2016-09-20

روافد مع السينمائي ميشال خليفي

إعداد وتقديم

كلما أتيت أو عبرت في هذه المدن تقع في فخ المقارنة وتُصاب بالحسرة إن كنت قادماً من بلاد وأوطان مزقتها الحروب وهدمها الاستبداد وفقدان العدالة لتبقى على هامش التاريخ في سكونيتها القاتلة، تجتّر ماض لم يبقى من إشراقاته سوى التحسر، وشعارات تعددت تحت بريقها الواهي أشكال السجون والقمع، هذا إذا كنت تمتلك حساً نقدياً حالماً بالحرية، أما إذا كنت تسعى في الوقت نفسه لتقديم أو صياغة صورة عن بلادك تشبه حلمك عنها وفيها عليك أن تمشي في حقل ألغام، كما هذا الرجل القادم من الناصرة فلسطين إلى بروكسل لصياغة صورته المشتهاة عن وطنه، عن إنسان حر يبني مجتمعاً حراً، فعلى قوله لا يمكن أن يبني المجتمعات الحرة سوى أفراد أحرار.

الفلسطيني المصدر والهوى والانتماء والبلجيكي الجنسية والإقامة، وجد جواز سفر آخر لعبور الحدود بين وطنه الأم والعالم، وهو فيلم طويل صاغه عن فلسطين بوجوه مختلفة وبأجزاء متعددة يربط بينها عشقه للبلاد، فهو يرى أن خطأ تاريخياً ارتُكب في حق وطنه وعليه الإسهام في تصحيحه ولو بمقدار "قل كلمتك الحق وامش" في هذه المدينة بروكسل التقيته فقام بدور الدليل ليس للتعرف على معالم المدينة وحسب بل القيام بجولة في الذاكرة، فاصطحبني إلى شعاب وبيوت الناصرة المكان الذي يسكنه إنساناً وقضية وإلى حكاياته مع الصورة.

إذاً السنوات الأولى من عمره مرّت في الناصرة، حيث كان يمنى عليه أن يغادر كما كل أهلها إلا بتصريح من الاحتلال، وربما هذا ما دفعه للبحث عن نافذة أخرى أو عن طريق تحمله إلى ما هو أبعد من جغرافية البلاد فكان الكتاب ممكناً للقيام في رحلة في أرجاء الأرض والمدن دون إذن أو تصريح، وكانت الصورة بسحرها الفائق نافذة أخرى، أو مطرحاً يقيم به ولو لحين مع رجل مسن كان يصطحبه وحفيدته وشلة من أطفال الحي الناصري إلى السينما لمشاهدة أفلام ذلك الزمن، وكما يروي ميشال خليفي كان يريد الخروج إلى مطارح قد يعثر فيها على إمكانات تحقيق بعض حلمه، وهو العامل الصغير في كراج لتصليح السيارات في بلدة الناصرة، ويوم قرأ ذلك الإعلان في الصحف عن طلب عمال لشركة الفولس فاكن في ألمانيا تفتّح خياله على عالم بعيد، وكما يروي أيضاً كان لديه أحد الأقرباء يقيم في بروكسل فجاءها كمحطة نحو ألمانيا، لكنها أصبحت محطة لإقامة طويلة، ولوطن ثانٍ ولحكاية مع الصورة ومع السينما.

منذ الذاكرة الخصبة الفيلم الوثائقي الأول الذي حققه عام 1980والذي اعتبره النقاد فتحاً في تاريخ السينما الوثائقية، وضع ميشال خليفي حجر الزاوية في تجربة وصفت بالجرأة والتمايز، مزج فيها ما بين الوثائقي والروائي، وكانت فلسطين هي محور أعماله، لكأنه أراد أن يوثق لذاكرة بلاده للناس وللأمكنة التي أزالها الاحتلال، ولعادات وثقافات تكاد تذهب إلى النسيان، وللذين تسنى لهم متابعة أعماله التي بعضها ممنوع من الرقابة في الكثير من البلدان العربية، يكتشف مدى خصوبة ذاكرة ميشال خليفي، ذلك الشاب الناصري الذي وظّف موهبته وثقافته في خدمة قضيته عبر سلسلة من الأفلام التي قدمت للمشاهد الغربي خاصة شهادة الحق، وصورة عن الظلم الجائر في معالجات إبداعية لحياة أهله في فلسطين أو للحياة الفلسطينية تحت رحى الاحتلال.

على أواخر الثمانينات التقيته في هذه المدينة بروكسل، المدينة لم تتغير كثيراً ولم تبدّل ملامحها حتى في إضافاتها وهذه ميزة المدن العريقة التي أنجزت حريتها، وهو أيضاً لم يتغير ولم يبدّل من رؤاه وإن بدّلت السنوات العشرين من بعض الملامح، فالزمن بالنسبة له حين يفكر به أيضاً هو فلسطين كما قال، واحتفاله الدائم بالحياة جعله أكثر قناعة بضرورة تبيان الصورة الحق، أو الإسهام في تصحيح الخطأ على قدر المستطاع، ميشال خليفي سألته آنذاك أي قبل عشرين سنة في إطار حوار صحفي هذا السؤال، إذا كان شرط الإبداع الحرية، فكيف إذا كان نص المبدع يتعلق مباشرة بالحياة اليومية للناس وتحديداً عبر السينما وفي وطن محتل وفي مناخات القمع والاضطهاد والإبعاد، قال لي آنذاك: أعمل كالذي يمشي في حقل من الألغام، وهو كذلك فقد تابع ميشال خليفي هذا المسار في حقل ألغام تعددت مصادره بعد حصار فكري آخر وتكفيري يطال المبدعين عامة، وفي كل مرة ينجو بعمل وربما كان عرس الجليل الأكثر جرأة والذاكرة الخصبة الأكثر تحدياً ومعلولا صورة على جدار المسنين وصورته دائماً هي فلسطين وطن أكثر بهاءً وحرية، هذا مشروع الحياة الذي عبّر عنه ميشال خليفي.

أعماله هي هوية بالنسبة له وجواز سفر وبطاقات بريد وعناوين ورسائل حب ومواقف وشهادات سمها ما شئت، ولكن على أرض الواقع لا بد من وثيقة تسمح للمرء أن يعبر الحدود، لا بد من جواز يبرزه على المعابر ولدى السلطات، لكن جواز السفر لا يعبر دائماً عن الهوية ولا عن الانتماء ولا عن رغبات المهاجرين والعائدين ولا عن أحلامهم، جواز السفر الحقيقي هو إنسانيتك كما قال ميشال خليفي.

كثرٌ الذين تمر أعمارهم خارج أمكنتهم الأولى ويبقى حنينهم بوصلة سلوكهم طيفاً يلاحقهم وكأن مطارحهم الأولى تسكنهم إلى الأبد وشعورهم بالغربة لا يمحوه مرور السنين، بروكسل وطن ثاني بالنسبة لميشال خليفي لكنها لم تكن البديل الدائم أبداً فلا بديل عن مطارح البدايات مهما كانت الإغراءات ومهما اتسع الفضاء، الأمر هكذا بالنسبة للكثيرين حتى لو كان الشقاء سمة الطفولة، ميشال خليفي رغم كل هذه السنوات تلتقيه مرة أخرى عابراً في هذه المدينة.

هذه الهواجس قد يستشفها المشاهد في أعمال ميشال خليفي الذي تزداد قناعاته يوماً بعد آخر بضرورة التفكر بجدوى العنف في مواجهة العنف، بين بروكسل وفلسطين تركتُ ميشال يجوجل بعض أفكاره لتكريم الناصرة بعمل يليق بالذاكرة وبالوطن فلسطين.