أحمد الزين: عندما تقرأ كاتباً روائياً لا تعرفه ترسم له صورةً ما، أو تتماهى صورته مع ملامح أبطال رواياته حتى تنسى المؤلف أحياناً وتصبح صورة البطل صورةً له أو شيئاً منها، "زيني بركات" أول رواية قرأتها لجمال الغيطاني صادرةً عن مطبعة وزارة الثقافة في دمشق عام 1974 تتحدث عن حقبة مملوكية في ظاهرها ورواية في كل حال هي حياة وتاريخ وأحداث وناس، بدا الكاتب لي حينها رحالةً أو مؤرخاً أو وثّاقاً لم أعثر على ملامحه تماماً، وكرّت الأيام كتب جمال الغيطاني خلالها ما يقارب الـ 50 عملاً كنت أرى صورته غائمةً تتوضح في جريدةٍ أحياناً أو مجلة أو كتاب على شاشةٍ أو في حوارٍ ما في أسفارٍ أو نثر أو مقالٍ أو شطحات خيال، ومرّ أكثر من 30 عاماً لم ألتقِ به سوى في الكتب يصف: الأمكنة، الحارات، المقاهي، الشوارع، الأبنية، يعيد بناء الصورة ويؤلف بشراً وأمكنةً ومصائر. تظنه هو معمارياً لو قرأت "شطح المدينة" أو "المسافر خانة" وفي كتابٍ ثانٍ متصوفاً وفي كتابٍ آخر تشكيلياً. يبدو هو البلديٌّ الصعيدي المنبت مزيج من شغف وحنين ورغبات وحارات جمالية في الحسين وصندوق كتب جده.. أشياءٌ حولته إلى متأمل ونثّار نثر عمره في تجارب عديدة، وصرف جلّه في الكتاب حتى تظن إن دخلت بيته أنك في مكتبةٍ عامة شديدة الأناقة وعالية القيمة والنوع والتنوّع تحتوي على نفائس الأعمال، هي خلاصة حياته بما ضمته، خصّص جانباً منها لمؤلفاته الكثيرة، فهذا هو جمال الغيطاني متعددٌ في الكتابة والحكايات.
طيب جمال الغيطاني أكثر من 50 مؤلفاً وكتاباً بين رواية وأشياء أخرى. وأكثر تقريباً من 62 سنة - العمر كله طبعاً - عمّ كنت تبحث في هذه الرحلة من الحياة؟ يعني كنت تؤلف أمكنة وناس وأحداث وأمزجة وتتعامل معها ثم تذهب إلى مرآتك خاصة، عمّ كنت تبحث؟ عمّ.. يعني على شو عثرت إذا كنت عثرت على شيء؟
جمال الغيطاني: والله يعني أنت سؤالك بينفذ إلى الصميم، أنا أذكر في أثناء شبابي أو في فتوتي عندما كنت أعدّ حقيبة للسفر فكان الإحساس فيه توثب أنه أنك سترى شيئاً مجهولاً لم تره من قبل، وكان الرصيد أقصد رصيد الوقت أكثر فكان الإنسان بيتطلع إلى الأمام، منذ سنوات يراودني شعور نفس هذا الشعور ولكن شعور المقبل على رحلة غامضة، لأنني أنا فوجئت الحاجات طويت بسرعة فتسألني عماذا كنت أبحث؟ ربما عن للأسف الشديد سنخرج من هذه القصة بدون أن نعرف بالضبط..
أحمد الزين: إلى أين؟
جمال الغيطاني: ما البداية؟ وإلى أين المصير فيما بعد؟
أحمد الزين: يعني الكتابة كانت نوع من العزاء أو نوع من المقارعة مع الزمن؟
جمال الغيطاني: أو الكتابة الآن أنا لا أدعي أنني كنت أعرف ذلك منذ البداية الآن لكن في الأعوام الأخيرة أيضاً أكتشف أن الكتابة كانت مجاهدة ضد النسيان، ضد المحو ضد الطيّ لأنه لا شيء يبقى، والآن في حقب كاملة أنا عشتها أنا أحياناً أنظر إلى بعض الصورالتي التقطت في لحظات حميمة فأتعرف على بعض الوجوه التي كنت أرتبط بها بعلاقات، فيه ستائر بتنزل مع الزمن الزمن يطوي ما هو الشيء الوحيد الذي توصل إليه الإنسان لكي يحتفظ باللحظة التي تفنى هي الكتابة، الفوتوغرافيا هي نوع من الكتابة طبعاً الانشغال بالزمن بيقود إلى الانشغال بأمور أخرى منها قضية الموت ده عرض من أعراض الزمن يعني.. وأنا أعني الموت الطبيعي أو الموت.. لكن الكتابة هنا قيمتها تبرز أنها تسجّل مضمون اللحظة التي تفنى وبالتالي هي فعل مقاومة ضد النسيان..
أحمد الزين: يعني طالما هيك تحدتت عن الموت وعن.. ربما هالسؤال هذا يجرني لأسأل سؤال آخر يمكن نهرب من الوجود إلى السياسة اليومية يعني عن الموت العربي اليومي هذا الموت هذا القتل يعني هذا السبي والتخلف والعودة إلى الكهوف كهوف الفكر المظلمة، شو سببه هذا بتقديرك؟ ما الذي يحدث؟ ما الذي يحدث لهذا العالم؟ يعني إلى أين يذهب؟ عالمنا العربي تحديداً؟
جمال الغيطاني: يعني أنا لا أميل إلى منطق الضحية، ولكن قبل أن نفكر في مسؤولية الغير بالنسبة لما يجري يجب أنه نفحص أنفسنا أولاً، أنا أعتقد بـ"التخلف" هو مفتاح المأساة الموجود الآن في الساحة العربية، وهو السبب الذي يعطي الآخرين فرصة للتدخل، فرصة لمحاولة فرض المفاهيم أو الوجود، هناك أشياء لا بد من فحصها لا بد من مراجعتها..
أحمد الزين: وهي قائمة بثقافتنا وفي تراثنا؟
جمال الغيطاني: موجودة بثقافتنا، والآن أنا يعني أشاهد بعض الفضائيات هذا شيء مذهل في التخلف وفي.. يعني ولن يقبلك العالم بهذا المنطق، ولذلك نحن في حاجة إلى مجددين شجعان يدخلون بنا إلى صميم العصر، وإلا سيكون المصير مخيفاً.
أحمد الزين: يبدو ما عشنا كما ينبغي عصر تنوير أو هيك فترة ثانية..
جمال الغيطاني: لا والله كان كان في..
أحمد الزين: كانت محاولة وانتهت مع بداية القرن يعني.
جمال الغيطاني: أنا تصوري المشكلة في الأنظمة الدكتاتورية التي فرضت نوعاً من التخلف وفي صميم البنية..
أحمد الزين: صحيح. على سيرة الأنظمة أنت عايشت كذا مرحلة يعني ربما ولادتك بدأت مع العصر الملكي إلى حد ما عايشتها ثم مع الناصرية ثم مع تجربة السادات وحتى الآن، يعني عقدت شي مرة هيك بهالرحلة أملاً على تجربة ما..
جمال الغيطاني: طبعاً. على تجربة عبد الناصر رغم أنني كنت..
أحمد الزين: سجنت في أيامه؟
جمال الغيطاني: أنا اعتقلت لكن كان الاعتقال على أرضية مختلفة بمعنى كان عبد الناصر يقول أنه أنا أبني الإشتراكية وكنت أرى أنها أن ما يجري ليس بناءً للإشتراكية وكنت يعني مؤمن أن الإشتراكية هي الإشتراكية العلمية يعني بالمفهوم..
أحمد الزين: الماركسي.
جمال الغيطاني: الماركسي، طبعاً كان ممنوعاً أي تنظيم طبقاً للقانون في ذلك الوقت فاعتقلنا في عام 1966، وهذه مرحلة لم يُكشف عنها النقاب بعد، لأنه كان فيه ظروف سياسية كثيرة في مصر كان في الحزب الشيوعي الكبير حلّ نفسه في سنة 1964 راضياً مرضياً ودخل في طاعة الاتحاد الإشتراكي، ونحن كشباب كنا نرفض ذلك..
أحمد الزين: كنتم في أقصى اليسار.
جمال الغيطاني: نحن كنا نحلم بتغيير العالم يا سيدي، يظهر أن العالم هو اللي غيرنا (ضاحكاً).أحمد علي الزين (يضحك): نعم..
جمال الغيطاني: ولذلك كانت فترة مليئة بالطموحات والآمال."عندما كنت أرى متسولاً كنت أبكي، ربما هذا دفعني إلى اعتناق الإشتراكية والذهاب للبحث عن حلول في الماركسية مثلاً كنت أبحث عن العدالة، البكاء شكل من أشكال الاحتجاج".
جمال الغيطاني: وأنا طفل كان عندي سبع سنوات كنت أقرأ أرسين لوبين وأحلم بأن آخذ من الأغنياء وأعطي للفقراء أصبح لصاً شريفاً، اللص الشريف أصبح إشتراكياً ماركسياً، ثم يعني فكرة العدالة الاجتماعية جمال عبد الناصر أنا بدأت التعلق به بعد رحيله، فقد أصبح..
أحمد الزين: بكي كثير من اليساريين والمثقفين..
جمال الغيطاني: ولكن خذ بال حضرتك أن جمال عبد الناصر لم يكن يكتمل العيد إلا برؤيته، هو كان يفضل صلاة العيد في سيدنا الحسين، فكنا نخرج لكي نقابله ونراه فجمال عبد الناصر لن يتكرر، وهو بالمناسبة أحد مآسي العالم العربي، أقول لك إزاي لأنه بعد رحيله تصور حكّام بعض الأقطار العربية وحتى الآن أنه يمكن أن يصبح جمال عبد الناصر، ونسوا أن عبد الناصر هو محصلة تاريخ زائد جغرافيا، يعني لو وجد عبد الناصر نفسه في العراق لم يكن سيصبح هو عبد الناصر الذي عرفته مصر، هذا الآن أصبح تاريخاً بعيداً ولذلك تجربة جيلي تجربة عنيفة، يعني نحن انتقلنا..
أحمد الزين: فيها مرارة وفيها أحلام وكذا.. هي مرحلة كلها كانت حاملة الكثير من الأحلام..
جمال الغيطاني: بالزبط ثم جاء أنور السادات فمع عبد الناصر أنت كنت تختلف على نفس الأرضية، وخلاف مع فتوة فتوة عادل كبير وجميل لكن مع أنور السادات أنا مرت عليّ أيام في حكم أنور السادات كانت أسوأ من أيام المعتقل أيام عبد الناصر.
أحمد الزين: أديش بت في المعتقل مش كثير.
جمال الغيطاني: فترة قصيرة حوالي ست شهور.
أحمد الزين: كانت تجربة..
جمال الغيطاني: نعم.
أحمد الزين: شو بتذكر من تلك المرحلة يعني؟
جمال الغيطاني: أنا ما أذكره طبعاً كان فيه يعني لا أريد أن أتحدث عن.. طبعاً كان فيه تحقيق والتحقيقات كان فيها نوع من الضغوط..
أحمد الزين: الجسدية..
جمال الغيطاني: الجسدية العنيفة، لكن اكتشفت أن الضغط النفسي أبشع..
أحمد الزين: أشد وطأةً.
جمال الغيطاني: يعني أن تسمع شخصاً يتألم بسبب التعذيب أكثر فداحةً بكثير جداً عندما يبدأ تعذيبك أنت ينتهي كل شيء، لأنه ماذا سيحدث أكثر من ذلك؟ فانتهت القصة، ولذلك كنت أحياناً بعد أن.. هو كان المطلوب أن أعترف أنه في تنظيم وكان الموقف هو عدم.. وحتى الآن لم نعترف، طبعاً مش حأعترف معاك.
أحمد الزين: "الكتابة هي جوهر حياتي اكتشفتها في نفسي كالغريزة علماً أن ظروف النشأة ما كانت لتنتج كاتباً على الإطلاق، وأستطيع القول أن لحظة البداية كانت عام 1959 عندما وجدت نفسي راغباً في تدوين قصةٍ سمعتها من والدي، كان جمال الغيطاني مفتوناً بالكتاب ولم يزل مفتوناً بالكتاب وبالكلمة يقرأ كل ما يقع بين يديه تقريباً وينسخ الكتب، كان نسّاخاً ينسخ الكتب التي لا يستطيع شرائها، يقرأ الترجمات وما تيسر من كتب التراث في صندوق جده، وشغفه هذا أدّى به في نهاية المطاف إلى دار الكتب حيث كان الكتاب باباً يفضي إلى باب آخر أو سؤال آخر بدأ يبحث عن إجابات له في مرآته الخاصة".طيب خلينا نرجع شوي للكتابة أو لحي الحسين للمنطقة التي ولدت فيها ونشأت يعني كيف حبوت إلى السرد إلى الكتابة، يعني شو اللي خلاك تصير كاتب؟
جمال الغيطاني: مش عارف (يضحك)، يعني أنا طبعاً الأمور بدأت تلقائياً، بمعنى أنني كنت طفلاً أميل للانطواء، خياله واسع كنت أعود من المدرسة وأحكي لأمي عن أشياء لم تقع، بمعنى يعني مثلاً..
أحمد الزين: تؤلف كنت..
جمال الغيطاني: وهي كانت تقوم بعمل البيت أو تغسل الغسيل أجلس بجوارها وأؤلف لها حكايات عن سرداب انفتح فجأة فنزلت ووجدت مدينة تحت الأرض، فهي كانت تبدي..
أحمد الزين: بدأ معك الشطح من آنذاك يعني الشطح بالمدينة.
جمال الغيطاني: فبدأ هي كانت تبدي يعني توافقني وتسألني طيب هة وبعدين (تعبير عن انشداه)، وكانت تأخذني إلى قد عقلي أو كانت تجاريني وتسلي نفسها..
أحمد الزين: كانت القارئة الأولى لك..
جمال الغيطاني: هي القارئ الأول وهي المساعد الأول لأنه الوالد كان مصراً أن يعلمنا حتى النهاية، فكان رؤية رواية في يدي تزعجه، فهي كانت تتستر عليّ بالمدد المادي والمعنوي لأنها كانت تحب أن أفعل ما يسعدني، فاختلاق الحكايات اللي هو الكذب الأبيض ثم بدأ انفتح لي الباب عندما تعلمت القراءة لما دخلت المدرسة، أنا كنت أتمثل القراءة يعني ده العصر الذهبي للقراءة، يعني أضرب لك مثالاً عندما قرأت: "أحدب نوتردام" مشيت ثلاث أيام محدودب..
أحمد الزين: مثلت دور البطل.
جمال الغيطاني: أنا ماشي أنا أحدب.. ومثلاً كان في رواية اسمها: "الفرسان الثلاثة" لإسكندر ديماس وكان فيه تقليد المبارزة فيقول لك إيه يلقي القفاز في وجهه ويدعوه للمبارزة ويقول له: إحضر شاهدك، فكنت عندما أتشاجر مع زميل لي في المدرسة أقول له: أنا أقلت قفازي وجهك، أقسم لك ما كنت أعرف يعني إيه قفاز لأنه مكونتي ده كنا بنشوفه في السينما بس.
أحمد الزين: طبعاً.[فاصل إعلاني]
أحمد الزين: ولدت في جهينة بسهاج محفوفاً بنخيل الصعيد وظلاله وشموخه وأصالته، لكنني نموت وشببت في الخلاء القاهري ومنه أستمد أقدم صور لي، أقامت أسرتي في المنزل رقم واحد في عطفة متفرعة من درب الطبلاوي بيتٌ ربما بُني في القرن التاسع عشر مكوّن من 5 طوابق وهذا ارتفاع له شأن في الأربعينات عندما بدأ وعيي يلتقي أول مظاهر الوجود، كان الأفق القاهري رحيماً بالنظر: خلاء ممتد وتاريخ واضح الأهرام في الغرب ومآذن السلطان حسن والرفاعي ومحمد علي والمحمودي ومإذنة سيدنا ومولانا الحسين كلها تشمخ في الجنوب والمقطم الذي لم نعرف جبلاً أكثر من ارتفاعه يحد المدينة من الشرق، كنت أشبّ على قدمي لأتطلع إلى الأفق الفسيح وأصلح البيوت المجاورة والمعالم، ولو أنني اخترت من حياتي لحيظات حانية لكان أولها لحظات العصاني في المدينة القديمة، ومن العبارات التي تتردد كثيراً في ذاكرتي منذ الطفولة: "عايزة أشم الهوا يا سلام على نسمة العصاري".
أنت بلشت حياتك المهنية أو العملية مصمماً للسجاد صح؟
جمال الغيطاني: أنا لم أختر، يعني أنا بعد حصولي إتمامي لمرحلة الشهادة الإعدادية الوالد كان مصراً أن أواصل تعليمي حتى الشهادة الكبيرة كما نسميها، يعني الدكتوراه في الجامعة، لكنني شعرت أنه قد بدأ ينهك مالياً فقررت أن أختصر المسافة وأحقق رغبته وأتخرج في فترة مبكرة لكي أساعده، هكذا دخلت يعني اخترت التعليم الفني، ولكن هذا تم بشرط جعلني أقسم على المصحف أن أتم تعليمي..
أحمد الزين: لاحقاً.
جمال الغيطاني: لاحقاً، وفعلاً أنا دخلت.. أنا تخرجت عام 1962 وكان سني صغيراً جداً بالنسبة للتوظف فيعني حصلت على الثانوية العامة وقبلت في كلية الفنون التطبيقية لكن اكتشفت أنني أنا أكوّن نفسي بنفسي عن طريق القراءة والاطلاع والتكوين..
أحمد الزين: عمرت نفسك يعني؟
جمال الغيطاني: لم أوفِ بوعدي لأني كنت انطلقت في عالم التكوين الحرّ وطبعاً دراستي للسجاد أفادتني جداً، فهذا فن فيه فلسفة وفيه يعني أنا عندي مشروع كبير بيخص هذا الفن بالتحديد، أنا أعيد اكتشاف السجاد الآن، ليس كحرفة فقط ولكن كفن له رمزياته وله فلسفته.
أحمد الزين: جميل. طيب إلى الصحافة ربما أنت تقول أنه كان محمود أمين العالم هو سبب قدومك يمكن إلى أخبار اليوم.
جمال الغيطاني: نعم.
أحمد الزين: نتيجة قراءته لك أول كتاب نشرته يمكن بعد..
جمال الغيطاني: بعد صدور أول كتاب: "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" صدر في بداية عام 1969 وقد طبعته بنقودي ونقود صديق العمر يوسف القعيد، والكتاب أحدث ضجة كبيرة جداً، في ذلك الوقت كانت الحياة الثقافية في مصر منظومة لها مقاييس، بمعنى يعني عندما صدر مثلاً أول كتاب ليوسف إدريس: "أرخص ليالي" عُمّد كاتباً كبيراً، بمن؟ بعدد من النقاد كانت لهم مصداقية كبيرة، فعندما يكتب "لويس عوض" عن كاتب بشكل إيجابي أو "لطيفة الزيات" أو "علي الراعي" أو "محمود أمين العالم" في ذلك الوقت فهذا ما نفتقده الآن، الكتاب أحدث ضجة كبيرة جداً بالإضافة أن الكتاب كان يتضمن نوعاً من الرد الروحي على هزيمة يونيو 1967 يعني ليس صدفةً أنه "أمل دنقل" كتب: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" في نفس العام صدر: "أوراق شاب" في نفس العام اتجه الأبنودي إلى قناة السويس ليكتب: "وجوه على الشط"، الرد الروحي عالهزيمة نحن الذين قمنا به قبل المعركة العسكرية الكبيرة في حرب الاستنزاف، كتب الأستاذ محمود أمين العالم مقالاً عن كتابي وهو الذي أول من أطلق على ما قمت به: "القصة التاريخ" قلب النص أن جمال الغيطاني اكتشف شكلاً جديداً من أشكال القصة، طبعاً أنا قرأت المقال ويعني أنا في هذا الوقت كنت أدرب لكن صدقني لم أكن.. أنا كنت منقاداً لصوتي الخاص لكن عندما قرأته هل من معقول أنا اكتشفت شكل، طبعاً..
أحمد الزين: فأتيت إلى الأخبار.
جمال الغيطاني: أنا ذهبت لم أكن أعرفه، فذهبت إليه لأشكره فعرض عليّ العمل في أخبار اليوم، وهكذا دخلت الصحافة في عام 1969.
أحمد الزين: منذ حوالي 15 عاماً يعمل جمال الغيطاني في هذا المكان رئيساً لتحرير أخبار الأدب جريدة أدبية أسبوعية، ولكنه منذ عام 1969 بدأ حياته الصحفية بدأها مراسلاً حربياً في الجبهة، وكان آنذاك قد نشر أول تجربة له قصصية بعنوان: "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" لفتت هذه المجموعة انتباه المفكر "محمود أمين العالم" فتناولها في مقالةٍ نقدية كانت فاتحةً لتجربةٍ أصبح عمرها ما يقارب الأربعين سنةً في عالم الصحافة والكتابة الإبداعية.طيب أستاذ جمال هيك من جملة التجارب المثيرة يمكن اللي اشتغلتها بحياتك هو بدأت حياتك الصحفية مراسل حربي بمعنى أنه فوراً إلى الجبهة، وقضيت سنوات طوال من الـ 1969 حتى الـ 1973 يمكن أو أكثر شوي..
جمال الغيطاني: لغاية الـ 1974.
أحمد الزين: طبعاً كنت تشهد.. يعني جاورت الموت إذا صح التعبير، جاورت الموت كان جارك الموت يومياً، ماذا يعني لك أن يعني هيك تشوف زميل لك أو جندي يسقط بالقرب منك؟
جمال الغيطاني: يعني أنا أعيش بالصدفة، مرة في مقهى في السويس كان مدينة السويس كلها كان فيها مقهى واحد هو بعد التهجير، فأنا جاء لي سكن بجواري جندي مطافي ولم يكن هناك حالة اشتباك، لكن سمي بعض القذائف من قرب، ففجأة وجدت الجندي بيميل وبينهار مرة وحدة على الأرض، فأنا استغربت يعني وبدأت مع زميلي مكرم جاد الكريم اللي هو يعتبر أشجع مصوّر صحفي في هو الذي التقط صورة المنصة يوم اغتيال الرئيس السادات، فبدأنا نقلبه ما فيش ثم وجدنا خيطاً رفيعاً من الدم خلف الأذن، شظية طايرة من بعيد تخيل لو غيرت المكان يعني هذا حدث كثيراً فهنا أنت ذكرت الموت، الموت في الجبهة مواجهته مرة يشجع على مواجهته في المرات التالية، وهذا ما يسمونه في العسكرية التطعيم يعني في البداية الواحد بيبقى خائف، وبعدين بواجه الموت فبيحصل إحساس غريب جداً عندي: الله ده أنا كان المفروض أموت يوم الأربعاء اللي فات الساعة واحدة في غارة الطيران ده أنا عايش وقت إضافي فده بيخليني أشجع على مواجهة.. يعني أنت عارف الواحد زي ما يقولوا قلبه بموت شوي بشوي، طبعاً هذا موت قادم من الخارج، لكن في فرق بين الموت الذي يأتي من الخارج والموت الذي يأتي من الداخل.
أحمد الزين: الكتابة فعل ضد النسيان أو محاولة على الأقل لتأبيد اللحظة أو تخليص الحياة من الإندثار من الإندثار الكلي، ولعل الصورة لاحقاً لبّت بشكل أدق هذه الرغبة، والحياة شريط طويل من الصور وكتاب يخطه الزمان، ونساهم به على قدر استطاعتنا. أول صورة تطالع الداخل إلى مكتب جمال الغيطاني صورة لنجيب محفوط التقطها الغيطاني بعدسته هاوياً.
جمال الغيطاني: أنا استمرت فترة غير مصدق، أنا كنت يعني أنا حملت نعشه وظلت بصحبته حتى وري الثرى، لكن كان عندي إحساس أنه اللي في الصندوق مش هو نجيب محفوظ، لأن نجيب محفوظ جزء من كياني أنا، يعني كان في محبة إنسانية غير الصلة ككاتب، وهو من الكتّاب الذين تعلمت منهم بالفعل، يعني العلاقة بالكتابة العلاقة بالوقت وبعدين الصحبة، أنا يعني مثلاً لقاء الثلاثاء ده كان لا يمنعني عنه إلا مرض أو سفر، فظللت فترة لعدة شهور في الفترة الأخيرة بدأت أتأكد أن نجيب محفوظ لم يعد في هذا العالم..
أحمد الزين: على أساس هو راح مشوار وبده يرجع وما رجع..
جمال الغيطاني: بالزبط، وأنك لن تلتقي به فجأة في تلك الفترة كنت يخيل رغم أنه لم يكن يمشي في الشارع من عام 94..
أحمد الزين: بس كان ظلاله أو طيفه بالمقهى..
جمال الغيطاني: دا صحيح، الأستاذ نجيب قدر لي أن أكون آخر من يراه لترتيب في الظروف ليس لميزة، ويخيل إلي أنه ظل يكتب حتى توقف عن الحياة.
أحمد الزين: يبدو في مكان حميم على قلبك هو المقهى مقهى الفيشاوي بعدك ترتاد هذا المقهى بشكل رسمي أو بشكل دايم مثل ما كنت ترتاده بالسابق؟ أم أن حلقة الأصدقاء تفرفطت..
جمال الغيطاني: شوف حضرتك القاهرة القديمة تكون يعني المحصورة ما بين باب النصر وصولاً إلى ميدان القلعة، أنا أحفظها ليس شبراً شبراً ولكن حجراً حجراً، وكما رأيت أنا اعتبر يعني فيه علاقة حميمة جداً مع الناس ومع المكان، هذا المكان أنا عشت فيه ثلاثين سنة، نصف عمري قُضي هناك والنصف الآخر أنا لم أعش فيه فقط لكن عشت رأسياً وأفقياً، جزء من بحثي أو همي الأساسي في الكتابة ألا هو تحقيق الخصوصية علاقتي بالجمالية، فطبعاً دي منظومة من المشاعر ومن العمر لها علاقة بقضية الزمن، الزمن كثيف في هذه المنطقة نتيجة القدم ونتيجة عدد ضخم من المباني والفنون مرتبطة بالعصور السابقة.
أحمد الزين: لنرجع للرواية، هيك في بعض أعمالك اللي قرأناها تعمل يعني على الإيهام بالتوثيق إذا صح التعبير، يعني بتحط القارئ وكأنه بين يديك مادة وثائقية تاريخية حتى من ناحية الشكل يعني من ناحية الخط والحرف والعنوان ومش عارف شو.. وتدخل القارئ حتى يصدق أن هيدي عمل تاريخي يروى عنه أو تكتب عنه من رؤيتك، ليش تلجأ لهذا النوع من الكتابة أحياناً؟
جمال الغيطاني: جزء من المغامرة الإبداعية، أنا مؤمن منذ البداية أنك لا بد أن تكون مغامراً في الكتابة، لكن طبعاً فيه فرق بين المغامرة والمقامرة، جزء من المغامرة هو خلق عوالم جديدة، يعني أنا ليّ رواية صغيرة لم تلفت النظر كثيراً عند ظهورها ربما لأن في رواية غطت عليها أكثر يعني يحدث ذلك.. زيني بركات قبلها رواية اسمها الزويل، الزويل أنا افترضت عالم قائم بذاته على حدود مصر والسودان في الصحراء ولم أكن زرت المنطقة، فلكي أوهم بوجوده وثقت، بمعنى أن أكتب مثلاً في بنية الرواية فصل في عادات الزويل وتقاليدهم وكذا وكأنها موجودة، طبعاً أنا كتبت هذا العنوان ربما كنت متأثراً بكلمة سودانية وهي زول فاشتققت العنوان، في ذلك الوقت لم تكن الواقعية السحرية قد عُرفت بعد بالمفهوم الأميركي اللاتيني، ولكن كثير من الأصدقاء يعني يقولون لي لقد عرفت الواقعية السحرية قبل.. الحقيقة الواقعية السحرية موجودة في أدبنا القديم، موجودة في ألف وليلة، في حكايات المتصوفة، في الحياة اليومية.. فهذا ما حاولته، أنا ما زلت أغامر، يعني الاستكانة إلى أسلوب لا يستفزني إلا قول فلان أسلوبه كويس.. أنا مع اللغة بحاول أتجاوز اللغة باستمرار..
أحمد الزين: يعني مشان هيك نجد أنت مش.. يعني مش رهن لنوع من الكتابة أو لنوع من الرواية لنوع من الأدب، يعني أنت من الكتّاب اللي تأخذهم الكتابة بالرحلة بدون مخطط يعني بتسلم نفسك لمشيئة النص لمشيئة الخيال؟
جمال الغيطاني: نعم، يعني أنا في كل كتابة جديدة كالمبحر في بحر بقارب لا يعرف أن يتجه، يريد أن يستكشف لكن طبعاًَ معي زاد، الزاد هو ميراث هو حكايات هو تقاليد، وسعيي أو قلقي من أجل الخصوصية لم يقتصر فقط على النصوص القديمة، لكن حاولت من خلال الموسيقى لأن الرواية إيقاع ومن خلال اهتمامي بالعمارة..
أحمد الزين: وأنت مستمع جيد..
جمال الغيطاني: نعم أدعي ذلك..
أحمد الزين: عندك مكتبة موسيقية متنوعة..
جمال الغيطاني: هذه في حاجة إلى ساعات للحديث عنها، لأني لي رحلة طويلة والآن يعني أركز في الموسيقى التي تثري روحي العربية التركية الإيرانية الصينية وموسيقى الشعوب.. هذا شيء يثري الروح جداً واستخدمه للكتابة، كل مادة الحياة أستاذ أحمد هي مادة للكتابة.
أحمد الزين: جميل، طيب أين تكتب؟ وكيف تكتب؟ متى؟
جمال الغيطاني: طبعاً أنت تعرف الصحافة..
أحمد الزين: هذا السؤال تضمن..
جمال الغيطاني: لم أمارس متعة الفراغ، يعني أنا بدأت العمل وأنا عمري 17 سنة، باستمرار كان النهار بالنسبة لي وقت للمعاش، طبعاً أكتب بالليل دائماً أفصل، أعود في حوالي الرابعة أو الخامسة استريح لمدة ساعة، فأبدأ يوماً جديداً بالجلوس إلى الطاولة، الآن هل كان ذلك صحيحاً أم.. لكن الظروف، وما فات لن يرجع، فعلي أن أكيّف ظروفي الحالية لأني أعتقد أنه آن الآوان لامتلاك معظم الوقت يعني الرصيد القليل، ذي الكرت بتاع التليفون يقول لك الرصيد قرب يخلص..
أحمد الزين: تشعر أنه فيه أشياء كثيرة تخشى أن لا تستطيع كتابتها أو قولها؟
جمال الغيطاني: أنا لست من الكتّاب الذين يبحثون عن الموضوع، أنا عامل بالمشاريع، أحتاج الآن إلى وقت فقط.
أحمد الزين: تعتبر الأشياء التي كتبتها هي ما حققت الجزء الوفير من مشروعك المتكامل؟
جمال الغيطاني: على الأقل الآن في أتمنى أن لا أصاب بكوارث صحية أو..
أحمد الزين: أو كوارث الغرور..
جمال الغيطاني: الغرور ده يعني أنا لا أعتقد أنه فيه كاتب حقيقي يكون مغروراً، يعني ده اللي شفناه في نجيب محفوظ، أحياناً يكون الغرور هو نوع من الصدّ، يعني مش الغرور يعني أنك تضطر تلبس قناع حتى تصد بعض رزالات الآخرين أو يعني أنا عادة شوف الخط الوحيد الذي يثير استفزازي التعرض لما أتصور أنه إهانة فقط، أنا كصعيدي ممكن يعني في الحالة دي ردود فعلي.. يعني إنما ما عدا ذلك دع الحياة تمر لأن الهدف النهائي هو الكتاب كما ذكرت، على الأقل الآن يعني أنا أعمل في مشروع يعني في رواية أرجو أن تصدر في نهاية هذا العام وفيها حوالي ثلاثة أو أربع مشاريع ضخمة.
أحمد الزين: على مستوى التجليات التي كتبتها.. طيب بتقديرك الواحد مع تراكم التجربة وتراكم العمر يعني بيصير ميال أكثر للتأمل والحكمة..
جمال الغيطاني: أكيد طبعاً..
أحمد الزين: وأنت هلأ على كل حال بمعظم أعمالك فيه منسوب من التأمل هيك.. الكتابة نوع من التأمل لكن عندك الدوز شوي عالي؟
جمال الغيطاني: شوف أستاذ أحمد لما بدأت الكتابة، أنت طبعاً تكتب في ظل أشكال معينة يحددها النقد تحددها المدارس الفنية المختلفة، أنا لم أكن أشعر براحة، يعني على سبيل المثال كانوا من ضمن قوانين الرواية يُشترط أن يختفي المؤلف طيب أختفي إزاي وأنا اللي كتبت! يعني كيف.. لم أكن مقتنعاً بذلك، وعندما كنت أقرأ كتاباً مثل الحيوان للجاحظ أجده يوقف السرد في لحظة معينة ويورد شعراً أو يفتح هامش أو يذكر حكاية قديمة، لماذا لا أستمتع أنا بهذه الحرية؟ هذا ما بدأت يعني كانت الانطلاقة في الزيني بركات تأكدت أكثر في كتاب التجليات الآن لا يعنيني أي قانون مسبّق، العمل يولد قانونه معه، فأحياناً..
أحمد الزين: صحيح، قانونه وشكله ورحلته..
جمال الغيطاني: أحياناً ممكن فيه مساحات طويلة للتأمل لأنها لا يمكن أن تكتب إلا هكذا، طبعا القضية الأساسية الخاصة بالزمن وبالوقت، وبعدين تشغلني جداً في السنوات الأخيرة إعادة اكتشاف الحضارة المصرية القديمة.
أحمد الزين: كل شيء في الحياة مادة للكتابة على هذه القاعدة يعمل جمال الغيطاني، ويغرف من نيله وصعيده وحارته في الجمالية ومن ذاكرته وزاده الوافر في التراث العربي العالمي المتحقق في مكتبته العامرة، ويصوغ صوته روائياً منذ أواخر الستينات، محققاً مايقارب الخمسين نصاً ترجم بعضه الأساسي إلى لغات عديدة، ودائماً هناك على طاولته وفي باله ما يشغله نهارته للمعاش وليله لفتنة الكلمة وانجذابتها. [فاصل إعلاني]
أحمد الزين: لعل حي الحسين في القاهرة ذلك المكان العابق بالتاريخ والمزدان بالعمارات العتيقة، جعل من جمال الغيطاني أن يذهب إلى التفكر والتأمل والاهتمام بهذا المنجز الإنساني، مما دفعه لكتابة روائية تؤرخ للمكان حياناً وحيناً أخر تستلهم منه نصاً موازياً تجلى في الكثير من أعماله كـ "سفر البنيان" مثلاً في التجليات، و"شطح المدينة" رواية أخرى، و"استعادة المسافر" خانة عن ذلك المكان التراثي الذي احترق في أواخر التسعينات.
جمال الغيطاني: الرواية عمارة، الرواية عمارة وإيقاع هنا اللي يجمعها بالموسيقى والعمارة، لكن لماذا اهتمامي أكثر بالعمارة؟ لأنه في الثقافة المصرية القديمة كان مقاومة العدم بالبناء، ولذلك تجد المصري من أكثر شعوب العالم المشغول بالبناء، يعني يروح يشتغل بره ويتغرب ويجمع تحويشة العمر ويرجع، أول شي يبني بيت يبني مقبرة، أي شي المهم أنه يبني، يعني فهنا البناء مقاومة زي الأجداد ده جزء من مضمون الحضارة..
أحمد الزين: يعني كل واحد بيعمل هرمه بس على قده..
جمال الغيطاني: بالزبط..
أحمد الزين: كل واحد له هرم على مقياسه ومقدرته..
جمال الغيطاني: أنت جبت من الآخر..
أحمد الزين: بتقديرك هي الرواية فينا نوصفها مثل هيك مجموعة من البيوت المتجاورة المتنافرة المتشابهة أحياناً يسكنها المؤلف أو يزور ناس قاعدين فيها؟
جمال الغيطاني: هو يشيدها بعد ما تكتبها تنتهي العلاقة..
أحمد الزين: طب أنت ربما تكون من بين الأوائل الذين تُرجمت.. الأوائل بجيلك الذين تُرجمت أعمالهم للغات أجنبية، طبعاً ألمانية وفرنسية وإنجليزية وسواها، شو أضافت لك هذه التجربة؟ وشو الأسئلة التي طرحتها أو خلتك تطرحها على نفسك؟
جمال الغيطاني: طبعا إذا لاحظت الآن فيه هوس في العالم العربية بموضوع الترجمة أنا..
أحمد الزين: وفي كتابات بشروط الترجمة..
جمال الغيطاني: فيه أدب عربي الآن مصمم للترجمة، وأنا رح أقول لك الشفرة بتعته، يعني تبص تلاقي واحد حاطط شخصية يهودية ومتعاطف معها، أنا متعاطف مع مأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية مثلاً مأساة إنسانية، لكن أنا أقول الآن أصبح في مثلاً حشر شخصية يهودية..
أحمد الزين: أو تناول مستويات الفلوكلور الهش.. المجاني..
جمال الغيطاني: ما يريد أن يقرأه الغربي الصورة النمطية التقليدية الموروثة من أيام الاستشراق يحاول بعض الأدباء تأكيدها، لكن طبعاً ترجمة الأدب العربي بدأت من سنوات طويلة، أهمية الترجمة التي تمت لي أنه كان أول مرة تصدر رواية من دار كبيرة، يعني دار سوي في باريس دار كبيرة قدمت الزيني بركات كرواية مثل.. السوي هي التي اكتشفت ماركيز واكتشفت.. أنا لم أكن أفكر بموضوع الترجمة..
أحمد الزين: وقرأها الرئيس فرانسوا ميتران، وعمل لك هذه الرسالة اللي معلقها في مكتبك..
جمال الغيطاني: وأنا أعتز بها كثيراً، لأني أنا أعرف ماذا قدم الرئيس ميتران إلى الثقافة الفرنسية، وأعرف أكثر علاقته بالثقافة المصرية القديمة، وخاصة عندما رأيت المشهد الذي كان يحب أن يراه كل سنة في أسوان وهو مطل على النيل وجنادل الصخور في الشلالات.
أحمد الزين: ما جاوبتني السؤال اللي خليت الترجمة أنت تطرحه على نفسك، يعني عملتك حالة من القلق عملتك حالة من المسؤولية الكبرى عملتك حالة..
جمال الغيطاني: إطلاقاً..
أحمد الزين: عادي تعاملت مع الموضوع بشكل عادي..
جمال الغيطاني: أنا الزيني بركات أنا ماضي التعاقد بتاعها سنة 80 وصدرت 85 بعد الزيني بركات أنا بدأت كتابة تجليات، هل تعتقد أنه فيه كاتب يكتب كتاب التجليات وهو في ذهنه الترجمة؟
أحمد الزين: مستحيل طبعاً.
جمال الغيطاني: الكتاب قائم أساساًَ على تجربة وجدانية خاصة جداً ومليء بالرموز وباللغة..
أحمد الزين: كمان تُرجم هذا.. ترجم كاملاً، ألف صفحة تقريباً؟
جمال الغيطاني: هو ألف صفحة، والترجمة تسعد الإنسان لأنه ينتقل لثقافة أخرى، لكن إذا وُضعت كهدف رئيسي يصبح الكاتب.. الأساس يا سيدي إلى أن أصل إلى القارئ العربي هذا هو.. أنا أتمنى الوصول إلى القارئ القارئ الذي أتقن لغته..
أحمد الزين: للأسف يمكن الواحد يقرأ في الغرب أكثر من يقرأ في عالمه لأنه لا أحد يقرأ..
جمال الغيطاني: منذ سنوات كنت أخجل لكن الآن سأقول لك الحقيقة، أنا توزيعي في لغة واحدة مثل اللغة الفرنسية يفوق بكثير توزيعي باللغة العربية، أنا صدرت في كتاب الجيب اللي هو الكتاب الشعبي يحطه في الجيب وأقل طبعة فيه..
أحمد الزين: طبعة شعبية ورخيصة..
جمال الغيطاني: أنت تعرف عشرات الآلاف..
أحمد الزين: طبعاً شي ممتاز كتير على المستوى الشخصي ولكن الواحد يتأسف على أبناء بلاده أنهم لا يقرؤوا، لمن تكتب أنت؟
جمال الغيطاني: لمن يقرأ لي، كان زمان بالتأثير الاشتراكي يجب أن نصل إلى الجماهير، اكتشفت أنه نحن لن نصل إلى الجماهير، والجماهير مشغولة بأشياء أخرى أهم..
أحمد الزين: شوف الجماهير وين صارت..
جمال الغيطاني: الكرة ونانسي عجرم، هذا لا يعني أدين الجماهير لأنه أنت عارف كان عندنا كاشتراكيين نظرة مقدسة لها، لكن الجماهير ياسيدي الآن مشغولة بالتلفزيون، أنا أكتب لمن يتلقى حتى ولو ظل عشرات، لأنك لو تنازلت بحجة الوصول إلى الجماهير لن تكتب أبداً..
أحمد الزين: لن تكتب شيئاً صح، طيب يقال سيد جمال أن الحب أو تلك الحالة اللي نعيشها كلنا هي من الحوافز الأساسية التي تدفع الآخر للتعبير للكتابة للموسيقى للرسم، يعني كم من مرة أُصبت أنت على المستوى الشخصي بهذه الشحنة؟
جمال الغيطاني: كتير..
أحمد الزين: أثرت فيك؟
جمال الغيطاني: آه، بس أنا خد بالك أستاذ أحمد أنا من جيل أنا مثلي الأعلى كان كمال عبد الجواد، وكمال عبد الجواد هو الشخصية الأساسية في الثلاثية، كان فيه قصة حب نادرة جداً مع عايدة شداد، وهو الأستاذ نجيب مر بهذه التجربة، وهو كان بتعبيره قال لي في يوم من الأيام أنا فعلاً حبيت الست دي، وهي بس حب واحد يحب واحد لا هي تعرف ولا دخلت معه في تجربة، طيب هي ذنبها إيه!
أحمد الزين: صارت معك هالحادثة أنت؟
جمال الغيطاني: دا أنا سعيت عشان الممثلة، فكل أنواع الحب اللي حبيتها في الحارة مثلاً اللي هو الحب من طرف واحد، أحياناً حب البعيد يحقق أكثر مما يحققه حب القريب، يعني طبعاً تقلبت بين هذه الحالات، لكن أعتقد أن ظروف المجتمعات العربية وظروف الحياة التي نشأنا عليها لم تفجر طاقات الإنسان في هذا الاتجاه بالذات كما ينبغي.
أحمد الزين: طيب المرأة اللي بذهنك أو بوعيك أو بوجدانك تاريخياً المرأة في القاهرة وفي مصر بشكل عام تغيرت كثيراً كذلك الرجل يعني؟
جمال الغيطاني: كلما امعنت التفكير احترامي واعتزازي بالمرأة يزداد، والنظرة العامة السائدة الآن هي نظرة احتقار للمرأة يعني اعتبارها جسد فقط، بينما المرأة هي مصدر للحياة، على المستوى الاجتماعي أنا سأضرب لك مثالاً من ثقافتنا، في بداية القرن العشرين ظهرت دعوة للسفور يوجد ميدان كبير في القاهرة اسمه ميدان التحرير، هل تعرف لماذا سمي ميدان التحرير؟ لأن هدى هانم شعراوي بنت محمود سلطان باشا قادت ثورة.. قادت مظاهرة من النساء في هذا الميدان لتحرير المرأة، وخلعن النقاب في ذلك الوقت، سنة 16 صدرت مجلة اسمها السفور واستمرت تصدر لمدة سنتين وعندي أعدادها، كان بصدرها شخص اسمه عبد الحميد حمدي أنا لا أعرف عنه شيء، لكن كانت المجلة مكرسة لتأكيد فكرة السفور كان ذلك عام 1916 منذ حوالي مئة سنة، الآن المرأة هي التي تطلب الحجاب، يعني في زمن الإيمان المطلق بالاشتراكية كان فيه تعبير اسمه الحتمية التاريخية، الحتمية التاريخية بمعنى أن كل شيء لا بد أن يتجه إلى التقدم وإلى الأفضل في المستقبل، أحياناً كل ليس بالضرورة يجب أن يمضي في خط صاعد بل يتراجع..
أحمد الزين: مثل ما بلشنا حوارنا..
جمال الغيطاني: الآن العالم كله في مرحلة تراجع، هل كان أحد يتصور..
أحمد الزين: يمكن نحنا الأكثر سباقين إلى الخلف ونحنا مش العالم.. نحن في الطليعة إلى الوراء..
جمال الغيطاني: عشان أنت ثقافتك مش بالقوة التي يجب أن تكون عليها، وبالتالي أنت لا تسطيع أن تصبح جزءاً مؤثراً في العالم فتتقوقع ترفضه..
أحمد الزين: هل قمت بعمل ما وندمت عليه؟
جمال الغيطاني: على مستوى التفاصيل ربما على مستوى الاستراتيجيات لا أظن، يعني أعمال المراحل الكبرى في حياتي لم أندم عليها على الإطلاق.
أحمد الزين: لا كتابة لا تعامل مع زميل أو تناول شخص؟
جمال الغيطاني: أنا لم أكتب إلا ما أنا مقتنع به، ولم يدخل في جيبي إلا قرش حلال، يعني بالعكس أنا أعطيت أكثر مما أخذت.
أحمد الزين: من الصعب أن توجز حياة وتجارب الناس بسطور، فكيف إذا كانت حياة هؤلاء متقاطعة مع أحداث ومراحل دراماتيكية وشاهدة على تجارب غيرت في الرؤى والمفاهيم والمسارات، لعلنا مع جمال الغيطاني أضأنا بعض نواحي في مسار عمره وتجربته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق