أحمد علي الزين: كلما التقيت بعراقي تحضر صورة العراق وتتكثف أكثر بكل جروحها وأوجاعها وأهوالها وشتات أهلها، تلح الأسئلة عن مصير هذه البلاد، عن آفاق نجاتها من الخراب الكلي، وعن أسباب هذا التناحر وهذا التآكل أو الانتحار الأسباب المعلنة والخفية، وإذا كان اللقاء برجل صرف الكثير من وقته بحثاً وتأملاً ودراسة في التكوينات الاجتماعية لهذه البلاد، قد يعثر المرء على أجوبة أكثر دقة ربما. فعالم الاجتماع فالح عبد الجبار ابن بغداد فتنته مثل صباه الظواهر الاجتماعية حيث كان يتأمل في العناصر والأشياء للعثور على مصادر تكوينها وسياقات التطور أو التحولات التي تصيبها.
أحمد علي الزين: هنا في بيروت التقيته منكباً على معاينة عراقه بمجهره التحليلي، يحاول التدليل والإشارة إلى أسباب الانهيار وآفاق الحلول، فإلى أين تؤخذ هذه البلاد؟ ومتى تخرج من هذا النفق وينكسر نصل السكين التي تنحر أهلها؟
فالح عبد الجبار: العراق فيه عدة أزمات، أولاً في أزمة يعني هو في حالة احتراب معه نفسه، فيه افتقاد التصالح بين الدولة والأمة ما فيه تصالح، الدولة كجهاز سياسي للحكومة الأمة يعني كمجموعة جماعات لها مصالح لها رؤى، في تصالح المجتمع مع نفسه، فكرة الهوية، يعني كان في السابق الهوية العراقية قوية جداً، حتى أكراد العراق كانوا يطالبون بحكم ذاتي ضمن العراق، الآن تجد الهوية العراقية موضع تساؤل، يعني برزت الهويات المحلية الطائفية شيعية وسنية الدينية مسلمة ومسيحية، الأثنية ليس فقط الكرد والعرب إنما داخل المنطقة الكردية هناك أثنيات ثانوية برزت أيضاً كرد فعل، القادة العرب والمراقبين العرب يقولون أن هذا شيء جديد هذا غير صحيح، الجديد هو تسيس هذه الهويات وليس الهويات، الهويات كانت موجودة، تسيسها وفي الماضي أيضاً سُيست بحدود ولكن الآن التسيس عنيف مسلح هذا هو الفرق.
أحمد علي الزين: مين اللي ساهم بتسيسها الآن؟
فالح عبد الجبار: الدولة نفسها يعني..
أحمد علي الزين: النظام القائم الحالي؟
فالح عبد الجبار: حتى النظام القائم الحالي، يعني هو يعيد انتاجها باتجاه التصالح الاعتراف بها والمصالحة بينها، النظام السابق كان لا يعترف بها ويُحاول يخفيها تحت دثار سميك من اللغو الايدلوجي، ومع وجود أجهزة إعلام مملوكة للدولة مركزياً لا يوجد أي صوت يناقش هذه القضايا، ولكن تحت السطح كنا نراها، نراها كانت واضحة.
أحمد علي الزين: طيب أنت من الناس اللي كنت طبعاً خارج العراق منذ سنوات يعني..
فالح عبد الجبار: 25 سنة..
أحمد علي الزين: 25 سنة، كنت من الأصوات أو على رأس حملة في الغرب كانت تنادي بعدم وقوع الحرب بتحاشيها إذا أمكن، وكتبت الكثير من الأبحاث والدراسات والمقالات في الصحافة الغربية، بتقديرك كان ليقين منك أو بتنبؤ ما إذا صح القول أن ما يحدث.. أن ما تنتجه الحرب من مآسي سيكون أكثر ضراوةً من نتائج بقاء النظام فيما لو بقي؟
فالح عبد الجبار: نعم كانت هذه واحدة من مخاوفي، طبعاً هي ليست مبنية على هواجس كانت مبنية على دراسات، أنا قضيت في كردستان مثلاً سنة 2002 قضيت ستة أشهر، وعملت مسوحات كثيرة وقبلها يعني جمعت وثائق كثيرة وكذا.. كان المجتمع العراقي مجتمع جديد ليس المجتمع العلماني الحضري الذي كنا نعرفه، الحواضر نمت ولكن نمت كقرى كبيرة، كان الريفي يأتي مع كامل احترامي لكل من هو ريفي وهو قبلي يعتمر العقال، كان مجرد أن يأتي إلى بغداد كان ينزع العقال ويلبس جكيت وبنطلون مثلنا، صار المدني بالعهد السابق ينزع الجاكيت والبلطلون ويلبس عقال لأنه صار رمز للوجاهة الاجتماعية، باعتبار أن الحكام ذوي منحدر قبلي وكانوا يتباهون بهذا المنحدر، أيضاً بسبب صعود الخرافة، الخرافة بمعنى السحر بمعنى الايمان بنمط من الغيبيات ليس الغيبيات الدينية إنما الغيبيات الخرافية، الدولة نفسها شنّت حملة إيمانية تخلت عن كل أيدلوجيتها السابقة صار جو جديد، يعني هذا الجو كنت أتلمسه قبل الحرب، فكنا خائفين.. لست وحدي يعني في هاي القضية.. كنا خايفين من أربع قضايا، واحد أن المجتمع المدني مفتت، المجتمع نسيجه كنسيج وطني مفتت واحد، اثنين المؤسسات التي كانت تمسك البلد انهارت صارت شخصية، أصبح هناك علاقة بين الناس وشخص الحاكم مباشرةً عبر وساطات القرابة والحزب الحاكم، الاقتصاد النفطي منهار بسبب الحصار، لا يوجد أي حوار على الإطلاق، القبلية نهضت من جديد، النزاعات الدينية بالمعنى السلبي وليس بالمعنى الإيجابي أيضاً زادت، فكنا خايفين منها، صارت حملة باتجاه أنه بدل ما تنفقوا 150 مليار على الحرب كما نتوقع أنفقوا 50 مليار على إعادة بناء المجتمع العراقي، بدل إرسال جنود للعراق أرسلوا مراقبين لحقوق الإنسان، أخرجوا من السجون السجناء السياسيين وسجناء الرأي، ما حصل أنه قبل الحرب أُطلق سراح ربع مليون مجرم ولم يكن بينهم سجين رأي واحد لأنه قضي عليهم.
أحمد علي الزين: طيب دكتور فالح يعني 25 سنة خارج العراق، أنتم المثقفون العراقيون المنتشرون بكل أصقاع العالم تقريباً، وهذا العراق مشهد يومي دموي أمامكم شو فيكم تعملوا؟
فالح عبد الجبار: يعني اللي فينا نعمله هو خلق رأي عام خلق وعي، الدولة القديمة انهارت، الدولة الجديدة لم تبنَ بعد، في المرحلة الانتقالية القوة الرئيسية المسيطرة على البلد طبعاً الأميركان مع شوية نبتات الأجهزة الجديدة اللي هي ضعيفة، هناك حالة أنا أسميها حكومة النهابين يعني فيه نهب رهيب للعراق، وفيه مثلما قلنا انهيار للمنظمات المدنية، بناء المنظمات بناء التفكير المدني مسألة مهمة، أنا عندي قلق أنا لا عندي سلاح ولا عندي دبابات، وكل المثقفين العراقيين يعني همهم الوحيد أتصور كما قلت لك تكوين رأي مدني، طريقة تفكير مدنية، رؤية إلى مشكلاتنا بعين صاحية، والعمل على إعادة العافية للهوية العراقية بعد ترميمها لأنها تحتاج إلى ترميم كبير.
أحمد علي الزين: أنت خلال الحرب وسقوط بغداد يعني دخول الأميركان أنت خارج العراق طبعاً، بس رجعت شو عملت؟ لوين رحت؟
فالح عبد الجبار: يعني أول ما دخلت بغداد صُعقت، مدينة مجللة بالغبار معفرة بالتراب، هذا النخيل الزاهي اللي لونه أخضر صاير لونه بني، وكذا حال البلد روحياً ومادياً، كافي الترميز يعني الطريق من المطار إلى شارع الرشيد يشبه سطح القمر كله حفر، جذوع النخيل هذا الزاهي اللي في الطريق اللي متعود عليه على منظره بذاكرتي وذاكرة طفولتي وشبابي كان مقطوع.. النخيل مقطوع الرأس كان أيضاً ترميز آخر عن القتل اللي صار، وصلت شارع الرشيد اللي هو شارع صباي وشبابي وشارع المظاهرات، شارع البنوك، شارع المثقفين، شارع الصالونات الأدبية من باب المعظم في أوله إلى نهايته في الباب الشرقي، وينتهي بعدين بالحانات اللي يلتقوا فيها الشباب مساءً ومقاهي دجلة وغيره، هذا الشارع لم يوضع فيه مسمار واحد، بلد نفطي دخله 400 مليار دولار لم يُدق فيه مسمار واحد، شارع الرشيد على اسم هارون الرشيد يعني هو رمز بغداد، لقيت سطحه الاسفلتي كأن صار تلال متموج، وصار مُباء بالجريمة بحيث الشوفير اللي أخذنا بالشارع بس وصلنا شارع رشيد دعس على البنزين بسرعة خارقة بده يخلص منه، أنا طلبت منه يمر بالشارع حتى أشوفه بكينا وكل أصدقائي بكوا لما شافوا شارع الرشيد، كان صورة مصغرة عن البلد عن الانهيار اللي حصل في البلد.
أحمد علي الزين: طيب كيف تقرأ مستقبل العراق؟ يعني طبعاً هلأ الاقتتال قائم وحرب دموية، يعني أديش ممكن تدوم هيدي؟ من وجهة نظرك شخص ممكن تقرأ حركة المجتمع؟
فالح عبد الجبار: يعني ممكن تدوم سنوات، أنت تعرف يعني فيه بلدان حصل بها تغيير مثلما حصل في العراق بدون حروب، في إيران 79 في روسيا القيصرية 1917 في فرنسا الثورية.. استمرت الحروب الأهلية بعدها سنوات يعني اللا ستقرار وكذا، وراح بها ضحايا كبيرة يعني مجرد تغيير من نظام إلى نظام آخر، فما بالك أن يحصل هذا التغيير بالقوة ومن الخارج، فيطلق كل العنف المختزن بالمجتمع العراقي، أنا أتوقع يدوم العنف بعد أربع خمس سنوات أخرى واحد، اثنين حله سياسي الحل ليس عسكرياً، حله السياسي وحله بالمشاركة وحله بتجاوز بخلق تيار وسطي يتجاوز الطوائف، يعني هناك طبقة وسطى شيعية ديناميكية تكنوقراط وغيره وطبقة وسطى أيضاً سنية وحتى كردية، بإمكانهم وحصلت محاولات وستحصل محاولات في المستقبل لخلق تيار وسطي يتجاوز خطاب الطوائف لبناء دولة مؤسسات، المؤسسات الآن تُبنى ولكن ما تزال ملوثة بلوثة الماضي، بدل الولاء الشخصي اللي كان في السابق موجود، الآن الولاء الطائفي والولاء الحزبي ما يزال قوي جداً، فعندنا مؤسسة وشبه مؤسسة، ومؤسسة وتعطيل المؤسسة في آن واحد.
أحمد علي الزين: طيب شو دور المحيط، هل يستفيد من الاستقرار، ولا كمان آخذه مساحة لتصفية حسابات معينة مع الآخرين؟
فالح عبد الجبار: أولاً في قول أن الحرب هو شيء استثنائي السلمي الأهلي هو الأساس، السلم عادةً بين الدول هو الأساس، الحرب هي لحظة استثنائية، ما حصل الآن أن الحرب هي القاعدة صارت في العراق، والسلم الأهلي هو الاستثناء، وكل الجيران منجرين بهذا الشكل أو ذاك إلى هذه القضية، وكل جار من الجيران عنده مصالحه طبعاً قسم منها مشروع حتى من وجهة النظر العراقية، تركيا مثلاً لا تريد إطار فيدرالي، إيران لا تريد حكومة علمانية، بلد آخر يريد عودة نظام الحزب الواحد، بلد آخر يريد إعادة تقسيم السلطة بشكل آخر وهكذا.. فيه مخاوف عند الجيران، والاتجاه نحو حرية الصحافة والديمقراطية وكذا إذا استقرت على قاعدة سلمية ما محبوبة بالإطار الإقليمي، يعني مثل إحنا نقول مكروهة ولدت بنت.. المرأة المكروهة وتجيب بنت تصير مكروهة أكثر بالمعايير التقليدية، إذا استقر العراق أكثر من اللزوم يمكن يشكّل مصدر تحدي لبعض الدول.
أحمد علي الزين: في اختصاصه وروافده المعرفية قد يستطيع فالح عبد الجبار تقريب الصورة أكثر من سواه ووضعها في إطارها الصحيح، ويستطيع أيضاً رصد سياق الحركة ومعاينة نموها وتحولاتها واصطداماتها وزوالها وتلاشيها، فهذا شأن المهتم بحقول علم الاجتماع، وإذا كانت حياة المدن تشبه حياة الإنسان وحياة الحضارات أيضاً أو قيام الدول وزوالها، يمكن السؤال أين نحن اليوم على خريطة هذا العالم؟ أين موقع مجتمعاتنا وإنساننا على سكة التطور الاجتماعي؟ في أي محطة نراوح أو ننتظر طويلاً؟ وما هي الأعطاب التي تبدو مستعصية وتهدد مصائرنا ومستقبلنا؟ ما هي المسببات التي تعيق اقتراب هذه المجتمعات من تحقيق حضورها في العصر مساهمة في انجازاته وليس استهلاكاً له فقط؟ ولماذا تأخرت هذه المجتمعات وتخلفت عن عربة الوقت لتغرق بمعظمها في الخرافة والغيبيات؟ كيف تستطيع الآن تصنيف المجتمعات العربية على خريطة التطور الاجتماعي؟
فالح عبد الجبار: يعني العالم كلما انتقل من العصر الزراعي اللي كانت به البلدان مفتتة منظمة في طوائف وفي مدن مغلقة وحتى في قبائل، وانتقلوا إلى الدولة الحديثة، نحن كنا في هذا الوضع في ظل الدولة العثمانية، وأقدر أقول أن انتقالنا إلى الدولة الحديثة لم يكتمل بعد، نحن ننتقل إلى هذا العصر وفشلنا في الانتقال من القبيلة إلى الدولة.
أحمد علي الزين: شو أسباب هذا الفشل إذا بدنا نعاين الأعطاب هذه الأعطاب والعوامل التي منعت قيام هذه الدولة الوطنية؟
فالح عبد الجبار: خلينا نشوف بعض نجاح الآخرين الهند مثلاً، الهند كانت في نفس النقطة من التطور بالهند مثلاً..
أحمد علي الزين: ليش أخذت الهند مثال ما أخذت أوروبا؟
فالح عبد الجبار: ليه ما أقرب إلنا، أقول لك المقاربة بين بلد وبلد آخر يعني له امتداد تاريخي، أولاً الصناعة انطلقت بأوروبا قبلنا بكثير، يعني نحن لحد الآن الصناعة ما زالت تتراوح في مكانها، التمدن ما يزال مشوه وإلى آخره.. في الهند ماذا عمل الإنجليز؟ عملوا جهاز إداري جيد مركزي، مدوا سكك حديد ربطوا البلد خلقوا سوق موحد، والأهم من هذا وهذا باعتراف غاندي خلقوا نظام قضاء لا مثيل له، وأعطوا للبلاد اللي فيها خمسين لغة أعطوا لغة واحدة انجليزية، الجزء المسلم من الهند وكانت قارة واحدة رفض نظام القضاء الأنجليزي على أساس أنه يناقض الشريعة، رفض تعلم الانجليزية باعتبارها لغة كذا.. وبقى مجتمع فلاحي صغير، بالهند ترسخت الديمقراطية هنا الحكم العسكري كل يوم يزيد.. وآخرهم بيرويز مشرف، يعني حكومات عسكرية متعاقبة ما صار فيها ديمقراطية ولا صار فيها دولة حديثة، يعني ما صار فيها دولة حديثة دولة مؤسسات..
أحمد علي الزين: نعم يعني القراءة ربما القراءة المبتورة للنصوص الدينية أو للتراث الديني يعني هي عملت عائق أو جدار أمام التطور؟
فالح عبد الجبار: لما تقرأ تاريخ منطقتنا ترتعب كيف.. لأنه كثير من المفتين الجهلة عطلوا التطور، أجيب لك مثال السلطان سليم الثاني في عام 1830 أو ثلاثينات القرن التاسع عشر يريد إنشاء جيش نظامي لأن الدولة العثمانية تخسر إزاء أوروبا، فالجيش النظامي يجلب له ضباط من فرنسا يريدون سراويل، لأن الشروال العريض هذا لا يصلح..
أحمد علي الزين: يعيق الحركة طبعاً..
فالح عبد الجبار: طيب الجيش النظامي بده يحل محل الانكاشرية، الانكشارية كانوا حتى ما يحضرون بالثكنات، كانوا في الشوارع ويشتغلون أحياناً وما يؤدون واجباتهم ونصفهم يجي للحرب ونصفهم ما يجي للحرب، فلما عمل هذه ثاروا عليه اثنين، الانكشارية نفسهم اللي كانوا متبطرين وعاطلين، وخياطي الشراويل، وراحوا حصلوا.. هذه حقيقة هي يعني قد تبدو نكتة ولكن حقيقة في التاريخ.. راحوا استحصلوا فتوى وذبحوه في سبيلها، وتأخر إنشاء الجيش النظامي المركزي الحديث اللي هو لب الدولة الحديثة، ابتكار وسائل العنف الشرعي تأخر، تأخر نصف قرن، نصف قرن بسبب هاي الفتوى، فتوى أخرى مثلاً البنك المركزي بمصر لولا محمد عبده المصلح الكبير ما كان صار بنك مركزي، لأن فكرة البنك الناس ما يتقبلوها ما يفهمون الاقتصاد الصناعي الحديث هذا مش اقتصاد زراعي، الاقتصاد الصناعي ديناميكي فيه مئة فرع، صناعة بترول وصناعة حديد وصناعة فولاذ، أنت اليوم دائن بكره مدين، النقود اللي تحتاجها للتداول أكبر من النقود اللي عندك، وفيه ناس عندهم نقود بس ما عندهم تداول، وفيه ناس بدهم تداول ما عندهم نقود، اختُرعت المصارف لهذا الغرض، إلى الآن فقهاء المسلمين لا يفهمون عمل المصارف لم يدرسوها، ويقفون ضدها إلى الآن لم تُحل هذه المشكلة.
أحمد علي الزين: يعني هذا يقودنا إلى مفهوم الحداثة، يعني نحنا أخذنا من الحداثة الشكل ونستهلكها من دون أن نسهم فيها أو حتى نعيشها كما ينبغي أن تعاش يعني؟
فالح عبد الجبار: يعني حتى مناقشة مفهوم الحداثة بالمنطقة أيضاً ضعيف، يعني الناس يقول لك الحداثة كأنه هاي الحداثة، مو هاي الحداثة، الحداثة تصنيع سواء كان تصنيع ثقيل سواء كان الآن صناعة المعلومات الآن هي القطاع الأكبر مثلاً، التمدين السكن في المدن، التمدين بالمعنى الثقافي وليس بالمعنى المكاني، العلمنة يعني فصل الدين عن الدولة على مبدأ الاختصاص مش إلغاء الدين، لا يُلغى الدين لا يوجد عاقل..
أحمد علي الزين: كما حدث في أوروبا..
فالح عبد الجبار: لا لا الدين يبقى، عنده الوظائف والدولة عندها وظائف، لا يجوز الخلط بين وظائف الاثنين، بعد التمدين هناك اقتصاد السوق نحنا اقتصادنا إلى الآن ما يزال أوامري، عدا لبنان لا يوجد اقتصاد سوق على الإطلاق، الدولة تهيمن على الاقتصاد، تهيمن على السلطة السياسية والاقتصادية، الليبرالية بالمعنى السياسي أيضاً لا يوجد ما تزال الدولة شخصية، وبالتالي نحن عندنا تحديث ناقص تحديث جزئي وهو عملية تاريخية بكل الأحوال.
أحمد علي الزين: نعم، يعني الواحد يستشف من كلامك يبدو نحنا ماشيين إلى الخلف بسرعة قياسية مش إلى الأمام..
فالح عبد الجبار: : لا نلحق بالعالم، عم نمشي نمشي ببطئ شديد وأحياناً فيه نكسات نسقط فيها، بس العالم يتقدم بحيث الفجوة تزيد لا تقل، في الدخل في العلم، الجامعات أربعين سنة بيننا وبين أوروبا فجوة.
أحمد علي الزين: بس في فترة من الفترات يمكن بين الستينات والسبعينات يمكن كان الوضع أفضل بكثير على مستوى الحريات، على مستوى الفكر على مستوى التعبير على مستوى حتى الانخراط في العصر والإسهام في بنائه؟
فالح عبد الجبار: يعني أولاً خلينا نقول أن فترة الصعود اللي أشارت لها هي فترة ما يسمى بالعصر الملكي إحنا في العراق نسميه، اللي هي من بداية القرن إلى أواسط الخمسينات، التراكم الحضاري اللي ظهر في عهد عبد الناصر في العهود الجمهورية اللي شفناها هو كان تراكم في المرحلة السابقة، ما نشاهده الآن في البلدان هو التراكم في فترة هذه الحكومات الثورية، هذه الحكومات الثورية خربت أكثر مما بنت، أنا كان عندي رأي أيدولوجي أنها هي صنعت شيئاً كبيراً، عندما تدرس وقائع التاريخ تشاهد أن النهضة الفكرية في عهد عبد الناصر هي صناعة في العهد الملكي، هم حصدوا ما زرع غيرهم، وزرعوا شيء نحصده الآن، يعني هذه الدولة الواحدية المحتكرة للإعلام والمحتكرة للاقتصاد والمحتكرة للثقافة والمحتكرة للسياسة بالطبع هذا الاحتكار الشامل هي دولة شمولية.
أحمد علي الزين: ما يقلق الإنسان المعاصر اليوم وبشكل مريع هو العنف وتزايده وتنوعه في الشكل والكمّ، حتى تكاد تكون إحدى الصور الأكثر رعباً في التاريخ هي صورة هذا العصر، الذي يشهد إبادات جماعية وتشريعات للقتل والذبح والنحر، والمزيد من العمليات الانتحارية التي تجد مسوغات فقهية لقيامها، وتحيل الجسد الإنساني إلى أشلاء دون أن تفرق بين طفل وشيخ وامرأة وخصم وعدو وقريب. تطرق فالح عبد الجبار إلى هذا الموضوع، ودخل هذا الحقل الملغم معايناً لأسبابه للعوامل التي تؤسس له على أكثر من مستوى، ومتطرقاً لمدلولاته وتأويلاته.
فالح عبد الجبار: العنف أولاً شي داخل المجتمع بين جماعات اجتماعية العنف السياسي، وبين الجماعات السياسية والدولة، اللي هي عنف سياسي من نوع آخر، والعنف بين دولة ودولة هذه ثلاث مستويات للعنف، فأنا حاولت أرصد هاي من خلال انتقال المجتمعات العربية من الدولة العثمانية إلى الدولة الحديثة، فنشوء الدولة الجديدة هو بحد ذاته يعيد توزيع السلطة والثروة فيخلق احتدام داخل المجتمع هذا منبع أول، اثنين الدولة بما أنها مسؤولة عن إعادة التوزيع هذا بعض أقسام المجتمع تعاديها تحت مسميات شتى، تيارات ثورية تيارات يسارية يمينية قومية إلى آخره، وهناك العنف بين الدولة والدولة حتى بين الدول العربية، يعني فهي ثلاث مستويات للعنف، وحاولت أشوف يعني أشكالها الاجتماعية وتأويلاتها الثقافية.
أحمد علي الزين: نعم طيب هذا العنف الأصولي إذا صح القول اللي عم نشهده الآن، يعني شو منبعه هذا؟
فالح عبد الجبار: منبعه أيدلوجي بالطبع وقيمي أيضاً، قيمي لأنه فيه كثير من أشكال الذبح اللي تمارس، في بعض الأيدولوجيا أو كل الأيدولوجيات في الحقيقة ترسم خط فاصل بين ما هو ينتمي وما لا ينتمي لها، وكل ما لا ينتمي لها هو عدو، فكرة القومية عندما تقول نحن عرب فكل من لا ينطق باللسان العربي هو خارج هذه الدائرة لا يدخل هذه الدائرة، إذا حاول يدخل لها بدك تقصيه وتقصيه بالقوة وتبرر العنف ضده، أنت إسلامي أنت ماركسي أنت قومي كل أيدولوجية ترسم حدود وتقصي الآخرين عن هذه الحدود واحد فأساسها أيديولجي، الشيء الثاني فكرة القربان يعني نحنا الثقافات القديمة كانت تذبح البشر وتقدمها قرابين.. الأضحية بالثقافة الإسلامية استبدل الذبح الفعلي بالذبح الرمزي، الآن يعيدون قلب.. يعيدون إرجاع فكرة القربان ولا ليش يقتلوا يعني القتل ممكن يصير بالرصاص مثلاً ليس بالسكين، وليه الحز من الرقبة يعني هذا الفعل الرمزي مقصود، إرجاع فكرة القربان إرجاع فكرة النحر إلى ما قبل الإسلام وبمسوغات فقهية، طبعاً فيه حيل فقهية تمارس على هذا الصعيد، فأساسها أيديولوجي وأساسها قيمي والأساس الثالث لها اجتماعي، لأنه أغلب دعاة الحركات الإسلامية النشطاء وليسوا القادة، القادة من طبقات الوسطى الحضارية أغلبهم من منابع ريفية والقيم القبلية للذبح واحتقار الحياة الإنسانية قوي جداً، لذلك هذه المنابع أيدولوجي اجتماعي وقيمي تلتقي معاً تولد هذا العنف اللي ليس له مثيل.
أحمد علي الزين: فالح عبد الجبّار ابن بغداد عاش في حاراتها وتعلم في مدارسها، فتنته أسئلة وقته فانخرط في ورشة تغيير العالم على حد قوله. والماركسية آنذاك كانت جذابة لجيل يبحث عن موقعٍ، عن هويةٍ، عن دورٍ أو عن معنى للوجود. لكنه على ما يبدو بدأ يرسم معالم أو ملامح لطريقٍ أكثر وعورة وتتطلب جلداً وجهداً أكثر وهي طريق علم الاجتماع على عكس مجايليه الذين ذهبوا إلى الشعر والقصة والفنون مسرحاً وتشكيلاً وموسيقى، بالطبع لم يستقر به الحال في بغداد كما كل الذين غردوا خارج السرب. لذلك كانت له محطات عديدة ما بين جبال كردستان وبيروت على أثر هزيمة 67 حيث انضم إلى المقاومة وعرف الجنوب اللبناني ثم إلى أوروبا طالباً وباحثاً درس الفلسفة والاقتصاد والأدب إلى أن استقر في لندن متخصصاً في علم الاجتماع ليصبح أستاذاً لهذه المادة في جامعاتها وواحداً من بين أهم الباحثين في حقولها حيث كتب عشرات الأعمال والأبحاث والدراسات في اللغتين الانجليزية والعربية.
فالح عبد الجبار: أنا ولدت في منطقة في باب الشيخ في منطقة اسمها الطاق اللي هو قوس مبني إزاء ضريح الصوفي المعروف عبد القادر الجيلاني أو الكيلاني كما يسموه، على مبعدة أمتار من بيت الروائي العراقي صاحب المسرات..
أحمد علي الزين: والأوجاع.
فالح عبد الجبار: والأوجاع فؤاد تكرلي. ثم انتقلنا إلى منطقة أخرى الآن صارت نافورة في وسط بغداد، ساحة النافورة قريبة من الجامع الخلاني. يعني نهاية طفولتي كانت هناك، أول شيء عشقته هو الأدب. أنا ختمت القرآن عمري خمس سنين مثلاً.
أحمد علي الزين: خمس سنين؟
فالح عبد الجبار: نعم، فجملتي العربية يعني
أحمد علي الزين: عالية.
فالح عبد الجبار: بها يعني مرات بدون بشكل لا واعي بتطلع فيها أشياء قرآنية يعني أنتبه عليها بعد ما تطلع، بس بدون تفكير بدون هاي.. درست الهندسة بالبداية ثم تركتها لسنة واحدة.
أحمد علي الزين: شو اللي أخذك على علم الاجتماع يعني نتيجة انتمائك الفكري السياسي؟
فالح عبد الجبار: لا بالعكس انتمائي الفكري
أحمد علي الزين: أو العكس هو الصحيح؟
فالح عبد الجبار: .. قادني في البداية إلى الدراسات الماركسية والاقتصاد السياسي وأول ترجماتي هي كانت اقتصاد سياسي، كان بداية حبي للأدب الانجليزي يعني فانتقلت من الهندسة إلى الأدب الانجليزي. بعدين انتقلت إلى الاقتصاد صرت أقرأ اقتصاد وأترجم اقتصاد، بعثوني بعثة لبودابست لدراسة الإعلام، هربت منها ورحت للاقتصاد. بعدين حاولت أدرس فلسفة لفترة بسيطة كل ما أدرس اقتصاد وفلسفة تزيد قناعتي بأن علم الاجتماع هو يجمعهم ويتجاوزهم. فصرت أقرأ أقرأ إلى أن رحت إلى انجلترا ودرست حوالي تسع سنين.
أحمد علي الزين: خلال فترة العراق قبل ما تخرج من العراق عملت تجربة طبعاً أنت مثل ما ذكرنا كنت ماركسي أو شيوعي وعملت تجربة في جبال كردستان؟
فالح عبد الجبار: نعم.
أحمد علي الزين: شو هاي التجربة كانت؟
فالح عبد الجبار: كنا بعد خروجنا من العراق، بدا كفاح مسلح يعني.
أحمد علي الزين: بالـ 78.
فالح عبد الجبار: بالـ 79 رُفع شعار لأنه طُرد ألقي القبض على خمسين ألف شيوعي تقريباً، وقتل الكثير منهم تحت التعذيب، أنا هربت بليلة سودة يعني كان اسمي على القائمة السوداء فيجب أن أهرب وهربت ببساطة يعني في ناس ما توفقوا وفي ناس قتلوا وكثير من أصدقائنا قتلوا، بقيت سنة وشهرين الحقيقة. اشتغلت يعني كانت في جريدة كنا نحررها يعني ما حملت سلاح الحقيقة ما أطلقت خرطوشة يعني بس كانت تجربة حلوة يعني بالقرى يعني الدين الشعبي والأساطير كيف تشوف الأساطير ما قبل الإسلام تبقى في القرى رغم أنهم متديّنين ويصلون خمس أوقات ويعرفون أنهم مسلمون يعني في مثلاً تقديس المقابر. التاجر عندما يعبر الحدود يضع كل سلعه في المقبرة والناس يخشون حتى لو كانت ليرات ذهب يخشون يمدّون أصابعهم عليها، وهذا يرتبط بتاريخ قديم أن المعابد كانت الكنوز مال التجار، يعني هلأ التاجر يجي عنده حساب في البنك هاي كانت بنوكهم أيام زمان، ما حدا يمسها.
أحمد علي الزين: حتى هاي حتى هاي عرفت شو مصدرها.
فالح عبد الجبار: أي. فصرت أجمع ملاحظات، شي سحرني يعني شي جديد وصار في عندي فضول شديد فصرت أقرأ عن الأديان البدائية وأنماطها وسوسولوجية الدين ودوركايم وغيره، حتى أفهم بس في هشاشة ولا بس هون إلى آخره فكان هذا مدخل زاد اهتمامي.
أحمد علي الزين: زاد اهتمامك يعني وحفزك أكثر نحو علم الاجتماع.
فالح عبد الجبار: نعم.
أحمد علي الزين: بيروت كانت محطة أساسية مثل ما ذكرنا بتجربتك في السبعينات طبعاً يعني وعرفت الجنوب اللبناني من تلك الفترة؟
فالح عبد الجبار: أنا يعني بيروت بالنسبة لي صارت مدينتي الأولى، يعني ذاكرتي البيروتية أقوى صارت من ذاكرتي البغدادية. كثير كثير أقوى، يعني بيروت أصابها ما أصاب بعض المدن العربية الترييف، زحف الضيعة عندكم إليها.
أحمد علي الزين: نعم.
فالح عبد الجبار: الهجرة أيضا هجرة الطبقات المتعلمة وخروجها هذه وحدة من مشاكل العالم العربي، لأنه بسبب يعني أوضاع عدم الاستقرار الطبقات الوسطى تهاجر، الفقراء ما يهاجروا. دائماً الطبقات الوسطى تهاجر لأنها عندها المعرفة وعندها الصلات..
أحمد علي الزين: بتدبّر حالها في الخارج.
فالح عبد الجبار: بتدبّر حالها. فيصير تراكم.. تآكل للتراكم المعرفي تآكل للتراكم الحضاري.
أحمد علي الزين: بتقول في مكانٍ ما أنك تحررت من الايديولوجيا نتيجة الرعب اللي حدث معك بعدما صرت تقرأ أرقام الضحايا ضحايا الحروب والقتلى، تعتقد هل الايديولوجي بشكل عام هو يعني نص أعمى أو..؟
فالح عبد الجبار: أنا أعتقد الايديولوجي أعمى بالكامل.
أحمد علي الزين: أعمى بالكامل.
فالح عبد الجبار: أي. حالة اللي كان يسميها عالم الاجتماع الكبير علي الوردي كان يسميها التنويم المغناطيسي. يعني في كلمات تعبر عن وقائع. نحن نعبد الكلمات وننسى الوقائع. الطبقة الأمة الوطن النضال الالتزام الـ.. مش عارف أيش..
أحمد علي الزين: التحرير الحرية العدالة..
فالح عبد الجبار: التحرير الإرادة يعني تقرأها أوكي. كلمات يعني في كلمات لها مدلول منضدة منضدة يعني أوكي. يعني ما نختلف عليها واحد يقول لي وين الوطن؟ أقول له: يا أخي الفلاح العراقي في الثلاثينات يفهم الوطن أحسن منك أنت المثقف العراقي أو العربي في عام 2007. فيه حادثة طريفة أنا دائماً أذكرها لطلابي، في الثلاثينات الدولة العراقية قررت تسوّي التجنيد إجبارياً أنه كل الناس لازم يدخلوا الجيش لما يبلغوا عمر الـ 18 الفلاحين رفضوا لأن أولادهم يشتغلوا بالحقل ويحتاجوهم، فأجا وزير الدفاع بكل نياشينه وأوسمته وكرشه وكذا وقال له: ما تحب أنت تدافع عن وطنك يا فلاح يا كذا؟ قال له شو هو الوطن؟ ما سامع بهالكلمة. قال له: الوطن القاع، القاع يعني الأرض. قال له: أنا عندي أرض حتى.. أنا ما عندي أرض أعطوني أرض. ما كان عنده أرض. قلت له: هذا الفلاح يفهم معنى الوطن أنه أنت لك حصة في هالبلد، بالمشاركة الاقتصادية وبالمشاركة السياسية وبالمشاركة الثقافية إذا أنت محروم من كل هذا وين الوطن شو الوطن؟ يعني الكلمة هاي اللي أنت تحبها، يعني شو دلالتها الوجودية وين؟ أعطيني دلالتها الوجودية على عيني.
أحمد علي الزين: كثيراً ما يشعر المثقفون بغربةٍ أو بهوةٍ سحيقة بينهم وبين مجتمعاتهم وناسهم، فالجسر المفترض بينهم وبين الناس واهٍ وغامض أو غير منجز، حتى لكأنهم يؤسسون في قراءاتهم وكتاباتهم وأبحاثهم للفراغ باستثناءات بعض المهتمين طلبةً أو دارسين. فالناس بغالبيتهم ينتمون إلى مرجعيات وعالمٍ وثقافة تغيب حضور ودور المثقف الجدلي أو النقدي. وكلما بانت ملامح لعلاقة ما تجهض وتبرز أو تتعزز ثقافة الخرافة ويبرز أكثر ويتعزز دور رجل الدين. فكيف يمكن أن نقرأ ذلك ونتبين أسبابه بمرصاد علم الاجتماع.
فالح عبد الجبار: الثقافة الأبجدية الجديدة الحديثة في بداية القرن تأثيرها ونفوذها أقوى من الآن. كانت جزءاً من الثقافة العليا والثقافة العليا كانت هي الأساس يعني ما تقدر تصنع دولة بدون وجود تكنوقراط، مختصين ومثقفين واقتصاديين إلى آخره.. ورجال تربية ورجال علم ما فيك ما فيك تبني دولة على الإطلاق، الآن الثقافة العليا صارت بالحضيض، الثقافة الدنيا هي اللي صعدت، الثقافة الدنيا أقصد بها يعني كل أشكال الإنتاج غير الفكري يعني ..
أحمد علي الزين: يعني اللي ما بيحرك العقل.
فالح عبد الجبار: أي. يعني انقلبت الأدوار. وبعدين نحن عندنا مؤسسات الثقافة ملحقة بالدولة ما عندها ما عندها استقلاليتها. لذلك شوف هسّه في العالم العربي عموماً هناك همود فكري باسثناء مكانين: المغرب ولبنان، المغرب فيه صار استقرار ثلاثين سنة ومؤسسات الإنتاج المعرفي بالجامعات والمعاهد عندها استقلالية نسبية بحدود يعني. ولكن كانت كافية لإنتاج نهضة فكرية كبيرة، والنهضة الفكرية العربية الأخرى الفرع الثالث عدا لبنان والمغرب بالغرب، وين الثقافة العليا؟ ما إلها مكان. أغلب الانتاج العربي الثقافي الجدّي عن العالم العربي ينتج بالغرب بالفرنسية وبالانجليزية وبالألمانية يُكتب. أحسن الأطروحات تكتب عنا هناك.
أحمد علي الزين: صحيح. يعني الجسر المفروض يكون قائم بين المثقف والناس، هو مدمر أو غير قائم على الإطلاق.
فالح عبد الجبار: ما موجود.
أحمد علي الزين: مش موجود. طيب هذا الجسر ما في مجال لبنائه مثلاً عبر الجامعة، عبر عبر مراكز أبحاث عبر وسائل إعلام، عبر ..
فالح عبد الجبار: ممكن ممكن بس ينفصل عن الدولة ياخذ مداه. يعني لبنان لوحده لا يكفي، لبنان صغير أصغر من أن يتحمل المهمة لوحده يعني.
أحمد علي الزين: صحيح. طيب بتقول أيضاً أنه أنت جيل.. من جيل هزيمة 67 وهذا الجيل شرخ نصفين تقريباً نصف عامل أو فعّال ونصف شكاك وخائف ومرتبك و.. أنت أي نصف منهم؟
فالح عبد الجبار: يعني بعد نكسة حزيران النصف الأول أنه نريد أن نعمل شي يعني، الفاعلية السياسية. لذلك أنا مثلاً التحقت بالمقاومة الفلسطينية بعد سنتين..
أحمد علي الزين: من الهزيمة.
فالح عبد الجبار: من الفاعلية.
أحمد علي الزين: نعم.
فالح عبد الجبار: بنفس الوقت العمل الثقافي أنا الآن كلياً بالعمل الثقافي يعني نشاطي يعني ما عندي نشاط سياسي ولا عندي نشاط.. نشاطي ثقافي صرف يعني..
أحمد علي الزين: يعني آنذاك كنتوا معولين على.. معولين تقريباً على شيء يشبه الوهم أنه رغم الانخراط الكلي جسدياً وفكرياً بهالتيارات والأحزاب اللي كانت موجودة؟
فالح عبد الجبار: أي. على أساس رح نقلب الدنيا والعالم.. ورح نغيّر ومش عارف ايش. هذا كان صديق لي يقول أول ما صرت مناضل فصرت أتحرش برجال الأمن، وما يلقون القبض علي يعني شو مو ماخديني جد؟ نحنا رح نغيّر العالم، رح نقلب الدنيا فنحنا كنا هيك يعني..
أحمد علي الزين: طيب من جملة ما لديك عندك بحث ودراسة عن التاريخ الاجتماعي بين القاهرة وبغداد وتونس على ما أعتقد، بأي هاجس يعني ذهبت إلى إلى هذا البحث بين المدن الثلاث وعلى شو عثرت؟
فالح عبد الجبار: أنا أنا كنت أنظر إلى المجتمع العربي كمجتمع طبقات من منظور ماركسي.. وبعدين لقيتها..
أحمد علي الزين: مش كأمة يعني قصدي. وأنت جمعت من المشرق إلى المغرب.
فالح عبد الجبار: نعم. المنظور الجديد اللي شفته هو ثلاث مكونات للمجتمع القبيلة والمدينة والدولة. فصار اهتمامي على الدولة بالمعنى فقرأت التاريخ الاجتماعي للقاهرة، والتاريخ الاجتماعي لتونس ولبغداد، وهالني التشابه. المدينة كل المدن مسوّرة فقدت أسوارها في لحظة. الأحياء مغلقة فقدت الأبواب اللي كانت تنغلق عليها. مدّ المياه مثلاً بالمدن كلها تقريباً جرى في وقت متقارب واحتاج إلى ثورة ثقافية دينية فقهية..
أحمد علي الزين: في عندك حكاية أنت عن هذه الفكرة
فالح عبد الجبار: أي. في القاهرة.
أحمد علي الزين: عن فكرة الحنفية وشو مصدرها.
فالح عبد الجبار: أي. في القاهرة مدّت شبكة أنابيب مياه، شركة فرنسية أتصور..
أحمد علي الزين: في أي سنة هاي تقريباً؟
فالح عبد الجبار: بأواخر القرن التاسع عشر.
أحمد علي الزين: التاسع عشر.
فالح عبد الجبار: نقابة السقائين اللي كانت منتمية للطريقة الرفاعية احتجت على هذا واستحصلت فتاوى من فقيه الشافعية ومن فقيه الحنبلية والمالكية بحرمة الوضوء بالماء اللي يجي من الصنور.. من المواسير. إلا المذهب الحنفي فصاروا الناس لما يشوفوا واحد يتوضأ من صنبور الميه يقولوا له حنفية. فصار صنبور الميه اسمه حنفية بفضل الأحناف وفتواهم هذه.
أحمد علي الزين: نعم يعني أنت بتهتم هيك بتاريخ أو تأريخية الأشياء أو تطورها حتى باللباس حتى بالوسائل اللي بنستخدمها يومياً؟ أيضاً هذا بيصب ضمن هواجس عالم الاجتماع يعني بتقديرك؟
فالح عبد الجبار: بالتأكيد يعني يعني لو تاخذ تاريخ الرأس بالمنطقة العربية.
أحمد علي الزين: الرأس؟
فالح عبد الجبار: أي تاريخ تاريخ.
أحمد علي الزين: نعم.
فالح عبد الجبار: الرأس كان عليه عمامة، تحولنا من العمامة إلى الطربوش التركي، هذه رمز للتحديث التركي، اللي يسمونه فز يعني فاس.. من فاس يصنع.
أحمد علي الزين: مدينة فاس.
فالح عبد الجبار: فاس المغرب. بالعراق أزيح الطربوش جاءت السيدارة الفيصلية اللي هي أفغانية ثم نزع..
أحمد علي الزين: أفغانية المصدر هي؟
فالح عبد الجبار: نعم. ثم نزعت السيدارة وكان وراءها معارك. اللباس الأوروبي الحديث في السابق اللباس هو دالة على الدين والمكانة الاجتماعية واللغة والاثنية، عندما ترتدي قفطاناً معيناً يعرف الناس أنك عربي مسلم سني وتاجر.
أحمد علي الزين: وتاجر.
فالح عبد الجبار: نعم. هذه الأشياء الآن تحملها ببطاقة هوية في جيبتك، لأن الطائفة هي الأساس.
أحمد علي الزين: بالأول كنت تلبس بطاقة الهوية.
فالح عبد الجبار: تلبس هويتك. الآن تحملها ببطاقة. اللباس الأوروبي الحديث هو لباس متساوي، لذلك الانتقال من عالم الطوائف إلى عالم الأمة ومن فكرة الرعية إلى المواطن. المواطن شيء مجرد. أنا وياك لابسين جاكيت وبنطلون، ما حدا حيعرف أنا مسيحي مسلم شيعي سني.
أحمد علي الزين: تاجر.
فالح عبد الجبار: ربما يعرفون غني أو فقير أي، اللهجة أيضاً توحَّد.
أحمد علي الزين: حتى غني أو فقير يمكن شوي صعب يعرفوا إلا إذا شافوا نوع القماش يعني.
فالح عبد الجبار: اللباس موحِّد.
أحمد علي الزين: صحيح.
فالح عبد الجبار: ألغيت الفروقات، صار يعني اللباس الأوروبي هو تجسيد لفكرة المواطن، وإلغاء لفكرة الطوائف.
أحمد علي الزين: زين.
فالح عبد الجبار: فلذلك كنت أهتم بهالتفاصيل شي حسي يعني تفهم المفاهيم معادلاتها الحسية أيضاً بالحياة.
أحمد علي الزين: فالح عبد الجبّار غادر عراقه مبكراً لكن العراق بقي حمله وهاجسه وهدفه أينما حل وأينما أقام، في لندن أمضى سنوات طويلة منتجاً في حقول علمه علم الاجتماع بحثاً ودراسة وتوثيقاً إضافة لعمله الجامعي، وقد أنشأ مركز الدراسات العراقية هناك بهاجس قراءة المكوّنات التاريخية والاجتماعية والثقافية لهذه البلاد لعله يسهم في تشكيل وعي وفي فهم أدق وأعمق لوطن شتته الاستبداد ومزقته الحروب والنزاعات، من لندن إلى بيروت حمل فالح عبد الجبّار حمله المستزاد سنة بعد سنة مستكملاً هذا البحث الطويل في أحوال بلاده، فما هي العناوين التي تشغله الآن؟
فالح عبد الجبار: أول شي العراق الآن فيه نخب سياسية واجتماعية جديدة، ما نعرفها. نخب دينية، نخب قبلية، نخب رجال أعمال جديدة، إعادة تدوير للثروة الاجتماعية، مثلاً أجيب لك مثل غرفة تجارة بغداد كانوا نصف مليون، نصفهم هربوا من البلد، الآن عدد أعضائها مليون وربع تقريباً. طيب من وين إجو هدول؟ في طبقات جديدة تنخلق، الطبقات القديمة يُحذف منها أقسام وتدخلها أقسام، وهذا التغير بعدين يولّد لك نتائج ثقافية واجتماعية، فجأة تنفجر فيجب أن تدرس تكويناتها من البداية، فلذلك الآن يعني التركيز على النخب..
أحمد علي الزين: صابب اهتمامك على هذه الظواهر يعني.
فالح عبد الجبار: النخب الجديدة التحوّلات القيمية أيضاً، النخب الجديدة بالمحافظات مثلاً، سابقاً كانت السياسة تتركز بالعاصمة. يجي جمال عبد الناصر للقاهرة يعمل انقلاب البلد كله يسقط، يجي عبد الكريم قاسم لبغداد يعمل انقلاب تنتهي الأمور، العاصمة هي كل شيء ربع السكان فيها والمدن الأخرى هي قرى صغيرة، الآن غير شكل. عندنا قرى مدن مليونية أكثر من عشرة والمدينة المليونية فيها نشاط سياسي تقدر تعطّل البلد.. بدأت إصدار كتب تسد هذا الفراغ ترجمات. تقديرنا أن الفجوة نصف قرن إلى أربعين سنة الفجوة المعرفية، ودا نعمل أيضاً دورات للطلاب يعني علم المنهج نركز عليه..
أحمد علي الزين: في المركز.
فالح عبد الجبار: نعم.
أحمد علي الزين: طيب دكتور منلاحظ بالفترة الأخيرة طبعاً لديك الكثير من الكتابات يعني يمكن الكتابات الضخمة اللي ترجمتها هو كتاب رأس المال لماركس وكتب أخرى، ولكن في الفترة الأخيرة منلاحظ معظم كتاباتك كانت باللغة الإنجليزية، منها الحركة الشيعية في العراق، الماركسية والشرق الأوسط، كتاب آخر عن آيات الله بين المتصوفة من الأيديولوجيا، والمكونات والدولة، ماذا أردت أن توصل من خلال الكتابة باللغة الإنجليزية؟ هل أردت أن توصل صورة ما أو صوتاً ما في ذهنك للقارئ الغربي عن العراق؟
فالح عبد الجبار: هو كتبتها بالإنجليزية كنت أشتغل بجامعة لندن، لو كنت أشتغل في جامعة بيروت لكتبتها بالعربية، وبالعكس أنا متألم لأني كتبتها فقط بالإنجليزية لم تترجم لم أترجمها، الوقت صعب ضيق علي.
أحمد علي الزين: يعني كبيرة يعني بتاخذ وقت؟
فالح عبد الجبار: يعني هذا الحركات الشيعية قضيت فيه تقريباً 7 سنوات أشتغل فيه، وهذا نصف مادة البحث تقريباً، النصف الآخر ما قدرت أنشره يعني مادة واسعة.
أحمد علي الزين: شو بيعنّ على بالك هيك بس تستعيد صورك أو هيك مشاهدك ما بين بغداد والمنفى اللي عشت فيه 25 سنة في لندن وسواها وبيروت شو بيخطر ببالك.
فالح عبد الجبار: يعني بغداد مدينة صباي، ذاكرتي الأولى، وأول الفورات. لندن مدينة المعرفة كهولتي فيها، بيروت شبابي وكهولتي الثانية إذا صح التعبير.. وهي بديل يعني أنا يعني بديل حقيقي عن بغداد يعني..
أحمد علي الزين: بيروت..
فالح عبد الجبار: هي بغداد بالنسبة لي ضاعت.
أحمد علي الزين: ضاعت.
فالح عبد الجبار: متى ستعود لا أعرف، ممكن تعود بس..
أحمد علي الزين: عندما تعود سوف تعود إليها؟
فالح عبد الجبار: ما أعرف.
أحمد علي الزين: ما بتعرف؟ يعني بتحسّ المرء بس يبعد كثير عن بلاده أكثر من عشر سنين بيصير فيه نوع من الوادي السحيق؟
فالح عبد الجبار: ممكن. بس أنا أيضاًَ في يمكن شي براغماتي أن البعد يخليك تنظر للوضع هناك ببرود، بعين باحث أيضاً، لما تنغمر عاطفياً أكثر من اللزوم بتتعطل ملكة التفكير يعني..
أحمد علي الزين: طيب بجولة هالكتب اللي كتبتها كلها كتبت الكتاب اللي أنت براسك؟
فالح عبد الجبار: أي. موجود بالإنجليزية سيصدر قريباً اسمه العراق ثلاثي الأبعاد، هو عن فترة البعث بس به تشريح لتاريخية الدولة وبه تشريح لتاريخية المجتمع..بالإنجليزي. فبس يصدر بالإنجليزي لأنه حتى أترجمه للعربي ما عندي حقوق أترجمه الآن. يعني بس ناطر يصدر. وفيه كتاب هو يمكن هذا يمكن آخر أكتبه، وبعدها ممكن أكتب قصص.. وبالمناسبة في كثير قرابة بيناتهم.. متل الموسيقى والفيزياء ما حدا يصدق أنهم أقرباء كثير، فالكتاب الآخر اللي هو يعني اللي اشتغلته بس بعده مسودات هو: القبيلة المدينة الدولة إعادة قراءة للتاريخ السوسيولوجي للعراق.
أحمد علي الزين: الحوار مع عالم الاجتماع يشبه إلى حد بعيد الحوار مع اختصاصي في الطب قد تشفى أو تزداد يقيناً بعدم الشفاء إذا ما دل على مرض مستعصٍ. وهكذا حال فالح يدل على مواضع الأعطاب ويقول هذا ممكن الشفاء منه وهذا يتطلب زمناً طويلاً. فالح عبد الجبار حين تقرؤه تقرأ أديباً متخفياً في عالم الاجتماع أحياناً، أو عالم اجتماع يغويه الأدب. على كل حال الحوار مع فالح قد يطول بطول جرح عراقه، لعلنا بهذا القدر منه أي من الحوار نكون قد اقتربنا من مواضع الألم وأسبابه وعرفنا شيئاً من سيرة هذا الرجل الذي أضاء في أعماله السخية والغزيرة الكثير من نواحي حياتنا الاجتماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق