2006-12-01

روافد مع الشاعر شوقي بزيع

إعداد وتقديم

شوقي بزيع: البيوت طيور تزقم أفراخها لوعة كلما ابتعدوا عن حديد شبابيكها المائلة.. والبيوت جسور الحنين التي تصل المهد باللحد.. ريش المغامرة الأم.. طين التكاثر.. سر التماثل بين الطبيعة والطبع.. بين الجنازة والقابلة.. والبيوت سطور يؤلفن بحرها كالقصيدة بيتاً فبيتاً لكي نزن الذكريات بميزانها كلما انكسر اللحن أو تاهت البوصلة.. والبيوت فرابيسنا الضائعة تواصوا إذن بالبيوت.. احملوها كما السلحفاة على ظهركم أين كنتم وأنّا حللتم.. ففي ظلها لن تضلوا الطريق إلى بر أنفسكم.. لن تملوا حجارتها السود مهما نأت عن خطاكم مسالكها اللولبية.. لن تنحنوا فوق مهد أقل أذىً من قناطرها المهملة.. ولن تعرفوا في صقيع شتاءاتكم ما يوازي الركون إلى صخرة العائلة وحرير السكوت.. تواصوا إذن بالبيوت.. استديروا ولو مرة نحوها ثم حثوا الخطى نحو بيت الحياة التي لا يموت.

أحمد الزين: على بدايات صيف هذا العام أخذنا شوقي بزيارة إلى قريته الجنوبية زبقين، حدثنا عن المكان عن أهله وشجره وهجراته وبيوته، وأشرفنا من على سطوح منزله على طفولته الراقدة وقرأنا على منازله قصيدة البيوت، كان ذلك قبل حرب تموز بأيام، لم يكن هو ولا أحد يتوقع أن القصيدة التي أوصى بها بالبيوت باتت كحدس ما ستكون عليه المنازل بعد أيام، حين تحول الجنوب إلى ركام بعد حرب أخرى، ويعود شوقي ثانية إليها قائلاً: رحت أمشي كأني الجنازة والميت والقبر نحو البيوت التي جثمت قرب أحزانها كالطيور المدماة.. حتى إذا يئست من رجوع بينها انحنت فوق صفرة أيامها كالعجائز.. تلك البيوت التي صدأت كالمفاتيح في أصص الزهر، والمستعادة كاللغز مع كل ريح تهب.. البيوت التي لم تجد من تناديه في ذروة الخوف إلا الفراغ المصوب من فوهات الكوابيس نحن الوسائد.. تلك البيوت التي أفلتت مع مزاريبها من فخاخ الشتاءات ماذا أقول لها الآن في ظل أي الصفوف سأغفو على صدرها مثلما كنت أفعل طفلاً.. ذاك البخار الذي يتصاعد من جوفها مثل أرواح موتى بعيدين من سوف يرفعه عن أباريق شاي الصباح.. رحت أمشي مع العائدين ولكن إلى أين؟ يسأل كهل سماء أشاحت بسكانها عنه.. والناس يستنطقون الركام الذي كانت قريتهم قبل شهر وعشرين قبراً ولا يبصرون سوى قطع من جذوع الحياة التي انتصبت فجأة في المكان.. ولا يسمعون سوى الحشرجات التي علقوها على سفح أعمارهم وهي تهرم.. لم تبقَ كسرة دمع لكي يمضغوها مع الخبز.. لم تبق خابية لإدخار الحنين.

يوم أمس ذهبنا إلى مسقط الرأس إلى بيت الأهل في القرية مكان الولادتين مكان ولادة الشاعر ولادة القصيدة، هل ما زلت تعثر على يعني أطياف تلك الأشياء على أطياف شوقي في تلك الأمكنة؟ وبتقديرك يعني لو بقيت على مقربة منها أو في داخلها كنت قدرت كتبتها كما كتبتها؟

شوقي بزيع: أنا تعجبني هون رواية وعلى الأخص عنوان رواية لميلان كونديرا العنوان اسمه "الحياة هي في مكان آخر" أنا أشعر لو كنت أنا مقيم في مسقط رأسي كان مصدر كتابتي سيأتي من مكان آخر، وسيتحول مسقط الرأس نفسه إلى مكان عادي جداً مكون من بشر وناس وحجارة وتفاصيل صغيرة وخناقات أحياناً بين الناس، تصير اليومي والنثري والمعيش، ولكن عندما انسحبت من مسقط الرأس وجيت على المدينة أتاح لي هذا الشيء أن أستعيد عبر اللغة وعبر القصيدة وعبر الحنين كل قصاصات ذلك العالم الذي كان والذي لن أعثر عليه ثانية، حتى هلأ لو رحت على مسقط رأسي ما رح شوفه مثل ما بشوفه بالقصيدة لأن العين التي تراه هي عين أخرى.

أحمد الزين: بتقديرك شوقي ليش الحنين.. شو سر هذا الحنين المكان الأول مكان الطفولة؟ هل لكون هذا المكان المفتقد أو الزمان المفتقد يسمى غالباً الزمن الجميل الضائع، هو لا يكون جميل يكون ضائع بس مش بالضرورة يكون جميل، يمكن يكون فيه الكثير من الشقاء الكثير من الحزن، ليش هذا الحنين فقط لهذا المكان يعني؟

شوقي بزيع: ربما إنه الطفولة والمكان الأول هم بمثابة المخزون الأول والمي عند النبعة تكون أكثر شفافية ففيه نوع من الطهرانية تكون، ثاني شيء لأنها مرتبطة بحياتنا نحنا فنحنا لما عم نحن للأماكن الأولى عم نحن لحياتنا في تلك الأماكن، من هون بس فيه فكرة أطلال عند العرب أنا برأيي بغير محله اللي عمله أبو نواس وغيره وربما تم لأسباب شعوبية لا مجال لذكرها الآن، ولكن أهم فكرة أنا في رأيي انعملت بالشعر العربي هي فكرة الطلل أو الأطلال، لكن الفن لا يمكن أن يعيش إلا يتغذى من هذه الفكرة، لأنه كل مكان هو.. كل مكان سابق هو طلل المكان اللاحق، كل لحظة هي طلل للحظة التي ستأتي فيما بعد، هلأ هالجلسة اللي عم نعملها مع بعض ستصبح أطلال فيما بعد، وسنتحسر عليها في شيخوختنا المقبلة إذا أجت من ما عم نتحسر هلأ على صدامنا الأول.

أحمد الزين: طالما عم نحكي عن الطفولة لنبدأ من تلك الطفولة من القرية اللي ولدت فيها، حدثنا شوي عن شوقي مثل ما حدثتنا عن أيمن بقصيدتك أيمن القصيدة المشهورة اللي لحنها مارسيل خليفة، طبعاً أنت المولود على بداية الخمسينات كان المشهد الجنوبي أنذاك هيك مثل مرآة لضياع فلسطين، للنكبة، وللشتات الفلسطيني شو بتخبرنا عن تلك الفترة بالتحديد؟

شوقي بزيع: في عشرات المرئيات ممكن نخبرك ياها وانعكست في شعري فيما بعد على شكل قصائد أو شكل قصاصات أو شكل صور متباعدة، لكن من المشاهد التي لا تروح عن ذهني أنا هو مشهد ثلاث شجرات على الأفق الجنوبي الأخير كنت شوفهن شجرات كينا عاليين جداً يشكلوا الحد الفاصل بين لبنان وشمال فلسطين المحتلة، فكنت دائماً أطلب من بيّ أروح على هديك الشجرات، غريب الإنسان دائماً يحب الأفق يحب يعرف يسبر غور الأفق، وما بيعرف إنه لما بيوصل للأفق فيه مكان آخر وهكذا.. ربما الأفق يشبه المرأة يشبه القصيدة يشبه كل شيء نحبه، فكنت أحب روح لهونيك لأنه بيي على طول كان يقول لي ما فينا نروح لأنه فيه وحش موجود هونيك، والغريب أنه ما كان يقول إلا الصدق، لأنه فعلاً تبين إنه فيه وحش، كان يقول لي رمزية العدو الإسرائيلي، لكن فعلاً هون أهمية تحرير الجنوب إنه أول عمل عملته لما حُرمنا من رؤية تلك الشجرات على مدى أكثر ربع قرن، أول شيء عملته أنا وأهلي بعدهن اللي بعدهن أحياء لحسن الحظ وأخوتي جميعاً رحنا زرنا الشجرات الكينا الواقعين عند بركة ريشة، وكان فرح غامر وانبسطت فلسطين أو على الأقل شمال فلسطين كله تحت أعيننا، من المشاهد مثلاً التي تؤكد جمالية المكان وروعته هو مشهد قد يكون أسطوري إغريقي يشبه ألف ليلة وليلة هو مشهد المرايا اللي موجزه بثلاثينات القرن الماضي حاول أربع أشخاص من قريتي زبقين في جنوب لبنان أنهم يسافروا باتجاه أفريقيا مثل الناس اللي عم تهاجر من لبنان نتيجة الفقر والعوز، والقرية لأنها بلد زراعي فالفلاحين متمسكين بأرضهم ما فيه عنا تقليد هجرة كان في تلك الفترة فحاولوا الناس أن يثنوا المسافرين عن قرارهم لعلهم يرتدعوا فما قبلوا، أخذوا قرار نهائي ودعوهم أهل القرية على مشارف صور وكانت الدروب اللي يسلكوها مكسوة بالغابات والسنديان وغيره، وأخيرا ًلما طلعوا من صور طلعوا بالمركب اللي ينقلهن باتجاه مرفأ الإسكندرية وصولاً إلى الغرب الإفريقي، فالناس لما بدأ المركب بعرض البحر المواجه للقرية عنا وشفته أنت لما طلعنا صورنا فوق شعروا إنه هنّ مش متأكدين إنه الناس يلي بالمركب يشوفوا أهل القرية ومش متأكدين إنهم عم يتابعوهم بعينيهم يشعرونهم إنه نحنا معهم قلباً وقالباً، اقترحت إحدى نساء القرية أن يقتلع الناس درف الخزائن من البيوت وطلعوا فيها أسطح البيوت وصاروا يلوحوا بالمرايا قبال البحر، فبدت المرايا وكأنها حقل من الضوء مشتعل كل شمس الجنوب كل شمس المكان كانت تلمع قبال المسافرين.

أحمد الزين: هذا النص كتبته مرة نثراً..

شوقي بزيع: نثراً كتبته نثراً.. وأتمنى أكتبه شعراً أو يجي روائي بركي أنت أو حدا من الأصدقاء الروائيين يكتبوا لأنه فعلاً أسطوري يعني، طبعاً المسافرين عندما شافوا لمعان المرايا أدركوا حقيقة الأمر وأجهشوا بالبكاء، ثلاثة من الأربعة رجعوا من الإسكندرية لأنهم ما قدروا يكملوا أمام هذه الحقيقة الرائعة الضارية المؤلمة إنه المكان عم ينده لن، الشخص الرابع اللي كمل على أفريقيا مات بالملاريا، تصور وكأنه مات ملعوناً و مطروداً أو مقتولاً بلعنة التراب من بعيد.

هذه الأماكن ما كانت شغلة يعني محض مصادفة بحياتي، كانت الحدث الأساسي اللي تكونت قصيدتي منه لأنه ما فيه شعر غني بلا طفولة غنية، والطفولة الغنية هي اللي بيكون مسرحها يكون هالقد واسع، كم من المياه من الأصوات من الرياح التي تهب من كل صوب من الغيوم كل هذه الأشياء مختلطة طبعاً مع أنين البشر مع أوجاعهن مع أفراحهن، الأعراس اللي كنت محفوف فيها وأنا وصغير أغاني الحصادين، وأنا باعتقادي إن الشعر ليس شيء أو الفنان أو الكاتب سوى طفولته مضافاً إليها بعض الهوامش الإضافية التي تأتي فيما بعد، ولكن شرط الشرط الأساسي حتى نستعيد هذه المرئيات وهذه الأماكن وهذه البيوت الأولى كما ترى واللي بقيت تقريباً بموادها الخام موجودة إنه نغادرها، لأنه لما نقيم فيها منصير كما لو إنا نحنا وياها شيء واحد، ما بيعود فيه مسافة للرؤية، ما مننتبه لها أبداً، فحتى نشوف وجوهنا بالمرايا لازم نبعد عن المرايا قليلاً.

أحمد الزين: من هذه التفاصيل جاء شوقي بزيع، من مواويل أمه وشقاء.. وعفر التراب، من الشجرات الثلاث على الأفق مع فلسطين، من أودية أيمن ومرايا الهجرات الأولى.. من فرح مقصوف قبل اكتماله، ومن بيت صرف الوالد عمره في تأليفه ليحمي الأولاد من الوحش المتربص على الحدود، من هذه المهاد ومن على هذه التلال بدأ خطوته في شتاءات بعيدة نحو القصيدة، يعود في كل مرة في مرثية إلى البيوت التي تبنى بعد كل دمار، وإلى القصيدة التي تولد من زوايا الحنين. يقول: لم تقدنِ إليها الخطى حين عدت.. ولا أمل يائس بالعثور على صرخة أقفرت.. أو نجوم تشظت على ضفتي جني من دخان.. لم يقدنِ الهواء الذي لم يزل بعد حياً ولا حفنة من روائح غائرة في جروح المكان.. ولا مشية القهقرة كي أرى من جديد قوافل موتاي عائدة كالثمار إلى جوف أفلامها الأم.. لا شيء من كل هذا فقط رغبتي في الرجوع إلى أي مهد يسيلني كالمياه على ضلعه كي أصفي حسابي مع العمر في لحظة حاسمة.. فقط كي أسير الهوينة وراء بقايا الحياة التي أنجبتني.. وأبحث عن فسحة للتأمل فيما يهيئه البرد من نذر قادمة.

أحمد الزين: كل امرأة أحبها تؤكد استحالة النساء.. فكلما مشيت خطوة على طريق روحها أعود خطوتين للوراء.. وكلما طوقت خصرها بساعدي تراجعت إلى الخرافة.. كأنما أحب ليس امرأة بعينها بل المسافة.. يعني هذه المسافة التي تظن أنك تحبها إلى أين أوصلتك؟ لوين وصلتك؟

شوقي بزيع: هاي المسافة هي الأمر الضروري جداً لإقامة أي علاقة مع الآخرين أو أي علاقة مع الفن، دائماً كنت أحس إنه مع الآخرين مع البشر مع نساء ورجالاً لازم يكون فيه مسافة بالصداقة بالحب بالكراهية بكل شيء، حتى تعطينا تمنحنا مساحة للرؤية والنظر لأنه لنشوف الأشياء بوضوح لازم تبعد عنا قليلاً، من ناحية ثانية المسافة ضرورية بيننا وبين المرأة اللي نحبها لأن الغياب وحده هو وقود الكتابة ووقود الإبداع، عندما تتحقق المرأة بالكامل وتصبح ممكنة ومتاحة بشكل يومي أعتقد بأنها تلغي مساحة القصيدة، القصيدة لا تأتي إلا من حيث يأتي الشغف والحرمان والبعد، ولذلك باستمرار كنت أحس إنه ضروري إن المرأة تكون غير متاحة وصعبة ممكن تتمسك بالحالات الصعبة جداً أو المتعذرة أحياناً ولكن حتى أعطي للشعر إنه هو يحتل هذه المساحة الشاغرة..

أحمد الزين: والمرأة هي الوقود يعني بدناش نقول الوحيد شبه الوحيد للقصيدة عند شوقي بزيع؟

شوقي بزيع: بمحل معين ممكن يعني الأنوثة إذا بدك، لأنه أنا أعتقد إنه لا شيء ينمو خارج الأنوثة، هذا الكون بحد ذاته حتى تكوينه عبارة عن رحم كبير نحن نسبح في داخله، ويمكن هون المأساة أنه نريد أن نصل إلى قرارة الأنوثة ونحن نسبح في داخلها فهذا الشيء من الصعب تحققه، فبالنسبة لي كان دائماً أشعر إنه أنا جزء أو بحاجة إلى أن أعض ما أشاء أو ما استطعت من هذا النهر الكبير الذي يبدأ من حواء وينتهي عند آخر امرأة ولدت قبل ثوان في مكان ما من العالم، أعرف إنه من الصعب جداً إنه نقدر نتوحد مع النهر، ومن الصعب جداً نشرب كل مياه النهر، ولكن ربما هذه الاستحالة أيضاً أو هذه المسافة بدورها هي اللي بتخلينا إنه نكتب.

أحمد الزين: طيب شوقي بين أول قصيدة نشرت لك هي كانت عام 1976 بعنوان "عناوين سريعة لوطن مقتول" وأنت عشت تجربة بيروت طبعاً قبل الحرب، قبل أن تدخلها أو تدخل بيروت في دورتها الدموية مثل ما بتقول، وتقول وقفت على باب تلك المدينة أحصي دم الذاهبين إلى حربها، أين كنت آنذاك؟

شوقي بزيع: أنا عشت قسم من حياتي الأولى في القرية وقسم آخر في مدينة صور تلميذاً يعني لأنه ما كان عنا إلا مدرسة ابتدائية والمرحلة التكميلية والثانوية في صور كانت، وبعدين التحقت بكلية التربية في الجامعة اللبنانية في بيروت، طبعاً تبلورت تجربتي الحقيقية في بيروت لأنه كنت أنا بالأساس اكتب شعر موزون مقفى، كتبت بداياتي أسجال وأشعار شعبية بالمحكية، وبعد ذلك لما كتبت أيضاً قصائد موزونة مقفاة قبل ما أتعرف على الأوزان الخليلية، يبدو أنه بقوة يمكن الموهبة أو الاستعداد الفطري وحده، ولكن لم أطلع على القصيدة الحديثة إلا في كلية التربية متتلمذاً على أدونيس وخليل حاوي وأنطون كرم و ميشال عاصي يعني كوكبة من الشعراء والنقاد..

أحمد الزين: طيب شوقي هيك أنت عُرفت كما يعني أبناء جيلك أكبر شوي أو الأقل بهالسرب إذا صح التعبير سرب شعراء الجنوب من الكتّاب، وقد تكون هذه التسمية في حينها هي لصالح انتشار الشعر محلياً وعربياً لما يعنيه الجنوب من جهة كرمز كمقاومة يعني كخط مع العدو، بتقديرك هل هذا التحديد أو هذا التوصيف للشعراء هو لصالح القصيدة في المدى البعيد؟

شوقي بزيع: شوف مو لازم ننكر إنه فيه ظواهر مماثلة صارت بالشعرين العربي والعالمي، فيه ظواهر مثلاً شعر المقاومة الفلسطينية كان قبلنا وأيضاً نُسب إلى قضية، مثلاً بإسبانيا كان فيه شعراء نسبوا إلى سنة شعراء 1927 كما أعتقد اللي هو جيل السكندري ولوركا وغيرهن من الشعراء، أحياناً الإعلام يحب يصنف يعني مجموعة من كتّاب أو من رسامين أو مفكرين يردهن.. أو لسنة أو لظاهرة، لأنه أنا أذكر مع تسمية شعراء الجنوب سُمينا أيضاً شعراء الجمعة اللبنانية بفترة، لأنه كان ينظم مهرجان تماماً مهرجان شعر سنوي وأنا على كل حال كان المهرجان هو بسبب انطلاقتي، لأنه مرة أخذت جائزة الشعر بالجامعة اللبنانية سنة 1972، أيضاً سُمينا بفترة شعراء السفير كنا ننشر كلنا بجريدة السفير، وهنّ نفس الشعراء من سُموا بشعراء الجنوب، بس أنا أقول إن القضية مش هون مش التسميات نحنا مش سبب لها، لأنه كان فيه مهرجان شعر اسمه مهرجان الشعراء الجنوب إنما حتى هذه المهرجان..

أحمد الزين: لأنه هي التسمية أنا سؤال التسمية بتقديرك آنذاك وليس إنه ساهمت بانتشاركن على المستوى اللبناني والعربي لكون الجنوب هو خط مواجهة مع إسرائيل؟

شوقي بزيع: جزئياً ولكن أساءت لنا فيما بعد على طريقة المقاومة الفلسطينية، يعني بفترة استخدمنا سياسياً باعتبار إنه نحنا رديف الثقافي والإبداعي للمقاومة اللبنانية والجنوبية ولقضية الجنوب اللي كانت ملتهبة وما زالت على كل حال، لكن سرعان ما تتراجع الأسماء واللافتات ولا يبقى إلا الشعراء كأفراد، تعرف بالأول ينطلقوا كلهن كمجموعة كسرب مع بعضهن هيك الشعراء أو الروائيين أو غيرهن اللي يشكلوا ظواهر، لكن فجأة يتميز الغث من السمين والحقيقي من المزيف ويبقى..

أحمد الزين: يلعب الزمن مصفاة..

شوقي بزيع: ولذلك قسم من تلك الأسماء تراجع تجربته تراجعت وقسم استمر، يعني اللي عنده قدرة على الرؤية وعلى سبر غور الحياة والبحث عن مناطق جديدة بالكتابة.الشاعر دائماً يكتب ما يجهله.. دائماً يتبع سهماً غير مرئي.. ونهراً لا يرى أوله.. هائماً في كل وادٍ ينهر الأشباح كالماعز عن أقبية الروح.. وكالساحر يلقي أينما حل عصا الشك ليمحو بعضه بعضاً.. مقيم أبداً في شبهة البيت ولا بيت له.. كلما همّ بأن يوضح يزداد غموضاً.. وبأن يفصح يزداد التباساً.. والذي يكتبه يحجبه.. هو يدري أن بعض الظن إثم.. ولذا يومئ للمعنى ولا يقربه.. يدعي الشاعر أن الشعر ذئب.. فيقول الناس إن هو إلا شاعر والشعر أضغاث رؤى خادعة أعذبه أكذبه.. لم يصدق أحد ما زعم الشاعر.. لم ينتبه الناس إلى الموت الذي ينهش في هيئة ذئب جسمه الرث لكي يستخرج المعنى الذي في قلبه.. الناس نيام فإذا الشاعر مات انتبهوا.

أحمد الزين: لكي تعرف الشعراء وسواهم من المبدعين اذهب إلى أمكنتهم الأولى هناك تعثر على سرهم، على مصادر الحنين، ومعجم المشهد، وقاموس المفردات البكر، وإذا كان المشهد جنوبياً من هذه الأرض، تعرف سرّ الألم وسرّ الجرح، في الحلقة السابقة أخذنا شوقي إلى جنوبه بزيارتين: الأولى لتفقد أحوال الأهل والبيوت وأماكن الصبا فتجوّلنا هنا وهناك، تجوّلنا على شاطئ بحر صور ودخلنا السوق القديم في المدينة، هنا وهناك كما يقول: صرفت سنوات عمري خلف المسافة بيني وبيني، وكتبت أولى القصائد، في هذه المدينة كنت تلميذاً وعدت إليها بعد تخرجي من كلية التربية في بيروت أستاذاً قبل أن تأخذني بيروت ثانية إلى مختبرها الهائل، في الزيارة الثانية عدنا إلى زبقين لتفقد ما بقي من الأهل والبيوت بعد زلزال الحرب التي طحنت الكرة، من تلك الغيابات والعودة تأتي قصيدة شوقي من البرزخ الفاصل بين الموت والحياة بين الحضور والغياب تأتي القصيدة لتمكن الشاعر من مزاولة رحلته وزياراته حيث يقول:رحت أمشي وصولاً إليوقلت لنفسي وقد غرقت في وساوسها ما سيشفع بي أن تلك الزوايا التي كنت خبأت في ظلها برتقال الصبا سوف تعرفني والأسرة أو ما ترسب من هدهدات على جانبيها ستعرفني ولن تتنكر لي نبتة عرشت في ثبات النوافذ أو خشب منهك تحت ظهر السنين.

أحمد الزين: طيب طالما عم نحكي عن الشعر خلينا نتحدث شوي عن قصيدتك يعني أنت شوقي بزيع لم تذهب على ما أظن إلى القصيدة المنثورة أو النثرية قصيدة النثر، حافظت على أمرين في كل شغلك هو التفعيلة والغنائية، يعني هذا الفيض الغنائي كيف تشكل؟ يعني أين مصدره؟

شوقي بزيع: أنا بعتقد إنه ما فينا نختار أنفسنا نحنا، يعني هو ولد معي، وفعلاً أنا أحسست بأعراض الشعر مبكراً جداً، يعني كأنه جزء من دور الدم، من العصب يعني.

أحمد الزين: مليحة هاي [يضحك] أعراض الشعر مثل هاي الأعراض..

شوقي بزيع: مثل الأمراض المزمنة مثل أي شيء، ولكن مرض جميل رغم عذاباته يعني، فأول ما كتبت أحمد كنت أكتب دلعونا والزجل وكنت أكتب أغاني للفلاحين بالأعراس، بالمآتم أكتب إذا صار مشاكل بالضيعة أرخ لهذه المشاكل بقصائد زجلية، كلها كانت تطلع موزونة، قبل عم قلك قبل ما أعرف العروض فمعناها أن الإيقاع وهذا جزء من الموهبة نفسها

أحمد الزين: في حدا بالعيلة جد كذا له علاقة؟

شوقي بزيع: جدي لأمي كان.. كان شاعر أيضاً بالسليقة وكان يكتب شعر موزون مقفّى، وثانياً أنت حكيت عن الشعراء عن الجنوب كأرض وكحاضنة كبرى لهالناس، فلذلك ارتبط عندي الشعر عضوياً بالإيقاع من الأساس، وأنا سبق وسئلت ليش ما بكتب قصيدة نثر؟ لأني ما بعرف أكتب قصيدة نثر، وهون القصة مش أنه تواضع.

أحمد الزين: يعني في ناس ما بيعرفوا بالتفعيلة أو الموزون ولكن يكتبون النثر، طيب بتعتبر هذا يعني دليل عجز يعني إنه..؟

شوقي بزيع: مش بالمطلق أنا مثلاً أقول أنه لو كان الشاعر أصلاً عنده موهبة الإيقاع ويعرف الوزن والقافية يكون محصناً أكثر ويكون عنده مزوّد بمهارات عالية أكثر، حتى في تقطيع القصيدة النثرية حتى في تقنياتها يعني، لأنه فيه كثير من شعراء قصيدة النثر ما بيعرفوا الموزون من غير الموزون، ما بيعرفوا يقرؤوا قصيدة موزونة على الإطلاق يعني، أنا بعتبرها أنها مأخذ ولكن من دون ما ألغي إمكانية موهبتهم، بدليل أن محمد الماغوط كبير شعراء النثر العرب مع أنس الحاج، ما كان يوزن ما كان بيعرف.

أحمد الزين: هو ما كان شاعر باللي كاتبه إذا كان هذا شعر!!كتب حالة معينة.

شوقي بزيع: هذا جمال البديهة.

أحمد الزين: هذه أهميته لمحمد الماغوط، هذا السؤال بيخليني يعني بيودّينا لسؤال آخر، سؤال عن الحداثة، بالنسبة لك شو هو معيار الحداثة؟ شو مفهومك للحداثة؟

شوقي بزيع: مهم جداً إنه نستشهد بيعني بشعار رفع ذات يوم في إحدى المجلات، "هنا، الآن" ممكن تلخص تماماً مفهوم الحداثة، يعني بمعنى إنّو ننطلق من مكان معين محدد ومن لحظة معينة، أنا برأيي إنه أقرب نقطة للعالمية هي النقطة التي كنا نقف فوقها، مش العالمية السياحية اللي منروح منجيبها من محلات ثانية، فلذلك اللي بيتوهموا أنهم إذا كتبوا عن عمال قصب السكر في كوبا أو عن عمال.. أو عن مناجم بسيبريا بيصيروا عالميين، هذه عالمية سياحية.

أحمد الزين: محمد الماغوط بعد قال فيه يقتل مرته بالفراعة وبيصير عالمي تكتب عنه الجرائد.

شوقي بزيع: إي تماماً، يعني في عالمية مصطنعة متوهّمة نجيب محفوظ صار عالمي من دون أي يغادر أزقة القاهرة القديمة يعني، ولذلك أنا مؤمن بالتصاقي بالمكان، لأنّو أحمد كتير مهم نتذكر قول أبي العلاء: أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر؟ في كل نفس تنطوي نفوس الناس جميعاً كل ما حفرنا بداخلنا إذا فتنا على حالنا لجوّا نلتقي مع ذوات الآخرين.

أحمد الزين: تكتشف العالم.

شوقي بزيع: تماماً، لأنه في الذات تلتقي مياه الأرض الجوفية وكل الناس بيتصلوا ببعضهم في مكان ما، بعيداً عن العصبيات الخارجية وعن الخلافات السياسية وغيرها.

أحمد الزين: طيب بتقديرك ليش الحداثة طالت فقط.. إذا اعتبرنا طبعاً الشعراء مثقفين بالآخر منتبهين لحركة التاريخ وحركة المجتمع، طيب ليش انشغل عالحداثة على مستوى القصيدة فقط مش على المستويات الأخرى في المجتمع؟ إلا إذا استثنينا بعض المفكرين اللي اشتغلوا على بعض النصوص التراثية يعني؟

شوقي بزيع: أنا بتقديري أن كل شيء يجد جوابه في ما نحن عليه على مستوى الواقع السياسي والفكري والاقتصادي وكله بيلحق بعضه، نحنا ما أنجزنا تجربتنا الحداثية الخاصة فينا، وحتى ننجزها على الأقل لازم نعمل أمرين، نحقق شرطين: شرط استعارة العقل وهو معطل بالغالب في مجتمعات غيبية قائمة على الخرافة، على الطقوسيات الجاهزة والبالية وغيرها، والشيء الآخر استعادة الحرية في مجتمعات غير حرة وغير ديمقراطية وإنما على التعسف وعلى إلغاء الفرد كقيمة وإلغاء المواطنية كأيضاً كقيمة، كل شيء يتحول ساعتها إذاً إلى ما قبل الحداثة، يعني ما قبل العصر، وما قبل مجتمع مجتمعات اليوم، وأنا برأيي ممكن تجزئة الحداثة، يعني فيه شعوب ممكن تعمل حداثات تقنية، وما تعمل مثلاً بالمقابل حداثة أدبية إذا فرضنا، فيه شعوب ممكن تعمل تقنية متطوّرة ونظامها السياسي استبدادي ومتخلف جداً وإلخ.

أحمد الزين: يمكن القصيدة لأنهه فيها مقدار، فيها هامش.. فيها هامش من أنك أنت ترمّز أو تستخدم الاستعارة والمجاز وتلعب عاللغة ما حداش بيطرق بابك وبيقلّك عم تدق بالمحاظير، يعني بعكس الفكر، الفكر إذا بدك تفوت على قلبه وتنقده وتحدث هذا الفكر اللي أنت حكيت عنه الخرافة، أتصور الأمر بيكون أصعب؟

شوقي بزيع: مع العلم أنه أنت بتعرف إنه هلأ مسألة التكفير ومسألة الرقابة عم تطال كل أنواع النصوص وعم تفوت عالقصيدة الحديثة، يعني صاروا يضيقون ذرعاً حتى بالمفردة لوحدها أو بالعبارة إذا فيها أي كسر للتابو أو للمحرمات الثلاثة اللي هي الدين والجنس والسياسة.

أحمد الزين: تعرضت أنت شي لانتهاكات من هذا النوع؟

شوقي بزيع: لحسن الحظ أني ما تعرضت.

أحمد الزين: يعني أنت نصوصك تحمل هذه الجرأة؟

شوقي بزيع: تماماً أنا تفاجأت، أحياناً أفاجأ لأنه فيه محاولة للاقتراب كتير من قراءات جديدة لنصوص دينية ولرؤية ذات دلالات حسية أو جسدية أو غيرها.

أحمد الزين: قمصان يوسف ودانيال.

شوقي بزيع: قمصان يوسف ومريم وغيره، ولكن أنا بقول ربما وهيدي نوع من القراءة الشخصية يعني اجتهاد، إنه لما بكتب ما بكتب أشياء كنوع من يعني الرغبة المقصودة في الجرأة، أو إنه في الكسر المحرم ما بيكون قصدي هيك.

أحمد الزين: تأتي.

شوقي بزيع: تماما قراءة داخلية حقيقية لأشياء بشوفها ومؤمن فيها، ولأنّو أنا بكتب بلغة حارة بتسميها غنائية بتسميها صدق بالتعبير أو غيره، فربما الآخرين ما بشوفوا هذا الشيء اللي له علاقة بكسر المحرم، بشوفوا تجربة جديدة ولكن تجربة لأنها ملتصقة فيي وبالحياة ولأنه فيها نوع من الإيمان كل شعر الحقيقة هو شعر إيماني، حركة حياة كاملة.

أحمد الزين: حالة.

شوقي بزيع: متصلة.

أحمد الزين: مثل ما ذكرت حالة تأتي.

شوقي بزيع: من شان هيك مثلاً أنا برفض شعر الغزل، برفض كلمة شعر الغزل لأنّو بس تقول شعر الغزل يعني تحويل المرأة إلى شيء ووصفها، أنا بكتب شعر حب.

أحمد الزين: طالما حكيت عن الغزل كيف تتقاطع مع تجربة نزار قباني؟ وغنائيتك كيف تتقاطع كمان مع غنائية بعض محمود درويش؟

شوقي بزيع: نعم، بالنسبة لنزار كان فيه صداقة شخصية بيناتنا، وكان فيه صداقة شعرية، يعني نزار مثلاً وأنا قليل ما بحكي فيها لأنه ما بحب تاجر بأقوال آخرين عني أو شيء، ولكن يعني في ببعض مقابلات نزار قباني هناك حديث عن شعري إيجابي بأكثر من محل، وهو على ندر ما كان يسمي شعراء وأنا بعتبره شاعر كبير مش من زاوية إنه هو شاعر غامر بقصة الحديث عن المرأة أو عن جسد المرأة وفهم المرأة، لأني أعتبر الشعر أكبر من موضوعه، فلذلك أنا أعتبر أهمية نزار بأنه حرر اللغة الشعرية من جمودها ومن بعدها القاموسي، القاموس كله صار مفتوح عالشعر، كان بالأول لأ، القاموس الشعري كتير ضيق ومحدود.

أحمد الزين: استفدت من هذا القاموس إلى حد ما أنت؟

شوقي بزيع: أنا تفاعلت مع نزار ومع السياب، بالنسبة لغنائية محمود درويش أكيد أثرت فيي في بداياتي خاصة، وبتعرف إنّو هناك هالامتداد بين فلسطين وبين الجغرافيا والروح راقية.

أحمد الزين: والانتماء.

شوقي بزيع: يعني أنا بشوف أنه حتى الكربلائية اللي موجودة عند شعراء الجنوب موجودة عند شعراء فلسطين، لأنه بتصير كربلا هون أبعد من بعدها العراقي.

أحمد الزين: وعند شعراء العراق أيضاً، ونحنا منكتب لأننا حزينون وهون جمالية فرح.. ما يسمى فرح الكتابة، قد يكون المعنى حزين، لكن الشكل فرح، لما تقرأ قصيدة لوركا عن صديقه مصارع الثيران، تنسى حزنه على مصارع الثيران وبتشوف كيف جاب هذه القدرة على التعبير وهذه الصور المدهشة؟!

شوقي بزيع: في ذلك الركن القصي من الكتابة، حين أفشل في تعقب فكرة هربت من الإيقاع، يحدث فجأة أن تدخل امرأة إلى المقهى، وتجلس باتجاه البحر، منعكساً على المرآة كان جمالها ينحل في الصمت المحايد بيننا، كمراكب منهوبة الأحزان، لم تتجشم التحديق في أحد من الجلساء، لم تلحظ خلوّ يدي من الكلمات، بل فتحت كتاباً كان يرقد في حقيبتها، وغامت في تضاعيف الكتاب، في ذلك الركن القصي من الكتابة، راح يعصف بي حنين جارف للقفز فوق وجودي الفاني، لتمكين المجاز من التطلّع نحو مصدره، وتنقية الجمال من التراب، متأملاً في وجهها، في اللا مبالاة، التي تعلو التفاتته إلى الأشياء، كدت أرى مجاراة الظلال لضوئه العاري، بالنعاس كما لو أنه متنكراً في هيئة امرأة يجرد جسمها الشفاف من جريانه تحت الثياب، لكنني متأخراً أدركت، أنني لم أكن أرنو إلى أحد، فلا امرأة هناك سوى ما يستحيل بقوة التحديق صورة ما نحب، لذا وقد امتحنت بدون جدوى خيبة الكلمات، غادرت المكان كعادتي في مثل ذلك الوقت، كي تأتي القصيدة في غيابي.[فاصل إعلاني]

شوقي بزيع: كيف لي أن أرمم فخار صدري، وأكسو دمي بالهشيم، الذي لم يوحّد مراي في جنة الماضية، كيف لي أن أقود مظاهرة من خطاي القديمة نحو الصبي الذي شاخ في داخلي، يا ولداً كنته قبل ثلاثين عاماً أغثني، ردّ لي شفق السنديان الذي كنت تركض بين ذراعيه، أرملة البيلسان المشرد، والسنبلات اليتامى على مفرق السنة العاشرة، أتسمعني أيها الطفل؟ هل تذكر القروي الذي كان يركض خلف عصافيره في المدى الدبق المتلاطم؟ هل تتذكر عينيه؟ حين رأى ساق مريم واشتعلت روحه بخرير الأنوثة، ضاع الصهيل الذي كان يصعد من فرس الروح، أيها الطفل، يا ولداً كنته قبل ثلاثين عاماً أما كان في الأرض متسع لي ولك؟ ألست أنا من تعثر بالوحل بين ذراعيك؟ والزعفران الذي يتنزه بين شهيق دمي وزفير القرى أنت أورثتني، وأورثتني شقرة الشعر، جوهرة الشعر قضم الأظافر عادة لي أن أشتهي كل ما ليس لي من خصور النساء، ولألاء أثدائهن الذي أثكلت، فلماذا إذاً لا يبلل عيني نفس الحنين الذي بللك؟ ولماذا إذاً أصبح العمر مئذنة من دخان؟ ولماذا إذاً نلتقي مثل ما يلتقي أعميان؟ أنا اثنان يصرخ كل بصاحبه انجُ سعدٌ فإن سُعَيداً هلك.

أحمد الزين: يعني على سيرة الزمن أنت هيكي بكل.. تقريباً ببعض شعرك هيك منحس بوطأة الزمن إنه عم يعيش شوقي هذه الوطأة، وعم يشعر كأنه الأيام عم تتسرب من إيديه متل المي، مش عم يقدر.. بتقديرك معالجة هذا الإحساس بالكتابة ألا يشفي قليلاً؟

شوقي بزيع: لا أحد يملك العشب الشافي لا أيام غلغامش السومري، اللي بحث عن عشبة الحياة ولا بأي وقت آخر كان فيه علاج للموت، ولكن لأن الموت قائم كحقيقة أنا بقول ما في عندنا ما نواجه فيه هذا الموت إلا الفن. لذلك في صراع دائم بين الاثنين، وربما مع الفن يكون الحب، لأنه بيحصنّا لأنه نحنا لما نكون بحالة حب ما منعود بنفكر بالموت، إلى حد عشت هذه التجارب مثلي مثل آخرين، إنّو أحياناً لما كنت مثلاً حُبّ كنت أتمنى مش بس أني أعيش مع اللي بحبّه كنت أني أتمنى إني موت معه، إذا كنا في طائرة وأنا بخاف من الطيران كتير، كنت أقول على الأقل إذا متت أنا والبنت اللي بحبها ووقعت الطيارة أني أنا سعيد إنه كنا بسمكة قرش واحدة مثلاً، تصور إلى هذا الحد، بينما لما تكون أنت مانك بحالة عشق وما عندك ملكة الكتابة أو فن من الفنون على الأقل، لأ بتشعر إنك أعزل في وجه الموت.

أحمد الزين: سلاحك ضعيف، يعني فكرت أحياناً كمان إنه بلا جدوى الكتابة؟

شوقي بزيع: لأ ما فكرت، بس فكرت بالكارثة اللي بتحلّ فيي عندما تتخلى عني الكتابة واللغة، لأنه أحياناً أتعرض لنوع من السكتات الشعرية تصيبني بين حين وآخر، بخاف، خوف مرعب، وأعتقد أنه هو الموت الحقيقي بالنسبة للكاتب.

أحمد الزين: يعني تحوّلت الكتابة بهالمعنى لمأزق لإلك صارت كمان؟

شوقي بزيع: إي صابتني بالثمانينات مع أني كنت بمقتبل تجربتي يعني أو بعزّها تماماً فسكتت خمس سنوات، لما الحرب الأهلية اللبنانية تحوّلت إلى حروب زواريب وعشائر وطوائف إلى آخره، ما عاد عندي شيء أقوله، اختنقت حسّيت أنه في شيء تحت اللغة تماماً فسكتت خمس سنوات، وكانت قاسية جداً ولكن لحسن الحظ بعد منها كانت أكثر فترة غنية بتجربتي الشعرية التسعينات.

أحمد الزين: يعني لكأني أجد في كل ما كتبت أن الحافز الأساسي في القصيدة هو وجود امرأة، حتى و كانت القصيدة تبحث عن نفسها، يعني على مستوى اللغة والشكل والمضمون، يعني هذا الحضور النافذ والطاغي للمرأة في تجربة القصيدة عند شوقي بزيع شو سببه ليش المرأة فقط؟

شوقي بزيع: يعني كأني أجبت جزئياً عن هذا السؤال وقلت إنه بالنسبة لإلي ما فيي أتصور في شيء بغير أنوثة، الأنوثة بالمطلق وشرطي لأتعامل مع أي شيء أن أؤنّث هذا الشيء وأنا برأيي هذا الشعور طبيعي يعني يتجاوز مسألة الجسد ليتعلق بأصل الحياة نفسها يعني لكن.

أحمد الزين: شعورك بحاجة دائماً لحضن لذراعين لغمرة لحنان يعني هذا نتيجة نقص معين بالنسبة إلك؟ ما عم بحكي حالة مرضية؟

شوقي بزيع: لأ..لأ هو بتعرف هلأ كل الدراسات عم بتحاول تقرأ الأدب على ضوء علم النفس، نحنا منعرف.. لذلك بتلاحظ أنت دائماً الشعراء والكتاب والسياسيين والقادة باستمرار كائنات شهوانية، لأن الشهونة داخلهن هي نفسها بينبثق عنها الرغبة في تغيير العالم على مستوى السياسة أو تغييره على مستوى اللغة والتعبير الفني وبيخلق معهن أيضاً هذا العصب المتصل بالمرأة أو شهوة الحب والجسد، لذلك مثلاً.

أحمد الزين: يعني فينا نقول مش أسوياء بالمعنى الطبي يعني؟

شوقي بزيع: لأ يعني هنّن محتشَدين بالحياة، هلأ طبعاً فيه شيء اسمه لا سوية الكتاب والشعراء هذا موضوع ثاني، بس بعطيك مثل إنّو شخصية عنترة عند العرب هي شخصية الشاعر والعاشق يعني الفحولة الشعرية والفحولة الجسدية، شخصية غيفارا بمحل ثاني هي شخصية القائد السياسي والعسكري وأيضاً العاشق، إذاً دائماً العاشق هو القاسم المشترك بين أشكال التغيير، فأعتقد بأني أنا في هذا السياق بحس بانتماء للمرأة دائم وبرغبة لإلها، وبضيف على هالشيء أنه حتى القصائد اللي ما بتحكي عن المرأة كتبتها عن قضايا وجودية عن قضايا تأملية عن فلسفة عن غيرها، كُتبت في ظل حالات حب قصوى عندي.

أحمد الزين: عملت لك هذا الدفع إلى مكان آخر؟

شوقي بزيع: عندي فوران داخلي، هذا الفوران يتفرع عنه تعبيرات لغوية مختلفة، ولكن إذا ما كنت عم عيش قصة حب بحسّ حالي جافّ ويابس ولغتي مثلي تماماً.

أحمد الزين: بالسياق ذاته أنت لكثرة ما صرفت من أيامك على الحب وعلى الشعر أخّرت زواجك كتير ما تزوجت، ولكن بالأخير فعلتها يعني تزوجت، فينا نعتبر إنه هذا تتويج لهزيمتك كعاشق؟

شوقي بزيع: مش كعاشق بس، لهزيمتي بالمطلق، لحدث هو مش إنه خيانة لقناعاتي، هو اعتراف بحقيقة ما، وصلت لها إنه ما فينا نتعامل مع الحياة ككتلة واحدة، يعني لا بد من تجزئة الأمور، أنا.. لأ عندما يصل الرجل إلى الخمسينات وهناك كتب حول أزمة منتصف العمر وما بعدها بقليل، بيطرح سؤال متعلق بمستقبله اللي هو له علاقة بالكهولة وبالشيخوخة وأنه فعلاً هل يستطيع أحد منا أن يعيش لوحده هديك الفترة؟ أنا وصلت لاستنتاج إنه صعب جداً، يعني لأن هذا الصهيل الجسدي لا بد أن يخفت قليلاً، هذه الشهوات العارمة ستتراجع يعني ما بدي أقول بتطمحل لاحقاً.

أحمد الزين: تذبل، تذبل.

شوقي بزيع: طبيعي، بس بكل الحالات.

أحمد الزين: ما بتحس هذا ضرب من ضروب الأنانية؟

شوقي بزيع: بكل ما نفعله نحن أنانيون، بس على الأقل بدي أقول شيء، أني أنا ما خدعت أحد، يعني عندما تزوجت من زوجتي اللي هي رنيم ضاهر، وهي شاعرة أيضاً، كنت عم قلّها أنّو إذا فيكي تهربي قبل فوات الأوان ما عندي مانع، واعتمدت على هروبها.

أحمد الزين: لأني أنا شخص مدمّر.[يضحك]

شوقي بزيع: لأنه ممكن حوّلك إلى ديوان، كما فعلت مع آخريات يعني، فهي اختارت الزواج، قالت لي: أنا أختار الحقيقة ما بدي الاستعارة أو المجاز، هذا الشيء..

أحمد الزين: طلعت أقوى من قصيدتك هي.

شوقي بزيع: شيء جميل.. الحب هو شعر العالم والزواج نثره.

شوقي بزيع: غيمٌ، وشباكان من مطرٍ، وخمس أصابع في الريح، وامرأةٌ، وسهمْ، لا نثر يأتي كي يذهّب حزنها مثل الضفيرة في المساءْ، ولا حَمَامٌ في فضاءِ نواحها الأبدي يعلو، في ثغرها يرتاح نيسانان من قُبَلٍ، وتنعس تحت جفنيها قبائل من سيوفٍ لا تسلُّ، مرفوعة فوق الرماح كرايةٍ، ومُضاءة بجنونها كتميمة شعفاء في عنق الجبالْ، وما لها في الريح شكلُ، يبكي شمال جمالها وتران من ظمأ الجنوب ويهرق الليمون صفرته على دمها المحنى بالأهلّة ثم يشطرها إلى فرسين حقلُ، غيمٌ وشباكان وامرأة تمد رموشها قمحاً على الصحراء، والصحراء قحلُ، لم يبقَ من صفصافها إلا القليل، ومن مفاتنها سوى ليلين في أهدابها يتذابحان على غراب فوق بر الشام، يمعن في السواد ويضمحلُّ، يرعى منازلها البعيدة سرب أجراس تنوح على سويداء الرحيلْ، وينحني لغيومها البيضاء سروٌ غامض ويضيء فلُّ، هي ليست امرأة تماماً، بل غمامٌ راقد بنخيله، في هيئة امرأة تكرر وجهها شمس وظلُّ يا سهل حوران المطرزة بالحرائق والثريات الصغيرة، لي وراء جبالك السوداء مرآة وأقمار تهلُّ، لو كان لي يا سهل حوران اتساعك لاتكأت على حنيني، وانتظرت على شبابيك النساء لعل نافذة على قلبي تدلُّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق