2009-05-06

روافد مع المسرحي عبد الكريم برشيد

إعداد وتقديم

أحمد الزين: كما هي العادة دائماً في الأمكنة التي تكتشفها من جديد لكأنك تكتشف ملمحاً من ملامحك، وتعثر على شيء من ذاكرتك، وقد تجد ذلك في حيٍّ قديمٍ من مدينة، أو تسمعه في صوتٍ حميمٍ أو في وجهٍ أليفٍ، أو في مرآةٍ للعابرين، وأحياناً تظنّ أن بينك وبين تلك المطارح ودّاً، وأنك مشتاقٌ إليها بعد طول فراق، فعدت لتتفقدها بروحٍ شغوفةٍ مشتاقةٍ، تتأمّل في الأشياء في انحناءات القباب والقناطر وفي الأجساد المنهمكة وبحركات الناس، لكأنك تتذكر أزمنة غابرة يستريح أهلها في أطيافهم، أو أن الأمر مغايرٌ تماماً ويحلو لك هذا الوصف، أو يحلو لك التعدد في الحياة لغاية المقارنة بين مشهد الأمس ومشهد اليوم، الذي تعبره زائراً أو مقيماً هنا أو هناك، وتكتشف فيما بعد أن ذلك ضربٌ من ضروب الوهم الجميل والأحلام، أنت.. أنت.. أنت الآن وهنا لغاية التعرف على هذا الرجل الذي تواطأ مع مراياه ووجوهه لالتقاط مشهد في مدينة اسمها الدار البيضاء، وفي أحيائها القديمة حيث التاريخ دائماً يشعرك بشيء من معنى عبورك ويسعف ضعفك الإنساني، هنا لكسر المرايا كي تتعدد الوجوه مثلاً، فعبد الكريم برشيد على دراية بالمشهد وما يتطلبه الفعل من توليفٍ للنص، وهو المشهدي العارف بأن الصورة مضللة في أغلب الأحيان، وبأن المرآة تُجامل وتحابي والحقيقة عارية وصارخة، وقد تكون اللعبة تشبه لعبته في كسر الإيهام ونزع القناع للبوح، لذلك يمكن القول أن عبد الكريم برشيد هو الآن في هذا الحي القديم من الدار البيضاء ليس صدفة، بل لتخطيط مسبَق من أجل لعبة المكاشَفة، ومن أجل التعرف على مطارحه، فمثلما فعل مرة في مسرحه وجعل ابن الرومي على الخشبة على بعد ألف سنة من زمانه، من الممكن أن تجعله على مسرح الواقع في الحياة في شهر آب مثلاً من عام 2004 قرب بائعي التحف أو في مكتبة يبحث عن فكرةٍ في كتاب، وقد يسهل عليك هذا التواطؤ الجميل أن يستقبلك في دارته ويعرفك على أهله وعلى أحفاده، ويعرفك أيضاً على تجربته.

أحمد الزين: أستاذ عبد الكريم أنت أتيت إلى الحوار، وفي بيئة معروف عنها يعني في عالمنا العربي والإسلامي هي بيئة أحادية الصوت، يعني من أين أتت تلك الرغبة في الحوار في المسرح؟

عبد الكريم برشيد: في الواقع معروف أن الإنسان كائن محاوِر، وكل ما في.. ما في كل الدنيا يقوم على أساس الحوار، فالليل يحاور النهار، والفصول تحاور بعضها بعضاً، والأرض تحاور السماء، والحياة تحاور الموت، والسواد يحاور البياض، وبالتالي ما أكَّد عليه هيغل من الجدلية، أو بعد ذلك ماركس من الجدلية المادية فعندما نفتقد الحوار نفتقد الحياة، بمعنى عندما أقول كلاماً وهذا الكلام يكون له فقط صدىً ولا يكون له صوتٌ آخر مخالفٌ مغايرٌ مكمّلٌ، وبالتالي آمنت بالحوار وكفَرت بكل الأنظمة الشمولية الفاشيّة والنازيّة المنغلقة على ذاتها والتي لا تعطي للإنسان حق الاختلاف، بل ربما أجمل الحقوق هو الحق في أن أكون أنا مختلفاً، لأن الله والطبيعة صنعتني مختلفاً إضافة بشرية، إضافة وجودية، لست ظلاً لأحد..

أحمد الزين: ولست صدىً لصوت..

عبد الكريم برشيد: ولست صدىً لأحد، ولا أريد أن يكون الآخر صدىً لصوتي..

أحمد الزين: صدىً لصوتك.. تذكر أنه في تكويناتك الأولى يعني كنت تأثرت بالفكر الصوفي، ولكنك لم تسلك تلك الدرب إلى التوحد وإلى التماثل للآخرين، ذهبت إلى التعدد، إلى المسرح، إلى تأليف الشخصيات والوجوه والأقنعة يعني ما الأمر الذي دفعك إلى هذا الاختلاف؟

عبد الكريم برشيد: أول ما فتحت عيني الوالد كان درقاوياً بمعنى كان صوفياً منخرطاً في طائفة، وكانت يوم الجمعة يُعقد لنا في البيت حضرة صوفية كانت تقيمها زوجة الوالد لأنها كانت بنت شيخ زاوية.. الزاوية الدرقاويّة، وهناك زاوية في مدينة أبركان، كانت ولا تزال الآن عاصمة للزوايا الصوفيّة، ومن أخطر الأشياء أن مدينة.. هذه المدينة التي تعيش الخمرة الوجودية حوّلها المستعمرون الفرنسيون إلى مزارع كبيرة للكروم ووضعوا فيها مجموعة من مصانع الخمرة، وكانت منها تُصدَّر إلى فرنسا، فمن جانب هناك هذه الخمرة الروحية الصوفية، وفي الجانب الآخر هنا الخمرة المادية، وكان لي وما يزال هذا الإحساس بالرغبة في التعدد.. في أن أكون أنا وأن أجد لهذه الذات مضاعفها، وهذا المضاعِف صنعته المئات أولاً، صنعه الظل وكنت أجري وأرى ظلاً يجري خلفي ومرات يسبقني، وكان لي حوارٌ مع هذا الظل، كان لي حوارٌ مع الآخر الذي يسكن المرآة، وهذه كلها أشياء جعلتني أحاول أن أتعدد، ورأيت أن المسرح هو فنّ التعدد.

أحمد الزين: في البدء فتحت عينيّ على سقف وكان ذلك سقف بيتنا بمدينة أبركان، لم يكن يهمني السقف في حد ذاته وكان كل ما يشغلني ويعنيني هو أن أنظر إلى فوق، والأعلى هو الأصل دائماً، وكانت تلك الرؤية فاتحة ومدخل لاكتشاف أكبر وأخطر، لقد تجاوزت سقف البيت إلى سقف الكون كله، وسألت عن تلك القبة الزرقاء المرصعة بالنجوم والأقمار ليلاً فقالوا هي السماء، وتمنيت لو أن تلك السماء القريبة البعيدة تكون امرأة ويكون اسمها لونجا، وتكون لها ضفيرة بطول الخيال المجنون وأناديها بأعلى صوتي وأقول: لونجا لونجا مدي لي سالفك نطلع، وانتبهت يوماً في خيبة بريئة أن هذه السماء عالية جداً، وأنها أطول قامة من كل عمالقة العالم، وتمنيت بيني وبين نفسي لو أنها كانت أقل ارتفاعاً مما هي عليه، وذلك حتى يسهل علي الصعود إليها تماماً كما أصعد إلى سطح بيتنا، ويكون بإمكاني أن أطلّ منه ومنها أيضاً على كل ما يجري في المدن الأخرى وفي العوالم الأخرى.

أحمد الزين: بتقديرك لماذا الكاتب يعني يجد دائماً في داخله المساحات والمسافات يعني الأكثر رحابة للتعبير والبوح؟

عبد الكريم برشيد: ربما أخطر الأكوان وأخطر العوالم التي لم تُكتشف لحدّ الآن هو الإنسان، الإنسان غاباتٌ كثيفةٌ وغريبةٌ فيه جذور فيها أرخبيل معقدٌ جداً، وبالتالي فالإنسان في ذاته يختزل الإنسانية، الواحد يختزل الكل والمسرح أساساً هو فن الاختزال، لذلك فتعلمت من الصوفيّة أن الإنسان عندما يبحث في ذاته يجد الآخرين.

أحمد الزين: يسمونك في المغرب أنك أنت من مؤسسي أو مؤسس المسرح المغربي، أنت ماذا تسمّي نفسك؟

عبد الكريم برشيد: شخصياً أؤمن بمسرح أسمّيه المسرح الاحتفالي، أؤمن بأنني احتفالي الرؤية، عيدي الرؤية أنني لا أؤمن بالثنائيات الخير والشر، لست أخلاقياً، لا أؤمن بالصواب والخطأ لأنني لست مدرسياً، لا أقول الأشياء تحمل أسماءها في ذاتها، فدائماً أردد كلمة "قل كلمتك وامش" فليس من مهامي أن أؤرخ لتجربتي، المهم أن أصنع هذه التجربة، الأسماء ولعبة الأسماء هي لعبة النقد المدرسي والمؤرخين وذلك ليس شغلي.

أحمد الزين: نعم تروي في سياق غابة الإشارات أنك كُرِّمت في كل البلاد ولكن لم تُكرَّم في وطنك، وربما بعد حين هناك مهرجان المسرح الجامعي في كزابلانكا وهو يحمل اسمك، هذا نوع من التكريم تعتبره؟

عبد الكريم برشيد: لأ هو عندما أشرت على هذه القضية قضية التكريم في كل العالم العربي فكنت أقصد الجانب الرسمي وليس الشعبي، فأنا تستدعيني كل وزارات الثقافة العربية بما فيها وزارة الثقافة في فلسطين، أما في المغرب فلا، فلا هي طبعت لي مسرحية، ولا ذهبت يوماً في بعثة باسم وزارة الثقافة ولا أية وزارة، ولكن الشعب..

أحمد الزين: لماذا يعني أن هناك غياباً للاهتمام بك يعني؟ هل أنت مشاكس إلى هذا الحد؟

عبد الكريم برشيد: في الواقع هذه ضريبة الاختلاف، أن تكون أنت هو أنت، أن لا تكون تابعاً، أن لا تكون صدىً، أن لا تكون ظلاً، أن لا تكون زبوناً لدكان حزبي أو دكان سياسي، وأن تحاول أن تؤسس لك منظومة فكرية، وأن تكون لا يمين ولا يسار، وأن كل أولاد عبد الواحد واحد، وأن الأصل ليس هو الجهات، ولكن الأصل هو الوسط، لأن الوسط ليس جهة، ولكنه هو ملتقى الجهات ومفترق الجهات، أنا موجود في الوسط، والقلب موجود في الوسط، والله موجود في الوسط.

أحمد الزين: بتقديرك هل الوسط دائماً هوّ صائب يعني في آرائه، في رؤيته للأشياء؟

عبد الكريم برشيد: في رأيي ليس صائباً ولكن هو الملتقى، هو الملتقى، ملتقى رأيك ورأيي عندما يلتقيان عند نقطة معينة يكون هو الحقيقة.

أحمد الزين: ولكن كيف تفسر تمردك في المسرح، والمشاكَسة في نصّك مع خيارك الوسطي أن تكون في الوسط، إذا نوعٌ من التصارح في الجهات والأطراف؟

عبد الكريم برشيد: لأ أبداً هذه الوسطية تعني أولاً.. تعني محاولة استقطاب كل الجهات وقبل استقطابها هو نقدها، بمعنى هي كلها خاطئة وأدعوها إلى الحوار.

أحمد الزين: تقول أيضاً: إنني أحب غربتي ونفيي. وأعشق ضلالي وتيهي. وأنحاز إلى الصعلكة وتشردي.يعني هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعني نستشف أنك في الوسط، يعني مع الإصلاح، مع الحوار، واقعي لماذا هذا الانحياز أحياناً نحو الصعلكة والتشرد؟المسرحي

عبد الكريم برشيد: ليست الصعلكة بالمفهوم الأخلاقي لأني شخصياً لا أؤمن بالأحكام الأخلاقية، الصعلكة بالمفهوم الأدبي، بالمفهوم الفني، بالمفهوم الجمالي، بمعنى السير في الطرقات التي تحفرها أنت، وتبنيها أنت، لا أمشي في الطرق السيارة وأردد ما يقوله الآخرون، وبالتالي فهذا الشغب هو شغبٌ معرفي، أؤمن..

أحمد الزين: والصعلكة صعلكة معرفية.المسرحي

عبد الكريم برشيد: صعلكة معرفية في الواقع، حتى الجنون، في مسرحيتي "ليالي المتنبي" ليس فيها تاريخ، ولكن فيها المتنبي مصاب بالحمى تأتيه امرأة هي الحمى عاشقةٌ له تقضي ليلها في فراشه، تتركه يتصبب عرقاً وتقول له ما شعرك إلا مني.

أحمد الزين: اللي بيقول فيها: وزائرتي كأن بها..

عبد الكريم برشيد: كأن بها فليس تزور إلا في الظلام، ففي الواقع..

أحمد الزين: على سيرة المتنبي أستاذ عبد الكريم دائماً نعثر في أعمالك المسرحية على استحضار شخصيات تاريخية ولها بعد ثقافي ومعرفي وحضاري، المتنبي مثلاً، ابن الرومي حيناً، امرؤ القيس حيناً آخر، فوست ربما وآخرين كثر، يعني لماذا تلجأ دائماً إلى استحضار شخصيات تاريخية ووضعها على خشبة المسرح في حوار مع شخصيات واقعية؟

عبد الكريم برشيد: لا ألجأ دائماً إلاّ إلى الشخصيات الهامشية المتصعلكة المتشردة، كتبت عن المتنبي التي وجد نفسه كصالح في ثمود، ولم يُفهم وحورب، فكتبت كذلك عن فوست، فوست الذي باع نفسه للشيطان، ورأيت أن هذا العصر هو عصر الإغراءات، وأن السعيد السعيد هو الذي يستطيع أن يقاوم هذه الإغراءات، وما قيمة أن يبيع الإنسان نفسه كما قال المسيح: ما قيمة أن يربح الإنسان كل العالم ويخسر نفسه، ففوست ربح العالم وخسر نفسه.

أحمد الزين: إنني أكتب لأكون وأكون لأكتب، لأن بياض الأوراق يخيفني ويتحداني، وهو يذكّرني بالشيب وبالثلج وبالأكفان، كتاباتي خطوات عندما أسمع وقعها أطمئن إلى وجودي، وأعرف بأنني أمشي وأسير، لا يهم إلى أين، الأساس هو ألا أظل واقفاً في مكان واحد، وأن أكون سجين وضع واحد، وأن أعيش شبه حياة داخل حالة واحدة ثابتة أو متكررة، في هذه الكتابات لا أريد أن أمرر أفكاراً لأن الأساس عندي هو أن أحيا أفكاري، وأن ألبسها جلداً آخر، وأن أعيش فكري وأن أفكر في عيشي، وأن أكون ذاتاً وموضوعاً وسائلاً ومسؤولاً وحزمة لا متناهية من الأسئلة.

أحمد الزين: سؤال آخر في السياق نفسه يعني شروط الإبداع بشكل عام هي الحرية شرط أساسي للإبداع..

عبد الكريم برشيد: تماماً..

أحمد الزين: وبخاصة بالنسبة للمسرح ربما تكون ملحاحة أكثر باعتبار المسرح هو شكل مواجهة مباشرة مع الناس والجمهور، يعني هل كانت الحرية دائماً متوفرة بالشكل أو بالمقدار الكافية عندك للبوح لقول كل شيء؟

عبد الكريم برشيد: نعم ربما أخطر رقابة ليست هي الرقابة التي يمارسها الآخر.

أحمد الزين: الرقابة التي تمارسها على نفسك..

عبد الكريم برشيد: تماماً هي الرقابة الذاتية هي الخطيرة جداً.

أحمد الزين: وهذه موروثة.

عبد الكريم برشيد: تماماً، فأنا والحمد لله كتبت وقلت ما شئت، وآمنت بأن من مهمة الآخر أن يتولى أمره، أنا علي أن أكتب فأنا شاهد وأشاهد وأدوّن مشاهداتي، وهذه المشاهدات ينبغي أن تكون صادقة، وأجمل ما في الإبداع هو.. وأخطر ما في الإبداع هو الصدق، والمسرح هو مواجهة تواجه الناس..

أحمد الزين: مكاشفة..

عبد الكريم برشيد: ومكاشفة، فيمكن أن تختبئ وراء أوراق وأن تقول للناس ما تشاء، ولكن أن تواجههم وأن تكذب عليهم، وهم شهود هذا الواقع..

أحمد الزين: هذا مستحيل..

عبد الكريم برشيد: فهذا مستحيل في الواقع.

أحمد الزين: وهل تضررت يعني من البوح من كتابة كل شيء؟

عبد الكريم برشيد: كثيراً كان هناك مسرحية ابن الرومي في "مدن الصفيح"..

أحمد الزين: سجنت..

عبد الكريم برشيد: لأ أوقفت..

أحمد الزين: أوقفت المسرحية..

عبد الكريم برشيد: وأُخرج الجمهور، وقدمنا المسرحية بدون جمهور سنة 1979، وكُتبت في جريدة العلم بعد يومين (ابن الرومي يُعتقل في الخميسات) فالمسرحية كذلك كان هناك مهرجان سينعقد في مدينة سلا، فالمحافظ ألغى المهرجان بسبب المسرحية، فقال كيف تُرفض في مدينة الخميسات وأقبلها في مدينتي؟ لدرجة أنني آمنت حقاً كأن ابن الرومي شخصية منحوسة..

أحمد الزين: يعني حتى بعد ألف سنة أو أكثر..

عبد الكريم برشيد: حتى بعد ألف سنة تماماً، وعندما طُبعت ونُشرت في مجلة الآداب البيروتية سنة 1979 وهي تتحدث عن بغداد التقيت بالدكتور سهيل إدريس في مهرجان الشباب العربي في الرباط، فقال لي مسرحيتك سبَّبت لنا مشاكل مع الرقابة العراقية، فالآن أقولها بصدق الآن مع التغيير ومع التجديد ومع الذين رفعوا شعارات الحرية والديمقراطية، الآن وأعيش كبتاً وإقصاءً وإبعاداً وعقاباً لأنني أمارس حقي في أن أكتب عن الحقيقة التي أحياها.

أحمد الزين: علماً بأنه كان إلك يعني مواقع إدارية في وزارة الثقافة يعني كنت مندوباً للوزارة في أكثر من بلد وفي أكثر من وقت..

عبد الكريم برشيد: تماماً..

أحمد الزين: يعني لماذا هذا العقاب إنه يعني تُكافأ كمدير ناحية وتمنع من العرض؟

عبد الكريم برشيد: هذا كعمل إداري وأنا دائماً كنت أميّز بين أنا..

أحمد الزين: الإدارية..

عبد الكريم برشيد: الموظف أؤدي عملاً، وبين آرائي.

أحمد الزين: هل أضافت إليك تلك التجربة شيئاً يعني العمل الإداري؟ أم خسّرك؟

عبد الكريم برشيد: لم تضف إليّ شيئاً فأنا الوحيد، أقولها الوحيد من مندوبي وزارة الثقافة الذي لم يكن له بيت إداري، لم تكن له سيارة تابعة فـ..

أحمد الزين: هذه رغبتك؟ أم يعني نوعاً من الحرمان؟

عبد الكريم برشيد: نوع من الحرمان، وكانت في نفس الوقت رغبة حتى لا أضطر في أي وقت ليقولوا لي هات مفاتيح السيارة وهات البيت وتفضل من غير مطرود.

أحمد الزين: لقد بحثت عن اللغة الفردوسية فوجدت أن جان جاك روسو قد سبقني إلى ذلك، تماماً كما سبقني إلى الاحتفالية وإلى العيدية المسرحية، لقد بحث عن لغة بدون خطاب، كلام بدون جملة، بدون تركيب، بدون أجزاء، بدون قواعد نحوية، لغة ذات تدفق خالص، وعن هذا التدفق الخالص عشت حياتي أبحث، لقد آمنت بأن أصدق الكلمات والعبارات هي التي تتدفق من الوجدان، وهي التي تكون فيضاً نفسياً وذهنياً وروحياً.

أحمد الزين: ذلك الولد الذي كنت، خرج من رحمٍ مظلمٍ إلى رحمٍ مضاءٍ، وكان مشدوداً إلى عالمه الأول بحبل، وقُطع ذلك الحبل، قطعته امرأةٌ تُسمى العامرية، ورأيت النور لأول مرة فأغمضت عيني، وأرعبني هذا العالم فصرخت، وكانت تلك الصرخة بداية الاحتجاج وعتبة التمرد والهروب إلى الأمام، لم أفكر في الرجوع من حيث أتيت ولا في التراجع، وأغواني هذا الحضور فقبلته وأقبلت عليه، واعتبرته نضالاً ضد الغياب وضد المجهول وضد اللاشيء، وضد اللاأحد، ومع الأيام تيقنت واقتنعت بأن الأجمل والأكمل هو ما سوف يأتي وما سوف يكون، وإنني حتى الآن ما زلت أنتظر هذا الأجمل وذلك الأكمل. تقول يعني أيضاً هيك في سياق ما كتبت: الأيام تكتب وتمحو. تعد وتخلف.

يعني ماذا عن علاقتك بالزمن وأنت الذي خاطبك النفري مرة وقال لك: عليك أن تتعوّد الانصراف أيضاً، وليس الإقبال دائماً؟

عبد الكريم برشيد: فعلاً الزمن صيرورة.. صيرورة مياهٌ تجري، وشخصية من شخصياتي وهو شخصية غموض في مسرحية عطيل والخيل والبارود، يسأله عطيل: من أنت؟ فيقول: أنا نهر دائم الجريان. أنا من كنته بالأمس ثمّ اختفى. أنا من أكون الآن ومن سوف أكون. فالإنسان حالاتٌ من الوجود، حالاتٌ غضب، حالاتٌ انشراح، حالاتٌ وجد، حالاتٌ هذه..

أحمد الزين: حزن حالاتٌ فرح..

عبد الكريم برشيد: حالات فرح حالات غضب، هذا الكمّ الهائل المتداخل كيمياء الحالات هو ما يصنع الإنسان، والقابض على الحالة كالقابض على الجمر، والقابض على الهواء وعلى الفراغ، وبذلك..

أحمد الزين: وأنت قلت مرة أن الزمن يشبه السيف ربما إذا لم تمسكه من المقبض..

عبد الكريم برشيد: تماماً إذا لم تمسكه من المقبض يجرح..

أحمد الزين: يجرح اليد..

عبد الكريم برشيد: تماماً، فكل الأشياء لها مقابض، وتعرف من أين تقبضها، وبذلك فأنا أؤمن بأن كل شيء صيرورة وأن الأساس هو التغيّر، والكائن الإنساني هو محرِّك ومتحرك، وهو مغير ومتغير، والذين لا يتغيرون هم الأحجار الصمّاء، والإنسان في الواقع يتغير.

أحمد الزين: على سيرة الزمن أيضاً من جملة الأشياء التي تخشاها هي تكات الساعة..

عبد الكريم برشيد: تماماً.. تماماً..

أحمد الزين: وتقول أنها ربما تخرّب عليك شطحات الخيال.

عبد الكريم برشيد: تماماً.. أنا شخصياً أخاف.. يقلقني بما يسمى Monotony التكرار يقلق..

أحمد الزين: ويقلق مثل صوت الساعة قلق، وهذه اسمها بالإنكليزي..

عبد الكريم برشيد: تماماً هي تعمل طق طاق يمكن..

أحمد الزين: كان أفضل..

عبد الكريم برشيد: كان أفضل أما أن تكرر نفس الدقة..

أحمد الزين: مونيتور..

عبد الكريم برشيد: لملايين ملايين من الدقات شيء..

أحمد الزين: شيء لا يُحتمل..

عبد الكريم برشيد: لا يُحتمل، تصور أن حتى الآن عندما نقول لا جديد تحت الشمس، ولكن الإحساس بالشمس هو المتجدد.

أحمد الزين: واستهوتني لعبة المحاكاة أو الانعكاس وكان الغدير الصافي يضاعفني ويجعل من وجهي وجهين، وكنت أصرخ في البيت الفارغ فأسمع صوتي يتكرر، ووقفت أمام المرآة فوجدتني أتعدد ويكون الأنا في مواجهة الآخر، وظهر وجهي سليماً في المرايا السليمة، ومكسراً في المرايا المكسرة، وأخبروني بأن الأجساد تتمدد بحرارة الحياة وتتقلص ببرودة الموت، وبأن الأصوات تتكرر وتتردد بالفراغ وبالخواء، وبأن الوجوه تتعدد بالأقنعة وتتجدد بها، وبأن الأجساد تختلف بالأزياء أكثر مما تختلف بأيّ شيء آخر، واكتشفت المسرح وعلمت أنه الإيهام الذي يكشف الزيف ويفضحه.

أحمد الزين: مارست هيك في بدايات حياتك هواية التصوير يعني كنت ربما تزهو عندما ترى نفسك في بركة ماء، أو تتساءل أمام المرآة، أو تنشرح قليلاً أمام الكاميرا، يعني ماذا تعني لك الصورة؟

عبد الكريم برشيد: من خلال الصورة أعشق فعل التصوير، أفعل ذلك حتى في مسرحي، لا أؤكد على الأشياء في كينونتها ولكن في حركيتها في تشكلاتها، وبذلك في طفولتي كنت معجباً بكل أرباب المهن، فأراقب البنائين وأرى كيف يصعد هذا البناء، أراقب أيّ صانع وأُعجب كيف أن الأشياء تنتقل من بنيتها الأولية ومن مادتها الأولى..

أحمد الزين: نحو التكامل..

عبد الكريم برشيد: إلى تكاملها، وبالتالي فما يعجبني في الصور هي حركيتها، ولذلك أتأمل الطبيعة غروباً وشروقاً وأزهاراً كيف تتفتح..

أحمد الزين: حتى عن المرآة يعني، المرآة تتكرر كثيراً في التجربة عندك يعني، ما سر هذه المرآة؟

عبد الكريم برشيد: المرآة أنا دائماً أتحدث في مسرحي قائمة على أساس الحقيقة والصورة، أو الحقيقة والوهم، الجسد والظل، الصوت والصدى، وبذلك فأحاول أن أرى كيف يتعدد أو تتعدد الذوات، ولذلك في الأسطورة اليونانية سنجد نرجس المعجب بذاته بجماله الذي يتأمل جماله في الغدير، وبقي مشدوهاً إلى صورته، حتى انقلب في الماء، ونبتت تلك الوردة التي هي النرجس، في مسرحيتي الدجال والقيامة الذي شخصية نرجس، ونرجس دائماً تتأمل صورتها في حوض الماء، وتقول ليس حباً في جمالي ولكن عشقاً للجمال ولصانع هذا الجمال، ولذلك المرآة هي أننا نعشق فيها ليس ذواتنا، ولكن الخلق والخالق والطبيعة..

أحمد الزين: والجمال الذي ينعكس فيه..

عبد الكريم برشيد: والجمال الذي ينعكس فيها تماماً.

أحمد الزين: أيضاً تتحدث كثيراً عن الأقنعة، يعني هل تشعر أحياناً بينك وبين نفسك أنك غير الذي أنت عليه.

عبد الكريم برشيد: لذلك أقول بأن المسرح أكثر حقيقة من الواقع اليوم، أقول في الحياة اليومية نحن جميعاً نمثل، وما هذه الحياة التي نحياها في المصنع وفي المعمل وفي الإدارة و..

أحمد الزين: أدوار..

عبد الكريم برشيد: كلها أدوار، القاضي دور، المعلم دور، المحامي دور، الحاكم دور، ولكن عندما يتعرى الإنسان أمام المرآة، ولعبد الغفار مكاوي مسرحية ثوب الإمبراطور فيقول لخيّاطه أن يهيّئ له ثوباً لم يلبس أحدٌ مثله، فيوهمه بوجود ثوبٍ وهو في الواقع لا وجود لأي ثوب، فيكون الإمبراطور عارياً، ولكن بطانته تبدي إعجابها وتقول يا الله ما هذا الزي، فهذا.. إلا طفلٌ صغيرٌ يقول: الإمبراطور عريان، هو الوحيد الذي..

أحمد الزين: قال الحقيقة..

عبد الكريم برشيد: قال الحقيقة.. فكذلك قصة جحا الذي أراد أن يبيع بيته ودخل بيته وتعرى ومارس جنونه، وخرج للناس وقال لهم: هل رأيتم ماذا فعلت؟ فقالوا: لا، فقال لا أبيع بيتاً أستطيع أن..

أحمد الزين: أن أتعرى فيه..

عبد الكريم برشيد: أتعرى فيه وأن أمارس فيه جنوني، فكل.. بعض الحيوانات أو بعض الطيور لها قوقعات، الإنسان أيضاً له زي هو قوقعته، له بيته الذي يمارس فيه، ويختبئ فيه ليمارس فيه جنونه، ولذلك المسرح..

أحمد الزين: ولذلك تقول على لسان بعض الشخصيات أيضاً الصعاليك يجب أن تعرف يا سيدي بأنني رجلٌ متشردٌ وصعلوك، هذا هو مظهري، ولكنني أحمل بداخلي روح السلاطين والقياصرة، تلك هي حقيقتي.

عبد الكريم برشيد: تماماً هذا في مسرحية مشاهدات صعلوك، صعلوك أمام الناس، أمام المجتمع فقير ولكنه غني بشهامته بروحه، وما أكثر الأغنياء مادياً ولكنهم فقراء بروحهم..

أحمد الزين: بكرامتهم..

عبد الكريم برشيد: ولديّ شخصية جحا، جحا في المسرحية تحمل اسم جحا في الرحا تقول: أنا الذي رأيت.. رأيت الحمق سيد الأخلاق في زمن بلا أخلاق، فتحامقت وقلت أنا إذا كان هو تحامق فأنا لم أتحامق، تحامق ليقول الحقيقة.

أحمد الزين: أيضاً يعني صعلوك من الصعاليك اللي تحبهم أنت يقول:أنا دائماً أتشبث برأيي خاصة إذا تأكدت من عدم صحته، من يشبه هذا الصعلوك؟

عبد الكريم برشيد: هو رغبة في.. على الأقل الإنسان يمارس نرجسيته وليس هناك فنان بدون نرجسية وهذا حقه، فحق الإنسان أن يتشبث برأيه، أن يعرف أنه على حقيقة، ولذلك هذا الصعلوك وربما هو نوعٌ من الاستفزاز.. استفزاز للمجتمع.

أحمد الزين: إنني أشبه مسرحي ويهمني أن يشبهني هذا المسرح وأن يكون في خطوطه العامة والعريضة وفياً لرؤيتي، ولكن شخصيات المسرحية والتي هي كائنات نارية وزئبقية، تشبه من؟ الشيء الأكيد أنها لا تشبه إلا نفسها، عبد الكريم برشيد فيما لو أردنا التعرف عليه بشكل أدقّ وأعمق قد يكون ذلك يسيراً في نصه المسرحي، فمن السهل العثور عليه كاتباً ومنظراً في أعماله وفي شخصياته وفي دراساته ومواقفه أكثر مما يستشفه الزائر في لقاءٍ وحوارٍ معه، فالهدوء الذي هو عليه لا يوحي بالرجل الاحتفالي أو بالرجل المتمرد أو المشاكس، فمندوب وزارة الثقافة سابقاً والذي شغل هذه المهمة لسنواتٍ في أنحاء مدن المغرب لم تروضه الوظيفة ولم تغريه مكتسباتها وتحوله إلى شخصيةٍ روتينية، بل بقي على مسافةٍ من مغرياتها ليحافظ على هامشه الإبداعي الذي يمثل منصته الأخيرة، الهامش الذي يتيح له حق الاختلاف هو المرآة التي يعكس عليها أفكاره مجسدةً في شخصيات لها بعدها الثقافي والتاريخي والإنساني، كذلك المغرب في عمقه التاريخي والحضاري لا بد أن يشكل في تنوعه روافد وفضاءات وأسئلة بالنسبة للمشتغل في الكتابة الإبداعية والفكرية.طيب في السياق ذاته أستاذ عبد الكريم تعدد هذه الأمكنة يعني بين مراكش وبين الشمال والجنوب ومدن التاريخ ومدن الساحل ومدن.. والعمق الجزائري، يعني ماذا أضافت إليك يعني؟ ماذا نوّعت في الفكر عندك؟

عبد الكريم برشيد: في الواقع هذا التجوّل في المكان جعلني أكون وأقول دائماً أنا مواطن كوني.

أحمد الزين: طيب أستاذ عبد الكريم يعني هالمكان المغربي المثقل بالتاريخ والحضارة والتنوع يعني شو قراءتك له الآن يعني قراءتك المعاصرة لهالمكان هيك الطاغي بحضوره التاريخي؟

عبد الكريم برشيد: معروف عن المغرب هو متعدد، هو هذا الواحد المتعدد، فتاريخياً كانت له عواصم، كانت هناك وجدة مدينة عاصمة لزيد بن عطية، كانت هناك مدينة فاس عاصمة الأدارسة، عاصمة المرينيين، عاصمة العلويين، كانت هناك مدينة المكناس عاصمة المولى إسماعيل، الرباط عاصمة مراكش، ولذلك ستجد أن..

أحمد الزين: توضيحاً للسؤال أكثر أن هل المكان.. تشعر أن المكان أكبر من الكاتب أحياناً يعني حضوره؟

عبد الكريم برشيد: تماماً أنا مؤخراً قلت بأن.. تحدثت عن عبقرية المكان، فليس فقط العبقرية خاصية للإنسان، ولكن هناك أمكنة عبقرية، قلت بيروت مدينة عبقرية، القاهرة وما أدراك ما القاهرة مدينة عبقرية، بغداد مدينة عبقرية، فاس مدينة عبقرية، هناك مدن تتنسم فيها الإبداع، وأيضاً هناك مراحل تاريخية للإبداع، مصر الستينات، مصر أوائل القرن، مصر العقاد وطه حسين والزيات، فتجد أن مرحلة.. مرحلة عبقرية أنتجت أسماء كبيرة جداً، تجد في إنكلترا عهد الملكة اليزابيث هذه مرحلة تاريخية عبقرية، عهد لويس الرابع عشر هذه مرحلة تاريخية عبقرية، في الواقع حتى في المغرب عهد الحسن الثاني في الأغنية في الكتابة رغم الاختلاف، كان ذلك الاختلاف محرّضاً على العطاء، ولذلك المكان يوحي، اللحظة التاريخية توحي، والفضاء يوحي أيضاً بأشياء كثيرة.

أحمد الزين: إن صناعة المسرح كتابةً وإخراجاً ونقداً وتنظيراً علمتني شيئاً أساسياً ومهماً وجوهرياً وهو أن الشخصية المسرحية موجودة دائماً داخل نسيج عامٍ وفي فضاء أعمّ وأوسع، وبهذا فهي وجودان اثنان وليست وجوداً واحداً، فهي هي ولا هي في نفس الوقت، فمن جهة ينبغي أن تكون ذاتها ونفسها وأن تشبه حالها ومقامها ومقالها وآنها ومآلها، ومن جهة أخرى أن تأخذ بعين الاعتبار وجود الآخر شخصاً كان هذا الآخر أو شيئاً، فرداً أو جماعة، وجوداً حقيقياً أو معنوياً، بهذا المعنى إذن تكون الشخصية المسرحية أيّ شخصية وجوداً بين حدين متقابلين ومتداخلين حد الذات وحد الموضوع، حد الأنا وحد الآخر، فهي تختبئ في حالات الكمون وتظهر في مقامات الوضوح والتجلي.يبدو يعني من خلال الحوار ومن خلال قراءتي لبعض أعمالك يعني ربما يعني تجد في المسرح نوعاً من الخلاص يعني ..أو نوعاً من العثور على الأشياء المفتقدة في حياة الإنسان، وهل يستطيع المسرح يعني أن يساهم يعني في تحقيق ما هو مفتقد يعني على مستوى العدالة؟ على مستوى الحرية؟ على مستوى الإنسانية؟

عبد الكريم برشيد: في الواقع أنا قلت مرة أنه لولا المسرح لكنت أمام شيئين أو حتميتين الانتحار أو الجنون.

أحمد الزين: إلى هذا الحد يعني تجد المسرح خشبة للخلاص.

عبد الكريم برشيد: في الواقع عندما تبوح وعندما تعمل على تشطير هذه الذات الواحدة لتصبح ذواتاً، أن تكون أنت الواحد كل الناس فشكسبير مثلاً استطاع أن يكون هاملت وماكبيت والملك لير ويوليوس قيصر وكريولوس وروميو بمعنى تعدّد في شخصياته وبدل أن يكون واحداً كان كلّ الآخرين، وبدل أن يكون محاصَراً في مرحلة تاريخية معينة استطاع أن يصل إلينا، وأن نقول هذا كما قال ياين كوت: شكسبير معاصرنا. وكبار المبدعين وكبار الكتّاب يحافظون على هذه المعاصرة، فأنا أرى أن ابن خلدون مثلاً أكثر معاصرة من ملايين فقهاء المسلمين والعرب حالياً، لأنه أكثر قرباً من الواقع ومن الحقيقة.

أحمد الزين: أستاذ عبد الكريم طبعاً أنت الآن يعني أصبحت جداً لديك أحفاد وأولاد..

عبد الكريم برشيد: الحمد لله..

أحمد الزين: ولكن هل تشعر أن الطفل الذي كنته ما زال يشاغب في جسد عبد الكريم؟

عبد الكريم برشيد: أنا طفل وُجد خطأً في جسد رجل، ولديّ في مسرحية ابن الرومي.. في اسمع يا عبد السميع، عبد السميع هو طفلٌ لا يرغب في أن يشيخ، وأنا أقول لست مجنوناً حتى أشيخ.

أحمد الزين: الله.

عبد الكريم برشيد: فالشيخوخة.. من البلادة أن يشيخ الإنسان، ومن البلادة أيضاً أن يموت إلا إذا قتلته الطبيعة أما أن يموت عشقاً أو حباً أو بإرادة، فمرة سئلت: كيف تريد أن تموت؟ فقلت: ومن أدراك بأنني أريد أن أموت.

أحمد الزين: نعم، ألا يعني.. ما بتلاحظ أنه فيك كثير من صفاءات المتصوف، وما زلت أعجب كيف أن هذه الصفاءات تعددت في حوارات وفي مسرح، ولكن على ما يبدو أنت موجود في كل شخصية كتبتها من تلك المسرحيات.

عبد الكريم برشيد: في الواقع ستجد شخصياتي هي من ابن الرومي الشخصية المقهورة العاشقة للجمال إلى عنترة العبد، إلى فوست، إلى إيكاروس الذي صنع أجنحة وأراد أن يطير وأن يصل إلى الشمس، إلى السندباد البحري ورحلاته السبع، إلى الحلاج الذي قال: أنا الحق، ولكن عندما عُذب وأحس بالألم، الألم أرجعه إلى إنسانيته، وقال أنا أتألم إذن أنا إنسان، لست الله ولست الحق، أنا إنسان لأنني أتعذب، وأجمل ما أعطى الله للإنسان هو الإحساس بالعذاب..أحمد علي الزين، بالألم..

عبد الكريم برشيد: بالألم، والذين لا يتألمون..

أحمد الزين: لا يعرفون كيف يفرحون..

عبد الكريم برشيد: لا يعرفون كيف يفرحون، ولا قيمة للحياة، ولا قيمة للإحساس بالوجود.

أحمد الزين: عبد الكريم برشيد احتفلت به كزابلانكا هذه السنة سبتمبر عام 2004 عبر دورة المسرح الجامعي الذي حمل اسمه، "دورة عبد الكريم برشيد" وهو على ما يبدو يحتفل بسنواته وبعائلته متفرغاً لمسرحه ولنصه، مزاولاً نشاطه وتأملاته في الكتابة وبها، فكما يقول: الكتابة عندي شهوة واحتراق، وهي أيضاً سياحة وهجرة، هي وقوف الواحد أمام المرايا، وذلك من أجل أن يتعدد، أن يتطّهر، أن يتحرر، وأن يكون الرائي والرؤية، وموضوع الرؤية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق