز خوجة

إعداد وتقديم

عبد العزيز خوجة: نحتاج.. تحتاج بعض الوقت أيضاً للجنون.. نحتاج أيضاً للنزق.. للهوي كالأطفال في أشيائنا حتى الغرق.. حتى تشع عيوننا كالبرق من وهج الألق.. أحتاج لو أغفو على صدر حنون.. إني تعبت من السباق من اللهاث من اللحاق بمن سبق.. أحتاج في عينيك أن أرسو على شط جديد في الأفق.. هيا لنجني.. هيا لنجني من سراب العمر بعضاً من ثوان.. هيا ننمي حبنا المفقود في درب الأمان.. هيا إلى بعض الجنون..

أحمد الزين: عندما تلتقيه يحل الود لكأنّ صداقة قديمة منعقدة، أو لكأن بينك بينه سنوات ألفة وحواراً طال مدارك ومفاهيم ورؤى، وأسئلة مشتركة عن الحياة والوجود، فبعض من قلقه فيك وبعض من نظرته تشبهك، وبعض من انخطافاته وبعض من شعره وتأملاته، لكأن اللقاء هو تتمة للقاءات سابقة، والكلام تتمة لكلام سابق لم ينته فلا تشعر بحرج أو بمسافة، وباختصار أدق كما نقول في الدارجة كأنه في خبز وملح بينك وبين هذا الرجل، الذي يمنحك حضوره ونقاءه وتواضعه صفاءً أو تصاب بعدوى من صفائه الداخلي، ومن منسوب الحب العالي في تكوينه.

الشاعر والدبلوماسي والمثقف والكيميائي سعادة السفير عبد العزيز الخوجة. نادرا ما يجمع المرء بين السياسية والشعر والكيمياء، يعني كيف جاءت هذه الخلطة؟

عبد العزيز خوجة: هي رحلة حياة وتراكم، ربما تراكم معرفة وتراكم ثقافة من هنا وهناك، الشعر طبعاً ربما ولد معي وثم صُقل بالمعرفة وبالقراءة.. الكيمياء دخلتها يعني كطالب في كلية العلوم كنوع من طلب المعرفة، والمعرفة لها أبواب لا أستطيع أن أقرأها بنفسي.

أحمد الزين: طيب إذا قرأت ترتيب هذه الأفعال أو الوظائف الأولوية؟

عبد العزيز خوجة: هي أصبحت جزء من أجزاء امتزجت مع بعضها البعض حتى تكون مني هذه الشخصية أو الإنسان أو هذا الكيان.

أحمد الزين: بداية دعنا نحكي شيء من السياسة، عادة السفراء يعلمون ماذا يحاك في البلاد التي يمثلون فيها بلادهم أكثر من أهل البلاد، إذا كان يعني يمثلون دول ذات حضور نافذ، هل أنت واحد من هؤلاء؟

عبد العزيز خوجة: أنا لا أدعي، لكن طبعاً نحنا أولاً في المملكة العربية السعودية عندنا حساسية مفرطة، فنحاول أن لا نتدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، أو يعني أن نتصرف بشكل محايد وبشكل سفير يعني يمثل بلاده، ويحاول أن يمثل التمثيل الحقيقي مع جميع الأطراف، خاصة إذا كان بلد كلبنان مثلاً فيها أحزاب متعددة وأطراف متعددة وقوى متعددة، يجب أن يكون السفير أن يتحرك في منتهى الدقة وفي منتهى الحذر لكي لا يُحسب على فريق، أو تحسب بلده على فريق أكثر من الفريق الآخر.

أحمد الزين: أحياناً بيعمل مطفأجي مثل ما قلت يمكن..

عبد العزيز خوجة: هذه تساعدني على التحرك ما فيه شك، وتساعد المملكة على التحرك يعني إذا تصرفت بهذه الدقة أو بهذا الحذر فجميع الأطراف تثق فيك، وتستطيع أن تتفاعل معك وتتعامل ما قلت بثقة وبدون حذر، وهذه تساعدني على أن أكون سفير لكل لبنان، ولبنان لها دالة على المملكة والمملكة لها أيضاً دالة على لبنان، فمن الممكن للسفير أن يقوم بدور ما دون التدخل طبعاً في الشؤون الداخلية..

أحمد الزين: هذا على مستوى الدولة ولكن على مستوى معرفة ما يمكن أن يحدث في بلد مثل لبنان، أنت تعرف وضعه يبدو مهيأ دائماً لكوارث، هل يحاك من شيء لهذا البلد الصغير؟

عبد العزيز خوجة: رح نتكلم بكل صراحة إذا توحد اللبنانيون مع بعضهم البعض، وإذا عرفوا هذه الحقيقة أن لا يتعامل أي طرف منهم مع أي طرف خارجي، وعرفوا أن هذه بلادهم ويجب أن يتحدوا جميعاً مع بعض، وأن يقفوا مع بعض يداً واحدة وقلباً واحداً. أستطيع القول إن هذه البلد ستتجنب الكثير بعون الله تعالى من الكوارث أو مما يحاك لها، لبنان هو جزء من منطقة صعبة جداً وجزء من منطقة ملتهبة جداً، وجزء من حسابات إقليمية كبيرة مرتبطة بحسابات دولية أيضاً كبيرة، فأي بلد في هذه المنطقة يجب أن تكون داخلياً موحدة وقوية، إذا استطاعت أن تكون أي بلد في هذه المنطقة قوية لا يستطيع أحد أن يلعب بمقدراتها أو تكون هي ساحة لأي صراع إقليمي أو صراع دولي..

أحمد الزين: طيب خارج إطار ما قرأناه وعلمناه من مساعي ودور الملكة في لبنان، ومساهماتها طبعاً في إعادة إعماره، هل من شيء جديد نحن على غير علم به ممكن للمملكة أن تقوم فيه في المدى المنظور؟

عبد العزيز خوجة: ما في شك نحن كدولة لها ثقلها في المنطقة ولها وزنها وعلاقاتها الدولية الكبيرة نريد أن نساعد لبنان، يعني كما حاولنا في إعادة الإعمار والمساعدات وكل ما تقوم به المملكة الآن بدون شك، يعني إذا كان هناك إمكانية لأن نساعد أي طرف آخر يعني ما عندنا مانع، إحنا علاقاتنا مع الجميع طيبة وممتازة.

أحمد الزين: طيب، سعادة السفير يعني تزامن مجيئك إلى لبنان ممثلاً للملكة العربية السعودية مع أحداث مأساوية يعني شهدها هذا الوطن بدءً من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي المدمر الأخير، هل تجد أن حمل لبنان ثقيل أولاً؟ ثانياً ما هي قراءتك لما حدث أخيراً في لبنان على مستوى الاجتياح الإسرائيلي؟

عبد العزيز خوجة: عمل السفير في لبنان عمل مضني ومتعب، طبعاً يخفف عنه جمال لبنان ما فيه شك وأهل لبنان وطيبتهم وإنسانيتهم، ولكن العمل السياسي والعمل الدبلوماسي في لبنان ما فيه شك صعب، في ظل هذه الأحداث الكبيرة. لكي ينجح السفير ولكي يتابع بدقة كل هذه الأحداث المتلاحقة يجب أن يعمل ليلاً ونهاراً هذا بدون شك..

أحمد الزين: ما هي قراءتك لهذه الحرب ليس فقط كدبلوماسي بل من موقع المثقف الموجود فيك؟

عبد العزيز خوجة: كإنسان وكعربي وكدبلوماسي هذه الأحداث من دون شك مؤلمة وحزينة. كل المنطقة مرتبطة مع بعضها البعض، لا تستطيع أن تفصل على الإطلاق أي حدث عن بقية الدول في المنطقة، وهناك مؤامرات تحاك على المنطقة ككل. و وجود عدو بين ظهرانينا كإسرائيل نتوقع منه الشر الذي يجب أن نستعد له. و ربما قدرنا هذا يجب أن يعلمنا درساً كبيراً في المستقبل، أن نكون أكثر وحدة وأكثر استعداداً وأكثر تفهماً لما يجري في المنطقة، وما يحاك لهذا الوطن الكبير.

أحمد الزين: عبد العزيز الخوجة الدبلوماسي لا يمثل بلاده سفيراً وحسب، بل كباحث أحياناً عن إيجاد معادلات جديدة لهذا التمثيل يستخلصها من تكوينات الأوطان التي يحزم حقائبه إليها، وعبد العزيز الخوجة الكيميائي يدرك مسبقاً نتائج التقاء العناصر وامتزاجها، فأستاذ الكيمياء الذي فيه يعرف كيمياء الأوطان، يعرف منسوب الأكسجين في هوائها وهواها، فيبقي على المسافة التي تجعل لحضوره أكثر فعالية ومعنى. وفي البدء عبد العزيز الخوجة شاعر والشاعر الذي فيه يسبقه على الدوام إلى البلاد قبل أن يحزم حقائبه الدبلوماسية إليها، فعندما يصل تصل معه تلك الصفات، وإن غادر المكان إلى آخر يبقى منه شيء على الأرجح قصيدة وكثير من الحب.

خلينا نحكي شوي بأشياء أخرى، عادة عندما يعني يسلم السفير أوراق اعتماده في دولة ما يأخذ صور تذكارية مع رئيس البلاد، وتتوالى صور أخرى مع سياسيين ومثقفين إلى ما هنالك، ما هي الذكريات والصور التي تحب أن تأخذها عندما تغادر؟

عبد العزيز خوجة: كل البلد تبقى في دفة ذاكرته ككتاب كصفحة، كمية من الذكريات كبيرة وجميلة يحملها الإنسان معه وتبقى في طيات ذاكرته، أحياناً تنبعث ما بين لحظة وأخرى، ويشعر بهذا الحنين كالجنين الذي يصهر في داخله ويحرقه أحياناً. أمضي ويبقى الهوى حلما.. أجري وتبقى المنى آلما.. كأنها صفحة طويت لم تبقي جرحاً ولا ندما.. كأنها قصة وانتهت والعمر يعدو بنا قدما.. لكن هذه الحياة، يعدو الإنسان يعدو فيها بدون توقف وما يقدر أن يتوقف.

عبد العزيز خوجة: هذه لوحة من الكعبة المشرفة أصلية - طال عمرك -من حزام الكعبة، قديمة جداً أكثر من 120 سنة، "اذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبل لمن الضالين".

أحمد الزين: ولد عبد العزيز الخوجة سنة 1942م في مكة حيث بدأت خطواته الأولى في تلك المدينة المقدسة، تعلم في مدارسها وعلى علمائها، وجال في حرمها وبين نخيلها وأشبع بطقوسها، فماذا يعني أن يولد الإنسان وينشأ في مثل هكذا مكان ببعده التاريخي والديني والطقوسي، ويتفتح على ذلك المشهد اليومي في العبادات والتعبير، أي أسئلة تبدأ معه وأي حمل يمثله هذا الانتماء؟

عبد العزيز خوجة: أولاً أعتقد أني محظوظ لأني ولدت في مكة. لكن طبيعتي دائماً كانت فعلاً تطرح علي الكثير من الأسئلة التي تشعرني أحيان كثيرة برهبة حقيقة، حينما أتذكر أنه كان هنا سيدنا محمد يمشي و هنا بُعث، و هنا ولد، و هنا الصحابة، و هنا بداية الرسالة و هنا بداية النور، أروح جبل النور غار حراء، جنبنا الحرم، هذه كلها كل شبر في هذه المدينة يعني يثير الكثير من الأسئلة، وبنفس الوقت أشعر أني أنا محظوظ أني أنا من مكة، وأني أنا ولدت في مكة ونشأت في مكة وبنفس الوقت أشعر أيضاً بمسؤولية كبيرة جداً، و أحسّ بهذا العبء التاريخي عليّ، الذي يشكل نوع من التحديد بالتفكير أو الأسئلة؟

أحمد الزين: طيب، سعادة السفير أنت مثلك مثل كل أبناء ذلك الجيل، يعني كانت النافذة متاحة آنذاك على العالم في الكتاب، ما هو الكتاب الذي أقلق فيك الإنسان، الذي طرح عليك سؤال جديد غير النص الديني وغير النصوص المقدسة.

عبد العزيز خوجة: حقيقة نحن في مكة ما كان عندنا المجال للإطلاع إلى الكتاب، فمكونات السنين الأولى هي كتب التراث، ثم اطلعنا بعد ذلك على العلوم الحديثة والكتب الحديثة والفلسفة الحديثة، فكنا نتلقف أي كتاب يجيء من الخارج سواء من القاهرة أومن بيروت أو من الشام أو من أي جهة. كنا مع الكثير من الزملاء أول المتلقفين نتبادل هذه الكتب فيما بيننا وهناك فرصة للحوار. قلبي وقلبك علمان.. في عشقنا كشف لأستار التجلي.. لا تقولي قد رحلنا في الزمان.. في لحظة اللقيا تماهى كل شيء وانتهى في كل شيء.. من نقطة الصفر الملفع بالبدايات البريئة حيث كنا مثل عصفورين في أعلى الجنان.. طرنا وعدنا للبداية في المكان.. لو كان هذا البحر يذخر بالمداد لما استطعت لأكمل البيت العزيز من القصيدة.. لم أفهم المعنى وهل أرقى.. ولو كنت المعنى ما عرفنا قد نفد.. لكنه دام الهوى وعرفت أنك في دمي أنت الوحيدة.

أحمد الزين: كما يقال سعادة السفير إن العرب معظمهم يولدوا شعراء، من اكتشف الشاعر الذي فيك؟

عبد العزيز خوجة: هو الذي يكتشف نفسه، حينما يكتشف فجأة القمر، يعني حينما يكتشفه ويشوف فيه شيء. فمثلا عندما أكون مع زملاء في نفس السن و أشوف وردة مثلاً فأنبهر من منظرها، بينما هم يمرون عليها مرّ الكرام و ما يحسوا. الشاعر يكتشف نفسه، يحس أنه يرى أشياء لا يراها من مِن حوله، زوايا في الكون لا يراها أحد غيره فيفرح. أنا أفرح لأني رأيت و اكتشفت شيءً، ولأن لي عين غير عيون الآخرين، هذا الوعي من دون شك تجعل الإنسان يكتشف ويقول من أنت..أنا الهيام في كون بلا عنوان.. أنا الربان في أفق بلا شطآن.. أنا ماض أنا آت بلا أزمان.. أنا رفات نورسة على طوفان.. كأني فوق أجنحة الربيع.. تقلبني ولا أشكو تباريحي.. وتمخر بي إلى جرحي وتجريحي.. كأني أمتطي شوقي على روحي.. على الأبواب كم ضلت مفاتيحي.. فما ردوا وما حنوا لتلويحي..

أحمد الزين: طبعاً الرحلة الأطول في بداية الدراسة كانت إلى لندن، حيث درست مثل ما ذكرت الكيمياء وحصلت شهادة الدكتوراه، لا بد أنه فيه لندن كان فيه أسئلة جديدة، هل هذه الأسئلة الجديدة أطلقت بعض اليقينيات عندك؟

عبد العزيز خوجة: ما فيه شك اطلعت على حضارة جديدة ربما كان في صدمة ثقافية كبيرة جداً ما بين عالمين مختلفين، لكن شوف أنا أقول لك ميزة الإنسان في مكة يتأقلم ليش؟ لأنه إحنا دائماً نلتقي بثقافات مختلفة وبحضارات مختلفة ووجوه مختلفة، وهذه تجعلنا نعرف ثقافة الآخرين وحضارة الآخرين، لأول وهلة طبعاً التعامل مع حضارة جديدة فيها حذر وفيها خوف وفيها الكثير من الأشياء ربما المضحكة اللي مرت علينا لكن ما دخلت في اليقينيات..

أحمد الزين: ما زعزعت..

عبد العزيز خوجة: ما زعزعت بعض الثوابت..

أحمد الزين: ما طرحت أسئلة جديدة عليك؟

عبد العزيز خوجة: فتحت لي آفاق جديدة في الكون، عن وحدة الكون وجمال الكون وارتباط الكون كله مع بعضه البعض.. وتحسب أنك جرم صغير وفيك العالم الأكبر، فهي يعني إنسان هذه كلها محاولات لمعرفة يعني.

أحمد الزين: بعض أسرار..

عبد العزيز خوجة: ويمشي الإنسان ويموت وما عرف شيء. مت يا أنا أو كف عني للأبد.. نفذ الجلد.. إما على جمر اللظى قدماي أو فوق المغرد.. واترك يدي لا تعطيني وهماً يقيدني بأغلال من الماضي وأغلال من الآتي وحبل مسد.. اترك يدي لأفكها وخذ الشهد.. اترك أصابعها مراسمها فحبري من دمي أما خباياي فأنا لها مدد.. لا لست قديساً ولا إبليس بلغني بألغاز الأبد.. لكن أنا لا لست أدري من أنا.. أطلق يدي حتماً ستعرفني وأعرف من أنا.. أطلق يدي في الحرف أكتبه ويكتبني على لوح من البلور مسحور الحجاب.. أجلو طلاسمه وأعدوا في جناح البرق في الآفاق أرسم طلسماً.. وأشكل المعنى على طلبي أنا.. أني أنا هذا الكيان قد جاء من رحم الزمان.. قلبي المركب من شياطين وطين.. وعجينة ممزوجة بالنور واللهب المذاب.. كيف التوازن في معادلة الحساب.

أحمد الزين: عبد العزيز الخوجة من الجيل الذي تسنى له أن يعتني في تحصين نفسه دراسة وثقافة ومعرفة، ولعل أسئلة الستينات فتحت أمامه نوافذ نحو منطلقات فكرية وفلسفية وثقافية جديدة ومتنوعة، عززتها سنوات لندن دراسةً واطلاعاً وتفاعلاً، حيث نال هناك شهادة الدكتوراه في الكيمياء ليعود إلى مكة أستاذاً لهذه المادة ثم عميداً ومشرفاً على كلية التربية قبل أن يصبح وكيلاً لوزارة الإعلام، حيث اتخذ مساراً آخر في تجربته العملية.

بعد إنجازك لشهادة الدكتوراه في بريطانيا عدت إلى المملكة أستاذاً وعميداً لكلية التربية على ما أعتقد، ما الذي بعثك على العمل السياسي والدبلوماسي؟

عبد العزيز خوجة: نحنا أتينا إلى العالم في فترة كان البلد في بداية الحركة التنوعية الكبيرة، حيث مجموعة كبيرة من الشباب ساهموا ببناء، الحمد لله، الحركة، عندما دخلت إلى السلك الجامعي في مكة كنت مدرس ثم ترقيت أستاذ، وصرت عميد كلية، وكان لي نشاط ربما لاحظه المسؤولين، وفجأة وجدت نفسي وكيل وزارة الإعلام مسؤول عن أشياء ما كنت أعرفها من قبل. حينها كان صديقنا الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام، وأعتقد أنه هو الذي اقترح اسمي.

أحمد الزين: أنت بتحب تتعلم.

عبد العزيز خوجة: تلفزيون وإذاعة ووكالة أنباء وصحافة وفن وأشياء يعني ما كنت أتعامل معها على الإطلاق، وجدت نفسي أتعامل مع الدولة ككل بصفة حكمي في الشغل الإعلامي، واكتشفت فضاء جديدا وعالما جديدا جميلا جداً وسريعا ومتحركا، وتعرف العالم التعليمي عالم يعني رتيب ومتطور ويعني خطواته ثابتة، الإعلام والشغل الإعلامي عمل متحرك متوثب يتحرك بلحظة يناقض نفسه بلحظة أخرى، خصوصاً بالنسبة للأخبار بالنسبة للسياسة بالنسبة للأمور الأخرى التي يتعامل معها الإنسان مع الأحداث، مع كيف تضع الحدث، كيف تحطه كيف تهمله كيف تجيبه كيف تكبر كيف تصغر، فوجدت نفسي أحس بهذا العالم.

أحمد الزين: بيروت هي المحطة الرابعة في جولات عبد العزيز الخوجة سفيراً لبلاده في عواصم العالم، فقد كان سفيراً لسنوات في تركيا، ولسنوات أطول وأغنى في المغرب الذي له في وجدانه مطرح عميق، وأيضاً في الاتحاد السوفيتي عشية انهياره، ولكل محطة من هذه المحطات عبق خاص بالنسبة له كشاعر ودرس يستخلصه كدبلوماسي، ولعل تجربة الاتحاد السوفيتي استثنائية من حيث معايشته للتحول الدراماتيكي الذي شهده العالم الاشتراكي على نهاية ثمانينات القرن العشرين.

عبد العزيز خوجة: النظام الشمولي استخلصته ما يمشي مع الإنسان، الإنسان ربنا خلقه حرا، لا يمكن أن تجعل الإنسان أو أن تجعل كل البشر متشابهين في إطار واحد، أو تجيء لتؤطر كل الناس أو تحركهم في هذا الإطار، ربنا خلق الإنسان حر، وخلقه يعني وجعله هو يفكر بنفسه، وجعله من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا يمكن أنتجعل الإنسان على نمط واحد أو طبيعة واحدة، فكانت التركيبة بهذه الصورة الشمولية إنك تحرك الإنسان في نمط معيّن مؤداه الفشل..

و لذلك انهار فجأة واحدة، وبعد هذا كل واحد راح لدربه الأول فرجع الإنسان لطبيعته. فحتى بالنسبة للثقافة أنت تلاحظ إن الإبداع الحقيقي يأتي من الفكر الحر في القصة أو في الشعر.. لا يمكن أن تأتي الفنان أو الشاعر أو المثقف أو الموسيقي أو أياً كان وتملي عليه أن يكتب لك أو يرسم لك أو يؤلف لك ما تريد..

أحمد الزين: لكن يبدو أن الكثير من الناس لما يستفيدوا بعد من هذا الدرس؟

عبد العزيز خوجة: لذلك الذي ما استفاد أعتقد أنه سيبقى في حالة من التخلف سيشعر فيها فيما بعد. العالم الآخر المقابل الكبير للاتحاد السوفيتي، طبعاً له سيئاته لكنه على الأقل فيه مناخ الحرية بحيث يقدر الفرد التحرك بإبداعه الشخصي.

أحمد الزين: نعم يعني هل كتبت قصائد ببلاد الثلج بالاتحاد السوفيتي من 7 سنين يعني؟

عبد العزيز خوجة: أكيد كتبت. كتبت هالاتها كتبت الكثير من القصائد في موسكو لأن فضاء البلد يساعدك. أنا أشبه البلد بالأنثى أو بالمرأة، فأحياناً تروح بلدا لا تتفاعل معها، و أحيانا تروح بلدا آخرأ تتفاعل معها وتكتب، و تكتب فيها ..

أحمد الزين: سبع سنين دام بقاؤك في المغرب، سعادة السفير ما الأثر الذي تركه فيك هذا البلد؟

عبد العزيز خوجة: المغرب بلد ساحر الحقيقة، وبلد جميل تشم فيه ريح الأندلس في كل مكان، وأكثر ما درست يعني تاريخ الأندلس درسته هناك في المغرب إنه تشوفه على الطبيعة، ثم تطلع إلى طنجة وتركب العبّارة وتذهب إلى أسبانيا وتكتشف أن الأسبانيين حافظوا على التراث العربي أكثر من العرب في بلادهم. وأعتقد أن لهم فضل كبير في هذا. نحن أمة ربما طبيعة الصحراء لا تجعلنا نهتم كثيراً بالآثار.

أحمد الزين: بتقديرك هل إهمالنا للتراث له علاقة بثقافتنا الدينية التي فيها وعود بأمكنة أجمل من الأمكنة التي نعيش فيها بالدنيا؟

عبد العزيز خوجة: لا، لا أظن ذلك بل هي ثقافة الصحراء و انعدام الاستقرار.. ففي الشعر العربي القديم يبكي الإنسان دائماً على الأطلال ويتركها ويمشي ويروح، إلى حيث الكلأ و المطر و ربما هذا هو السبب في عدم حفظنا للتراث.

أحمد الزين: ربما يكون أحد الأسباب لأن آخرين ما عندهن هذه الثقافة الصحراوية ولكن أيضاً لم يعرفوا المحافظة على هذا الإرث الجميل، بالمغرب يعني المغرب أكيد شغلت لك وجدانك أكثر من سواها بحكم اقترابها من ثقافتك ومن ذاكرتك.

عبد العزيز خوجة: صحيح أجمل سنوات.. من أجمل السنوات اللي قضيتها في حياتي هي في المغرب، ما فيه شك لأن هناك الحضارة فسيفسائية جميلة مركبة، يعني ما بين الحضارة العربية والحضارة الأمازيغية والنفحات الأسبانية والأندلس والفرنسية هناك يعني يلتقي ربما الشرق الغرب بصورة يعني بصورة يعني..

أحمد الزين: عملية..

عبد العزيز خوجة: عملية..

أحمد الزين: مثل التقاء المحيط بالمتوسط.

عبد العزيز خوجة: بالزبط، زي ما التقى المحيط بالمتوسط، فالإنسان المغربي جزء ثقافي مهمة جداً فيه هذا الخليط.

أحمد الزين: طيب سعادة السفير أنت مثل ما ذكرنا كان لك حضور وتمثيل في أكثر من بلد، يعني شو هي البلد اللي تشتاق لها أكثر من سواها؟

عبد العزيز خوجة: يعني حسب نقطة الحنين اللي تنطلق في لحظة ما، حسب ما يعني أشعل الذاكرة في لحظة ما من لهيب من نوع من التوهج، وصفحة يفتحها الإنسان في وجدانه في قلبه في ضميره..

أحمد الزين: ترده دغري على..

عبد العزيز خوجة: ترده دائماً على بلد ما يشعر فيها الإنسان حتى بالعبق بالتراب بالعطر بالموسيقى بكل شيء.

أحمد الزين: طيب لو خيّرت أو لو كان فيه بالقانون بالعالم أنه يكون الواحد سفير دائم في بلد كل الوقت أي بلد تختار؟

عبد العزيز خوجة: لطبيعتي القلقة ولطبيعتي الاكتشاف فيّ أنه يجب إني أنا يعني..

أحمد الزين: تغادر..

عبد العزيز خوجة: أغادر..

أحمد الزين: تغادر وتشتغل بالحنين..

عبد العزيز خوجة: لا يعني هذه ربما تكون يعني قدري أو ربما تكون هذه طبيعتي القدرية في إني أكون دائماً في هذا القلق وهذا الاشتعال الدائم.قهوة المساء عند المساء تقولي لي حبيبتي أخاطب السماء كل ليلة فيثمل القمر وتسقط النجوم بين شرفتي وشهقتي مطر تعال لنغازل السماء في السحر قالت ودندن الهوى ورق في الثمر كم أعشقك نسيت عندها جنونه أو صار دفق خافقي وتر لقهوة المساء نكهة الغوى و صبوة في البن تستعر حسوت قهوتي وبعدها قرأت في القطوف عاشقاً على مشارف قطر تعال نرسم المنى ترنمت وانثار صوتها مرنح الهوى ومسه الخدر ويلمع النداء في عيونها وتسمع المدينة الخبر كأننا سحابتان مس برقنا المدى فسالتا مطر تقول من أنا؟ أقول إنك القدر...[فاصل إعلاني] من جاء بي؟ وأقامني في زرقة الأمواج من مطري ومن يا نجم يا من تاه بي في الأرض يرشدني الهدى الريح تعصف بي إلى قدرٍ ولا أدري وقد ضيعت مجدافي إلى حتفي ستحملني سُدى..أم أنها تمضي بخاتمتي إلى قبب الندى وتزاوجت ذرات عمري بالقلق ويرن في مرح على حلمي صدى همس وشجني و يأخذني ألق عبر المدى ورفيف عطر قد عبق وتفتحت يدنا الأفق هذا أنا يا أنت في بدئي وخاتمتي تلوح وكأننا روحان ترتعشان من وله يبوح هذا أنا ولأن رحلت فإنني تسبيح ضوء قد تلألأ وانطلق ماضٍ إلى أبديةٍ روح تماها في الندى جرح تناثر في الشفق ولأن صمت عن الهوى فلقد حرقت بأنك كوناً بآهات الألق.

أحمد الزين: قرأنا عبد العزيز الخوجة يعني عاشقاً في أكثر من قصيدة ومكان وزمان، أين أصبح العاشق وأين صار؟

عبد العزيز خوجة: أصبح العاشق الآن هنا أحاول أكافح أو أتفاعل، أكافئه أحياناً هنا معه في بيروت، وأحياناً أشعر بالحنين إلى موطني الأصلي حينما سندباد..سندباد شط عن موطني هل من رجوع إلى الصفا يوم سبيلا؟ خبروها عن هوى مغتربكم بعث العمر ضياعاً ورحيلاً فهذه الرحلة الإنسانية الأبدية في داخلي عل الإنسان ينتهي من هذه الرحلة اللي كتبت لي في الحياة، رحلة جميلة ما فيه شك..

أحمد الزين: في بعض شعرك هناك خطابات كانت تأملية تصوفية، يعني كيف بدأت عندك هذه التجربة؟

عبد العزيز خوجة: هي مراحل الحب، والعشق مراحل، يعني يبدأ الإنسان يحب نفسه ثم يحب الأقربين له الوالد الوالدة الأهل الوطن والحبيبة، بعد كل هذا ينتهي به الأمر إلى الرغبة في البحث عن شيء أكبر، إذا الإنسان حب واستقر يصير الحب ألفة، لكن رحلة الحب هذه تبقى مستقرة يكتشفها فجأة الإنسان إنها غير موجودة على الأرض معه، فأين يدوِّر عليها؟ الله أعلم، ويكتشف في النهاية أنّ لا شيء لديه.

لا شيء، لا شيء.. أو في الجبة شيء.. أو تحت القبة شيء.. تقلقني الشمس.. ويحرقني الفجر.. إني درويش متقاعد.. انقطع الشارد والوارد.. إني ماضٍ عنكم.. لست شهيداً أو شاعر.. قلّي يا من خفقات فؤادي طوعاً تهواها.. قلي يا من يحوي أن أفنى.. مأخوذاً بثناه.. قل لي هل سُلبت مني الأشياء؟.. أم أني في لحظات فناء.. لا أدري شيئاً عن نفسي.. خاوية أعماق الكأس.. لكن لا عطش.. لا إرواء..

عبد العزيز خوجة: الشعر حالة تأتي، أو تتفاعل معها أو تدعها و شأنها. حالة تشبه الأيونات الماشية في الفضاء كتلك التي عندك، فإذا كنت شاعراً وعندك أيونات الشاعر المضادة إن كانت سلبية أو إيجابية أو موجبة، فإما أن تلتقط الأيونات اللي مرت عليك وتدخلها مع أيوناتك ويكون لك حاجة داخلية تتفاعل في اللاشعور عندك بالعقل الباطن ومع المفردات اللي عندك ومع التصور اللي عندك وتخرجها مرة أخرى أو تروح عليك.

أحمد الزين: طيب فيه مغنين كثر يعني غنوا من أعمالك منهن صباح فخري..

عبد العزيز خوجة: بالمغرب غنوا.. وعبادي جوهر عندنا غنى لي.

أحمد الزين: شعرت إن هذه القصائد المغناة أجمل ما هي مكتوبة في النص؟

عبد العزيز خوجة: ما في شك أن الغناء يعطي بعد للقصيدة مختلف، يعني الإنسان يحب يسمع كلماته يعني تُغنى أو تقال بصورة أو بأخرى أنا فوضوي..

أحمد الزين: سعادة السفير أنت بالإضافة لعملك اليومي في شغل السياسة والسفارة خصصت ليلة في هذا البيت على ما أظن، ليلة للقاء ثقافي، هل هذا تقليد يعني رافقك في أكثر من مكان أم هو جديد في بيروت؟

عبد العزيز خوجة: لا تقريباً في أكثر من مكان، في المغرب، في روسيا وفي تركيا وفي كل مكان أحاول أن أنظم لقاءات ثقافية، لأن في الواقع هذه فرصة أغتنمها لألتقي بنخبة من المفكرين والمثقفين والشعراء، كي نتبادل الأفكار أو قصيدة جديدة، كتاب جديد.

أحمد الزين: مثل ما يقول المثل أهل مكة أدرى بشعابها، كيف ترى يعني المملكة من زاويتك البعيدة من الأوطان الأخرى، كيف تشوف مستقبلها؟

أحمد الزين: خاصة أنه في هذه الظروف التي تمر فيها المنطقة بشكل عام حيث التيارات الأصولية، في عز هجمتها وعنفوانها نوع من النفق تمر فيه المنطقة.

عبد العزيز خوجة: يعني عارفين المنطقة وهي بتمر بظروف صعبة جداً وواعين لهذه المخاطر، التحرك في المنطقة التغيير اللي بيصير في العالم الأشياء الأصولية اللي أنت ذكرتها هذه كلها طبعاً لها أسبابها، والإحباطات اللي يمر فيها أحياناً الإنسان العربي، يعني القضية الأساسية طبعاً هي قضية فلسطين وقضية تناقض إسرائيل في المنطقة أنا أعتقد هي سبب كل هذه المشاكل، لكن بالنسبة للمملكة العربية السعودية أنا أجزم لك بعون الله تعالى إن الوحدة الداخلية اللي عندنا والتضامن الداخلي اللي عندنا يجعل لمستقبل المملكة مستقبل بعون الله تعالى رح يكون فريد ورح يكون مستقبل مضيء وزاهي، مع الحفاظ على الإيمان وعلى الراية اللي إحنا يعني نؤمن بها بالطريقة الصحيحة ومما يحمل الإسلام من معاني حضارية حقيقةً أنا أعتقد أن المملكة يعني ستكون كما هي الآن، وتنطلق إلى مكان أرحب في هذا الكون وهذه الكرة الأرضية بعون الله تعالى.

أحمد الزين: عادة السفراء اللي يكتبوا مذكراتهم، يعني فيه مذكرات رسمية تتضمن بعض الأشياء بتحصل معهم مسائل ما مسائل، فيه مذكرات في طبعة تظهر وطبعة في الخفاء عم تكتب مذكراتك؟

عبد العزيز خوجة: أكتب نقاط إي..

أحمد الزين: نقاط عامة ولا نقاط خاصة؟

عبد العزيز خوجة: نقاط خاصة ونقاط عامة، لأنه في أحداث فيه أحداث لا بد إنك تكتبها في.. تبقى في ذاكرتك بالتفصيل، أنه ربما حينما يستريح الإنسان من هذه الرحلة إذا كان هناك وقت للاستراحة ربما يستعيد بعض هذه الأشياء ويحاول أن يسترجع بعضها.

أحمد الزين: نعم، لمين تشتاق أكثر شي بس يحبك الشوق؟

عبد العزيز خوجة: يعتمد على اللحظة مثل ما قلت لك هي كلها موجودة في الذاكرة ومخزنة بطريقة أو بأخرى، أحياناً بتشم ريحة بخور معين أو عطر معين بيخطفك إلى مكان، تسمع أحياناً أغنية بتشوف أحياناً أي منظر في أي مكان فتشعر بشوق غريب عاصف جامع جارح وحنين يغتصبك من كل شيء.

أحمد الزين: يقول فيه جورج جرداق جاء إلى السياسة من الشعر، ومن جاء من الشعر إلى أي من وظائف المجتمع وقد علا صوت الفن لديه على كل ما عداه من أصوات هو إنسان صفا ضميره وسما خلقه، واهتاجه الشوق إلى الينابيع، وتوهجت في أعماقه مشاعر المحبة والرحمة وعشق الجمال. يحمل عبد العزيز الخوجة نفسه إلى القارئ من دون غطاء ليقول له إن الشعر وحده يعيد إلى الأرض طهارتها الأولى، وإلى الإنسان صدقه وعفويته واعترافه بالتلاقي الدافئ بين الذات الداخلية والطبيعة الخارجية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق