2008-10-10

روافد مع الشاعر شيركو بيكاس

إعداد وتقديم

شيركو بيكاس: لو أخرجتم من قصائدي الورد.. لمات فصل واحد من فصولي الأربعة.. لو أخرجتم منها الحبيب لمات فصلان.. لو أخرجتم منها الخبز لماتت ثلاثة فصول.. وإن أخرجتم الحرية منها لماتت فصولي الأربعة دفعة واحدة وأنا في الحال..

أحمد الزين: يسميه سليم بركات الرعوي المنشد الجوالة في الطبائع المائية للكلمات، يحدّث التراب بلسان الروائح التي هي قسم الكردي، وبلسان اللون الذي هو بذرة روحه، مأخوذاً بكل تدبير للصور بنازع المحتفل كأنما يسرح في المذاهب كلها المؤتلفة باجتهاد الهواء الفقيه، هكذا يسميه سليم بركات ويصفه، وأضيف على ذلك أن هذا الشاعر طفل يشاغب في جبال كردستان متخفٍّ في حكمة السبعيني لكن لغته تفضح سره عاشقاً مترعاً بالأشواق، مندهشاً ببهاء الصبحات على قمم الثلج موغلاً في تجاعيد المسنين وهم يقصون الحكايات يصغي إلى أحاديث الأشياء والعناصر ويصطحب الشجر والماء في ترحالاته وتجوالاته ليخفف قليلاً من ميراث الألم، التقيته في بيروت حيث جاء ليحيي أمسيةً في مسرح بابل، ضيفني قصائده وضيفته بحر المدينة عربوناً لقصيدة قادمة.

شيركو بيكاس: انحناءات: باحترام تنحني الريح للخريف.. وباحترام ينحني الخريف للعاشق.. والعاشق للعشق.. والعشق للخيال.. والخيال لي.. وأنا للشعر.

أحمد الزين: حلو كتير، وأنت للشعر. شيركو بيكاس؟

شيركو بيكاس: شيركو بيكاس نعم.

أحمد الزين: تعني بالعربي مثل ما قلت لي: أسد الجبل الوحيد؟

شيركو بيكاس: إذا جاز لنا أن نترجم الأسماء، فيعني فعلاً أسد الجبل الوحيد يعني، وقد قال الجواهري في قصيدته في رثاء بيكاس..

أحمد الزين: بيكاس اللي هو والدك.

شيركو بيكاس: عنوان القصيدة: بلا أحد، فقال فيها:

لا أحدٍ ثلّة العبقري إذ يوعي الناس ولا يوعيه أحد

بلا أحدٍ غير خضر الجبالِ.. ووحي الخيالِ.. وصمت الأبدْ.

أحمد الزين: الله، الجواهري، بتقول أنت:

عذاب طويل القامة أنا.. دون أن أعتلي أكتاف آلام أخرى..

بلمحة بارقة أينما كان الجرح أراه.. وأينما كان الفقير يراني..

شو سر هذا العذاب الطويل؟

شيركو بيكاس: هو سر عذاباتنا يعني كشعب يعني، سر تأريخ طويل من الحرمان يعني، سر شعب لم يكن له صديق يعني في كل تاريخه، وعذابات.. هذا الشعب يختصر مسألة الكرد في وحدته يعني.. القاسية يعني.

أحمد الزين: إن تمكنت من عدِّ أوراق تلك الحديقة أو تلك الأسماك الكبيرة والصغيرة في ذاك النهر الذي يجري من أمامك.. أو أن تعدّ الطيور في موسم هجرتها من الشمال إلى الجنوب.. ومن الجنوب إلى الشمال.. آنذاك أعدك بأنني سأحصي ضحايا وطني كردستان.

شيركو بيكاس: أعطتني يعني كثيراً من.. خلينا نقول زادت في تجربتي يعني.. أثرت تجربتي تلك العذابات.. أنا منذ الصغر وأنا صغير كما تعلم يعني توفي الوالد. والوالد كان أحد الشعراء المشهورين في الشعر الكردي، وكان له مواقف وطنية أيضاً، كان الشعر بالنسبة له وسيلة وليست غاية فنية يعني، هو كان يريد أن يوصل رسالته إلى الآخرين يعني من خلال شعره، وكان شعره بسيط وفي نفس الوقت هو جماهيري كلّش يعني محبوب من الناس من الآخرين يعني.. هو أحد قادة انتفاضة السادس من أيلول عام 1930 يعني، فهو سجن بعد الانتفاضة وأبعد إلى جنوب العراق..

أحمد الزين: الانتفاضة ضد الاتفاقية اللي صارت بين بريطانيا و..

شيركو بيكاس: البريطانية العراقية نعم. بصراحة مو بس شاعر يعني، كان أيضاً من مناصري حرية المرأة، وكان يبدو أنه كان متأثراً يعني بطروحات قاسم أمين يعني، وكذلك هو حتى شاعرياً كان متأثراً بالرصافي والزهاوي من هالجيل يعني طبعاً، وأنا لم أصل إلى عمر كي أستفيد منه.

أحمد الزين: يمكن أنت ورثت منه القصيدة والشعر وكذلك النضال لأنه أيضاً تجربتك بلشت مبكراً مع النضال.. قبل ما ننقل عالنضال، كيف كانت علاقتك بالوالدة؟ الوالدة يبدو كانت تغنّي كما يقال؟

شيركو بيكاس: أي صح. الوالدة طبعاً لحد الآن باقية في الحياة وهي في الـ 88 من عمرها، وهي تعيش في الولايات المتحدة الأميركية مع أختي، طبعاً إذا نسمي شي مثل بطل الحياة أو شيء من هالقبيل يعني فهي الشخصية الوحيدة الأولى في حياتي، اللي أنا كنت أنا متأثر بها الوالدة، ليش؟ لأن أول شي هي عن طريقها أنا حبيت اللغة الكردية، اللغة الكردية من خلال كانت تروي لنا عن الحكايات الشعبية والأساطير، وهي كانت تغني أيضاً، يعني في الليل ونحن أطفال هي تغنّي لنا يعني. كان صوتها كلش جميل ولحد الآن صوتها جميل.

أحمد الزين: أخذت شي من صوتها أنت بتغني أنت؟

شيركو بيكاس: لأ أنا صوتي مو جميل.

قصيدة

معاً كان الوقت مساءً..

وفي إحدى الحدائقِ

وعلى مقاعدَ متجاورة

جلس ضرير وأصمّ وأبكم

كان الضرير يرى بعين الأصمّ

والأصم يسمع بأذن الأبكمِ

والأبكمُ يفهم من حركات

شفاه الاثنين

وكان الثلاثة

وفي وقتٍ واحدٍ

يشمون رائحة الزهور معاً.

أحمد الزين: طيب أستاذي تجربتك النضالية أيضاً بدأت مبكراً، وأيضاً التجربة الشعرية، يعني هل هذا التلازم كان بتقديرك في صالح الشعر؟

شيركو بيكاس: كانت البدايات بداية غير ناضجة، ولم أكن أمتلك الأدوات الفنية، فكانت بعض القصائد مثل الصراخ يعني، وطبعاً كنا متأثرين يعني بالهتافات السياسية وبالخطاب السياسي يعني نوعاً ما..

أحمد الزين: بالشعارات.

شيركو بيكاس: بعد تجربةٍ دامت يعني سنوات، أعتقد امتلكت الأدوات الفنية، وبعد أن انتقلت إلى بغداد يعني، ففي بغداد وفي أجوائها الملوّنة، وهنالك مسرح، وهنالك مكتبات كبيرة، وهنالك حركات أدبية، وأمسيات شعرية، فهذه كانت نقلة نوعية في حياتي يعني.

أحمد الزين: فتحت أمامك آفاقاً جديدة.

شيركو بيكاس: آفاق جديدة، وتعرفت عن قُرب من الأدباء والشعراء الموجودين في ذاك الوقت يعني، أواخر التسعينات مع بداية السبعينات يعني.

قصيدة

حلّقت سنونوات الروح

لشعراء القارات الخمس

في المساء

بخفة الكلمة الهادئة

دخلوا معاً صندوقاً خشبياً

وفي هزيع الليل صار الصندوق بيانو

أحمد الزين: شيركو بيكاس حين جاء الشفق الأول وربت على كتف القمم لتنهض من نومها، كانت سنونوة قصيدته الساهرة قد عادت من هناك تغني على طاولته فوق ثلج الأوراق، من هناك من التاريخ العتيق ومن الأحزان العتيقة من حصى تدحرج في المسالك الوعرة، ومن فوح عطرٍ في الهبوب البري من جروح وحكايات جاءت قصيدة شيركو بيكاس، ومن موروث المشافهات ومن المدوّنات من تجربة إنسانية وبالتالي من معرفة وتجربة شخصية جاءت هذه القصيدة، شيركو بيكاس في مطرحٍ ما هو مؤرخٌ أو رحالةٌ دوّن شعراً لسيرة كردستان في ذروة الشغف والشوق.

شيركو بيكاس: الأدب المكتوب في الشعر الكردي يعني بلهجاته المختلفة امتدّ قبل ألف عام يعني، من بابا طاهر الهمذاني ومن رباعياته، وبعدين هنالك كحياة الشعب الكردي بعض الآثار ما موجودة خلال قرون مثلاً، من قبل الخامس عشر والسادس عشر شعراء مهمين برزوا في الأدب الكردي، وكان أكبرهم طبعاً أحمدي خاني الذي كتب ملحمة مموزين، وهي ملحمة مترجمة إلى كثير من اللغات العالمية، طبعاً في تلك الفترات كان الأدب يتبع الإمارات، يعني الوجود السياسي للإمارة يكون مظلة للأدب أو للشعر الكردي، ومنذ حوالي 250 سنة يعني بعد إمارة بابان في منطقة السليمانية بدأت الكتابة الجديدة بالنسبة لتلك اللهجة على يد شعراء مهمين مثل نادي وسالم ومصطفى بدر، فمنذ ذلك الوقت ولحد الآن القسم خلينا نقول الجنوبي من كردستان يتبع هذه المسيرة يعني الشعرية الأدبية، وطبعاً في فترات مختلفة تطور الأدب.. تطور الشعر يعني وخاصةً ما بين الحربين العالميتين، الشعر الحديث على أيدي عبد الله الكوران (1904 – 1962) فهو بصراحة رائد الشعر الحديث الكردي، وبمثابة رأس جسر كبير للشعر يعني، فهو كان يعرف اللغة العربية والفارسية والتركية، والإنجليزية أيضاً يعني وهو أيضاً من اقترب من لغة الناس يعني كمفردات يعني، كوران اقترب من تلك اللغة واستعملها ولكن بفنية عالية.

أحمد الزين: خلينا نتحدث شوي عن.. بالبداية عن تجربتك النضالية اللي ذكرنا إنّو هي تزامنت أو تلازمت مع التجربة الشعرية اللي سميتها كان فيها شوية صراخ مثل أي تجربة يعني بالبدايات، يعني هاي التجربة النضالية شو أساسها؟ شو مصدرها يعني؟ أيضاً يعني متابعة لمسيرة الوالد اللي بدأت مبكراً؟

شيركو بيكاس: الظروف السياسية والاجتماعية في كردستان هي الأسباب الرئيسية، ولكن الخوف من النظام.. الأنظمة العراقية وجبروتها وقسوتها، هي كانت تدفع الشباب إلى أن يلتحق يعني مثلاً بالجبل وعدم الطمأنينة والخوف. ثانياً البقاء يعني. هنالك قضية وعدالة في قضية. وهي القضية الكردية يعني، أردت أن أشارك يعني، كان مساهماتي أنا مو مساهمة بحمل السلاح يعني، أول مرة في إذاعة، وثاني مرة في الإعلام مثلاً، ثالث مرة نفس الشيء في إعلام وفي اتحاد أدباء كردستان في الجبل، فكتبت يعني في تلك الفترات يعني قصائد بما له علاقة بالمقاومة وغيرها، وكنا أيضاً متأثرين نوعاً ما بالشعر العربي، وبالشعر الفلسطيني بصورة خاصة في ذاك الوقت، فأنا كنت أعيش هناك، ولكن كنت أعمل لنفسي، وكنت أكتب وبصورة مستمرة يعني، وإذا أنت تسميها نضال، يعني خلي الناس يحكمون، يعني ولكن نحن دفعنا ضريبتنا يعني، وكنا في عمر الزهور لما التحقنا بالجبل والتحقنا بالآخرين.

(شعر بالكردية ترجمه بعد ذلك):

ها هنا الليلة

الجبل شاعرٌ

الشجرة قلمٌ

السهم ورقٌ

النهر سطرٌ

والحجر نقطةٌ

وأنا علامة تعجبْ

أحمد الزين: إذا كان الشعر أحياناً يفيد العمل السياسي والإيديولوجي يمكن بشكل عام يمكن، بيعمل له هيك دعمة قوية، الفن بيدعم السياسة، والشعر بشكل عام، ولكن بتشوف أن السياسة إذا استمرت مع الشعر تفسده بتقديرك؟

شيركو بيكاس: باعتقادي هذا صحيح.

أحمد الزين: لذلك أنت شوي شيئاً فشيئاً انسحبت، مش انسحبت يعني بحثت عن الإطار الآخر يعني بحثت عن الشعر.

شيركو بيكاس: بحثت عن أسلوب آخر للتعبير لأن كما قلت يعني المهم هو إيجاد وسيلة التعبير شعرياً يعني وفنياً، يعني ماكو موضوع معيّن نلغيها من الشعر، السياسة أو غير السياسة، مسائل اجتماعية الطبيعة كلها باستطاعتها أن تدخل الشعر، ولكن كيف؟ كيف نكتب الشعر؟ هذا هو السؤال المهم يعني، فطبعاً بعد تجربة معينة وطويلة إلى حدٍّ ما أنا توصلت إلى هالنتيجة بأن الشعر يجب أن يبتعد عن عالم الأيديولوجيات والسياسة كما نعرفها.

أحمد الزين: نعم، لأنه يمكن بيفقد حساسيته ومعناه.

شيركو بيكاس: أكو الجمال الشعري يعني يفقد الجمال الشعري، هو ثانياً نوع من الارتباط بالأشياء اليومية يعني مثلاً، أو إذا كان الشعر مثلاً ملتزماً بأيديولوجية معينة باعتقادي يصنع لنفسه نوعاً من القفص.

صوت شيركو بيكاس (بالكردية ثم يترجمه):

إطلالة

ثمة فتاة رائعة في نافذة ما

ثمة باقة زهور على سياج حديقة ما

ثمة قلم في جيب قميصي

أطل الجميع برؤوسها

الفتاة لحبيبها

الزهور للأطفال

وقلمي لقصيدة تصور

الفتاة وحبيبها

والزهور والأطفال مجتمعين

أحمد الزين: طيب أنت من الجيل اللي بيتقن اللغة العربية مثل ما عم نسمع على الأقل إنّو هذه اللغة كيف حصلت عليها؟ متى تعلمتها؟ كيف أصبحت يعني إلى حد يمكن تترجم بعض أعمالك إلى اللغة العربية؟

شيركو بيكاس: لغتي العربية ليست بجيدة جداً، ولكن لا بأس بها، أنا تعلمت اللغة العربية وأنا في العشرينات من عمري يعني، كنا في مدينة السليمانية وفي جيلي كنا ندرس في المدرسة كل الدروس باللغة الكردية، ما عدا درساً واحداً يدرس عربي يعني، ولكن بعد الانتقال إلى بغداد حاولنا أن نعرف اللغة العربية بصورة جيدة، وذلك من خلال قراءة الصحف والكتب وغيرها تعلمنا اللغة العربية.

أحمد الزين: نعم، نعم، على سيرة إنّو اللغة الثانية أنت أعمالك ترجمت إضافةً للعربية إلى العديد من اللغات الحية يعني الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، هناك قول ما بعرف لمين إنّو ترجمة الشعر بتشبه عملية تجفيف الفاكهة، يعني بتفقد رونقها وماءها ونضارتها، أنت راضٍ عن ترجمة أعمالك على الأقل إلى اللغة العربية اللي بتعرفها؟

شيركو بيكاس: صحيح ترجمت أعمالي الشعري يعني منتخبات شعرية، إلى لغات حوالي عشر لغات يعني، طبعاً أنا ما بعرف اللغات الأخرى، ولكنني أعرف اللغة العربية، فأنا غير راضي عن كثير منها، يعني وكأنني لم أكتبها أنا أصلاً يعني، ولكن هنالك قسم منها ترجمتها لا بأس بها، وأنا ذات مرة قلت بأن الترجمة ترجمة الشعر تشبه قبلة ما وراء الزجاج، يعني ترجمة الشعر تشبه قبلة ما وراء الزجاج، وطبعاً ماكو طريقة آخر غير الترجمة، لذلك هنالك الترجمة رديئة أو الترجمة الجيدة يعني.

قصيدة

السيل

قال السيل لصياد السمك

لغضبي أسباب شتى

ولكن السبب الأهم

هو أني مع حرية السمكة الصغيرة

وضد الشبكة

[بالكردية ثم يترجمها بصوته]

الحكمة

ثمة أشياء كثيرة ينخرها الصدأ

يلفها النسيان فتموت

كالتاج والصولجان والعرش

وثمة أشياء أخرى كثيرة لا تهترئ

ولا يلفها النسيان

ولا تموت أبداً

كقبعة وعصا وحذاء شارلي شابلن.

أحمد الزين: حين نسمعه أو نقرؤه تنبثق شجرة على تل ويجري ماء في النهر ويحلق طير في السماء أو يهجع إلى شجره، وتتحدث العناصر وتعود الأشياء إلى مصادرها، وتشمخ جبال بمعاطفها وفصولها، وترحل غيوم، وتمطر فوق بستان، يقول: رسمت طائراً جعلت كلمة رأساً له، ومن نبلة القلم منقاره، ومن حفنة تراب جسده، ومن وتر رقبته، ومن العشب ذيلاً له، لكنه لم يطر حتى جعلت من فرشاة فانغو جناحين له. هو شاعر الطبيعة شاعر الإنسان، شعره حكايات صغيرة يؤنسن الأشياء ويجعلها تروي عن أحوالها ومصائرها، بسيط سهل لكنه يتمنع إن أردت تقليده، حين تقرؤه ترى بوضوح لوحة أو مشهداً، شعره مزيج من الشهوات والفرح والحزن.

شيركو بيكاس: تجربة يعني بدأت في أواخر السبعينات، من ذاك الوقت يعني بدأت بكتابة القصائد القصيرة الموجزة، مكثفة وذات جرس في نهاية القصيدة يعني، وأنا معجب بالقصائد البسيطة المعمقة أو كما يقول العرب أنا أحب القصائد اللي يسمونها السهل الممتنع، إذا يكون تعريفي في مكانه يعني، وثانياً تلك القصائد طبعاً صعبة كلش كتابتها، بس وكأنك تمسك بلب الشعر يعني، وطبعاً مع هذا، هذه القصائد لا تفتح أبوابها كلها ولا تغلقها كلها، هنالك وسط في تلك القصائد، ولكن أنا ما بقيت في محطة واحدة يعني شعرية..

أحمد الزين: ذهبت إلى الملاحم إلى القصيدة الطويلة.

شيركو بيكاس: عندي القصائد الطويلة، وبالأخير، في الأخير إلى نوع من القصائد اللي يسمونها قصائد مفتوحة، يعني مثلاً في نص الكرسي وفي كتاب القلادة باللغة الكردية يعني..

أحمد الزين: الكرسي اللي عادت إلى أصلها اللي كانت شجرة وكانت نبتة.

شيركو بيكاس: بلي بلي. يعني حاولت أن أجمع فنياً ما بين القصة والشعر والمسرح والنثر يعني، الكرسي يتحدث عن المدينة، يعني يتحدث عن ذكرياته ولكن منذ طفولته كشجرة إلى أن يصبح كرسياً ويدخل المدينة ويتابع، طبعاً الكرسي في الحقيقة ذاكرتي أنا، ولكن عن لسان الكرسي أنا أروي ذلك.

أحمد الزين: من خلال أنسنتها.

شيركو بيكاس: أنسنة الأشياء، صحيح يعني، وأنسنة الأشياء باعتقادي تزيد من قدرة وتجسيد الصورة الشعرية أكثر يعني أكثر اتساعاً يعني، أكثر عمقاً يعني، لأنه مثلاً عندما يروي إنسان شيئاً ما نحن لسنا متعجبين به الإنسان يحكي ويتحدث يعني، ولكن حين يتحدث حائط أو شجرة أو مصباح، فكنا رأساً إحنا نستمع يعني، فما أدري ربما أنا لا أستطيع أن أعبّر عن كتاباتي بصورة جيدة، ولكن أحاول دائماً أن أكتب ببساطة وبعمق ودون أن ألتجئ إلى خليني أقول نوع من اللعبة، يعني اللعبة الشعرية، ونوع من التجريد يعني، أنا أكتب كما..

أحمد الزين: كما ترى الأشياء بوضوح.

شيركو بيكاس: كما أرى الأشياء.

قصيدة

بقيت فردة من الجوارب لوحدها

بعدما أخذت زوبعة الخريف زوجها بعيداً

فقال له الطنب بصوت عالٍ: هذه كانت نهايتكما

منذ الآن فصاعداً لن يريدكما أحد

ولن تقدرا العيش فرادى

لكن الحالة لم تكن كهذه

لأنه وفي إحدى ضواحي المدينة

وجد شاب يافع فردة الجورب

فوضع عكازته على الصخرة جانباً وارتداها

وشكرته الساق الوحيدة من صميم فؤادها

أحمد الزين: الواحد بس يقرأ الشعر بشكل عام يمكن خاصة الشعر المشرقي الكردي والعربي وربما الهندي بيحسّ فيه هالمساحات من الحزن.

شيركو بيكاس: شعر إنساني، الحزن معانا.

أحمد الزين: هذا بتقديرك نتيجة ميراثك لهذه التجربة الإنسانية المأساوية ونتيجة مشاهداتك على ما حصل خلال هالسنوات اللي عشتها؟

شيركو بيكاس: طبعاً لها علاقة عضوية هاي المسألة يعني.

أحمد الزين:

في ورشة حداد ما

نهضت عدة قضبان مفتولة هددت

رمت بغضبها على الكور

حين سمعت أنهم ينوون تبديلها

من نافذة لمكتبة عامة

إلى باب لسجن يوصد على قمر شاعر معتقل.

هكذا يحتج شيركو بيكاس أو هكذا ينشد الحرية.

أحمد الزين: النظام السابق في العراق ربما يمكن هو ساهم في نفيك أحياناً نفاك مباشرة وساهم في نفيك لاحقاً. شو الأسئلة اللي طرحتها على نفسك خلال تلك التجربة؟

شيركو بيكاس: النظام السابق ما كان له مثيل يعني، هناك كثير من الطغاة في التاريخ وكثير من العذابات يعني، ولكن كان صدام حسين جبروتاً ودموياً يعني، وخاصة تجاه الشعب الكردي يعني، اللي حاول إبادته إبادة جماعية من خلال قصفه بالسلاح الكيماوي، فقدوا حوالي 182 ألف كردي في الصحراء الجنوبية، والمقابر الجماعية شاهدة على ذلك كما تعلم يعني، مو بس أنا، أنا واحد أنا أكثرهم حظاً بصراحة يعني لأن هنالك آلاف مؤلفة قتلت ونفيت وشرد وذبح يعني، طبعاً هنالك كثير من الفنانين والأدباء والمثقفين اللي سجنوا وأعدموا وشردوا ونفوا يعني بعد خلينا نقول انتكاسة ثورة أيلول الكردية، لما رجعت ترى أنا بقيت في مدينة السليمانية حوالي شهرين ثلاثة بعدين أعادوني إلى محافظة الرمادي قضاء هيت ناحية البغدادي يعني، وهنالك كثير من المثقفين والأدباء والمعلمين والمهندسين والأطباء اللي أبعدوهم يعني في تلك الفترة.

قصيدة

حين حل الظلام

فكر الأسد في عرينه:

كيف سيكون بمقدوري، غداً، أن أنقضّ

على النمر الذي يجاورني

وكان النمر يفكر أيضاً

كيف يكون بمقدوره أن يقتنص ثعلباً، ويسلخ جلده

وكان الثلعب، يفكر بدوره:

كيف سيبلغ العش على شجر الجوز،

ليلتهم فراخ الطائر.

لكن الطائر كان يفكر لوحده

كيف سيكون بمقدوره أن يلم شمل الصيادين والطيور

وكل حيوانات الغابة!

كيف سيكون بمقدوره؟

أحمد الزين: تجربتك بالالتحاق بالجبهة اللي بلشت متل ما ذكرنا مبكراً واستمرت لثلاث مرات يعني.

شيركو بيكاس: لثلاث مرات متفاوتة.

أحمد الزين: هاي التجربة بالجبال أديش أفادت الإنسان اللي فيك، وأديش أفادت الشاعر اللي فيك؟

شيركو بيكاس: اقربتني من الإنسان البسيط، شذّب لغتي الكردية وكذلك استفدت من قسوة الحياة فكانت يعني لها مساحة واسعة في تجربتي يعني الكتابية أو الشعرية.

[بالكردية يترجمها للعربية]

الطريق

ذات يوم ولدت الأرض بركاناً

من البركان ولدت كردستان

كردستان خلفت ابنها آراراد

ومن آراراد ولد الكرد

ومن الكرد ولد توأمان

القهر والتحدي

ومنهما ولد طريق يوماز كوناي.

أحمد الزين: محبرة خضراء رمت بنفسها من فوق رف، وبعد دفنها عثروا في علبتها على قصاصة كتب عليها لقد قتلت نفسي لأن أحد الأقلام امتلأ بحبري عنوة كي يأسر سرباً من كلمات نيرودا المحلقة.

يعيدك طفلاً هذا الشاعر، وهو على شيء من ذلك، رغم القسوة التي عاشها شريداً في الجبال والمنافي ورغم أحماله الثقيلة من الأحزان ربما لأنه على هذا القدر من الطفولة في قصائده ومن السحر أيضاً وصل إلى أبعد من حدود جباله وبلاده إلى لغات العالم.

شيركو بيكاس: أنا في أواخر 84 التحقت للمرة الثانية بالجبل، فبقيت هناك حوالي سنتين، وبعد ذلك رحت إلى إيران، ومن ثم إلى دمشق، ومن دمشق في دمشق جاءتني فيزا تأشيرة من إيطاليا من لجنة حقوق الإنسان في فلورنسا، فسافرت إلى إيطاليا، وهنالك عقدت أمسية شعرية، لأنهم مترجمين قصائد من قصائدي للغة الإيطالية، وبعد ذلك رحت سافرت إلى السويد بلي.

أحمد الزين: بالسويد أعطوك الجنسية وأعطوك جائزة..

شيركو بيكاس: جائزة دوكولسكي الأدبية، وهي جائزة تعطيها لنادي القلم السويدي كل سنة لأديب يعيش في المنفى بلي، وطلبت اللجوء السياسي هناك وبقيت إلى حوالي 91، وفي الشهر العاشر أنا رجعت إلى كردستان يعني بعد أربع خمس سنوات.

أحمد الزين: بعد خروج البعث من كردستان.

شيركو بيكاس: بلي بلي سحب إدارتها فالجبهة الكردستانية قررت إجراء انتخابات برلمانية حرة في كردستان وأنا ترشحت على قائمة الخضر، ودخلت أول برلمان كردي ومن البرلمان الكردي رشحوني لأول وزير ثقافة في حكومة إقليم كردستان.

أحمد الزين: واستقلت من الوزارة.

شيركو بيكاس: بلي أنا بقيت سنة وثلاثة أشهر.

أحمد الزين: ليش استقلت؟

شيركو بيكاس: احتجاجاً على الخروقات الديمقراطية، واحتجاجاً على غلق جريدة معينة، ولو أنا ما كنت مع سياسة الجريدة، ولكن غلق الجريدة إجراء تعسفي وغير ديمقراطي لذلك قدمت استقالتي.

أحمد الزين: نعم، هلأ إذا طلب منك تكون وزير ثقافة بتقبل؟

شيركو بيكاس: لأ.

أحمد الزين: كيف علاقتك هلأ..

شيركو بيكاس: لعلمك يعني بعد المرة الثانية، طبعاً شفوياً كلفوني بأن أصبح وزيراً فرفضت، بعد ما أستلم أي منصب سياسي وظيفي حكومي.

أحمد الزين: فقط لسبب عدم رضاك عن الأداء وغياب الديمقراطية؟

شيركو بيكاس: هاي كان سبب، والسبب الآخر أن أكون أن أعمل في عملي الشعري أحسن، وهذا هو اللي يتلاءم مع روحي..

أحمد الزين: بيشبهك أكتر.

شيركو بيكاس: وأنا بعد استقالتي قلت يعني كرسي الشعر أكبر من كرسي الوزارة، فلا.. يعني ولكن أن أعمل في مثل ما أعمل الآن في مؤسسة ثقافية.

أحمد الزين: إي بس أنت عدت العودة الأخرى إلى السليمانية عدت بمشروع ثقافي اللي هو مشروع سردن أي العصر، مجلات ومنشورات و..

شيركو بيكاس: في 98، أنا رجعت مرة أخرى إلى كردستان، وكانت لي فكرة إنشاء مؤسسة ثقافية مع نخبة من الأدباء والشعراء الموجودين في السليمانية، فقدمنا مشروعنا فوافقوا رسمياً على المشروع، فأسسنا مؤسسة سردن للطباعة والنشر، فبدأنا بإصدار مجلات وطبع الكتب في الوقت الحاضر يعني هنالك حوالي ست مجلات بس..

أحمد الزين: تصدر شو؟

شيركو بيكاس: تصدر ست مجلات وكذلك طبع الكتب، وطبع الكتب على مستويات كثيرة يعني، سواء أكانت ترجمة أم تأليف يعني، وتشمل كل النواحي الفكرية والأدبية.

صوت شيركو بيكاس:

في الجبل..

حائرة هي الشجرة

أتهرب، أم تبقى متسمرة؟

في النهر..

حائر هو الماء

أيستحيل رطوبة أم بخاراً؟

في الدرب..

حائرة هي القدمُ

أتتراجع أم تستمر؟

في البستان..

حائر هو الطائرُ

أينكفئ أم يحلق؟

في هذه اللحظة

حائرة هي كلماتي

أتكمل هذه القصيدة، أم تتركها لكم؟

فلأتركها لكم.

أحمد الزين: الشعر هو أرحب بكتير من فضاء السياسة، بس إذا الواحد بدّو يتحدث هيك عن رؤيا لمستقبل كردستان كبلاد أو كإقليم أو كجغرافية كاملة وإنسانية وتاريخية كيف بتشوفها؟

شيركو بيكاس: طبعاً المسألة الكردية مسألة متشابكة ومعقدة يعني، وخاصة إذا نرى القضية قضية الكرد على مستوى الأجزاء الأخرى، لأنه مثلما تعلم كردستان مقسمة ما بين دول يعني، تركيا، إيران سوريا والعراق.

أحمد الزين: في بعض البلدان ما معهم هوية بتصور.

شيركو بيكاس: طبعاً، حتى ما يعطوهم جنسية ذلك البلد، طبعاً الوضع الحالي في الوقت الحاضر الوضع في كردستان في جنوب الكردستاني، في إقليم كردستان العراق لا يقارن بالأقسام الأخرى، لأنه الآن هناك نوع من الحرية، إحنا نحكم أنفسنا بأنفسنا، ولو عندنا انتقادات لحكمنا، وكذلك هنالك مؤسسات ثقافية وهنالك حريات نوعاً ما، وليس هنالك اضطهاد معلن يعني..

أحمد الزين: وهذه التجربة بتقديرك بتصيب بالعدوى بقية الأقاليم أو المجتمعات الكردية الموجودة في جغرافيات الدول الأخرى؟

شيركو بيكاس: باعتقادي أن المسألة الكردية بدأت تظهر، لا تستطيع أي قوة أن تخفيها أو يضعها جنرال في معطفه يعني مثل قبل يعني، هسه صارت المسألة الكردية مسألة عالمية يعني..

أحمد الزين: فلا بد من حل يعني.

شيركو بيكاس: لا بد، بس طبعاً ربما يعني إعطاء الحقوق القومية للشعب الكردي في أجزاء أخرى أقرب إلى شيء آخر مستقبلاً يعني، ولو طبعاً طموح الشعب الكردي كأي شعب آخر..

أحمد الزين: أن يكون عنده دولته.

شيركو بيكاس: دولته المستقلة يعني كأي شعب في العالم يعني وهذا حق من حقوقه يعني.

قصيدة

لا تحزني أيتها الفراشة

لعمرك القصير

لأنك وفي الغمضة تلك

منحت طولاً لعمر الشعر

لم يعطه حتى نوح

فلا تحزني.. أيتها الفراشة

أحمد الزين: اللي عاش تجربة متل تجربتك فيها وعورة الجبال وفيها سهولة السهل، وانحدار الماء، ويعني فيها المصاعب وفيها الهينات متل ما بيقولوا، يمكن المسائل اللي بتخوّفه صارت قليلة، يعني طبعاً أنت جربت المنفى وشفت العذابات الكثيرة، وشهدت على فصول من الرعب والقتل إلى ما هنالك، الآن شو هو اللي بيخوّفك أكتر شي؟

شيركو بيكاس: لا أدري ماذا أجاوبك. لكن ربما إحدى المخاوف هي من العمر يعني، من التقدم في السن يعني، وهذا فيه خوف يعني، أخاف منه وأن يجي يوم مثلاً أن لا أكتب فيه، هذا هو بالنسبة لي الموت الحقيقي.

قصيدة

ثمة ميدان مئذنة ودكان

يقف الرصافي في الميدان وحيداً

لم يعد يرجع لبيته بعد

وفي خاصرة المئذنة

ثمة يمامة مذعورة

وهناك دكان واحد فقط

يفتح أبوابه وكتب على جبينه بخط كبير ورديء

بياع التوابيت

[قراءة بالكردية بصوته يتبعها ترجمة بصوته]

على سلالم الخوف

كان الظلام ينزلق كلص بهدوء إلى أعماقي

ولما وصل إلى السويداء رام شيئاً ما

فأشعلت حبكِ فاحترق الخوف والظلام فيه

شيركو بيكاس: أنت لما تقرأ قصائدي ترى كلها جبال وصحراء وشجر فقصائدي بدون الطبيعة وبدون هذا يعني أنا لا أستطيع أن أكتب شيئاً، لذلك الطبيعة اختلطت منذ طفولتي بروحي، وروحي اختلط بالشعر، فبدأت الحياة بالنسبة إلي خلينا نقول: ما بين خيال وطبيعة وشعر.

أحمد الزين: يبدو مقدار الحب بقصائدك منسوبه عالي كتير نتيجة حب الطبيعة وحب العناصر في الطبيعة والأشياء والمكونات، وحب المرأة أيضاً.

شيركو بيكاس: حب المرأة بلي، يعني هو مثلث يعني: الطبيعة، المرأة، الحرية.

أحمد الزين: إذا طار ضلع من هذا المثلث شو بيصير فيك؟

شيركو بيكاس: أصاب بشلل شعري.

أحمد الزين: أي ضلع أحب إلى قلبك من هذه الأضلع الثلاث؟

شيركو بيكاس: كلهم الثلاثة، بس طبعاً أكثر شفافية منهم المرأة.

أحمد الزين: ما فيك إلا ما تقولها.

أحمد الزين:

أعرف بأننا أنتِ وأنا لن نلتقي مهما سرنا

أنتِ وأنا مثل خطي سكة الحديد

لن نلتقي

وإن انحرفنا ستنقلب عربات القلب

آنذاك ستعرفين كم من رسالة وزجاجة عطر

وكم من موعد وقبلة مليئة بالمطر

ستموت كلها في انقلاب تلك العربة الجامحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق